موقع متخصص بالشؤون الصينية

الصين واستراتيجية الرعب

0

ChinaNavy
موقع الغد الاردنية الالكتروني:
كريستوفر ر. هِل*:
منذ وقت ليس بعيداً، كانت الصين قوة ناعمة عاتية. وقد سلطت وسائل الإعلام الضوء على غزوات قادة الصين المدروسة في الخارج، ووصفت لنا صُنّاع سياسات يحترمون آراء الآخرين، وعلى استعداد للإنصات، ومتواضعين عند الوقوع في الخطأ، وكارهين للاستغناء عن المشورة المتبرع بها حين لا يطلبونها. فكانت الصين دولة راغبة في السماح لمثالها الناجح بالتحدث عن نفسه.
لكن هذه الأيام ولت. اليوم، تسمح الصين، مثلها في ذلك مثل العديد من الدول الكبرى، لمعاركها السياسية الداخلية بتشكيل الكيفية التي تتفاعل بها مع العالم، وخاصة مع البلدان المجاورة التي تبدو على استعداد تام لتجاهل حساسياتها. (مع أجراس الإنذار التي تدق في مختلف أنحاء المنطقة، يبدو “محور آسيا” الأميركي الآن حكيماً بعد أن كان موضع سخرية على نطاق واسع بسبب عرضه الأولي الأخرق وعواقبه غير المقصودة).
من المفترض أن تمارس الخبرة التاريخية لأي بلد تأثيراً بالغ القوة على سلوكها المعاصر، والصين ليست استثناء. فمنذ اتفاقيات سلام ويستفاليا في العام 1648، فهمت الدول الأوروبية، مع بعض الاستثناءات البارزة، القواعد الأساسية للعبة الدبلوماسية، وصادفت نجاحاً كبيراً في تصدير مفاهيم ويستفاليا إلى أجزاء أخرى عديدة من العالم -خاصة تلك التي تتعلق بالمساواة في السيادة بموجب القانون الدولي.
أما إرث الصين فهو مختلف. لم تكن البلدان المجاورة متساوية بقدر ما كانت دولاً تابعة. وكانت التحالفات تتم غالباً بحيث تمثل ما يزيد قليلاً على حسابات المقولة المعروفة: “عدو عدوي هو صديقي”.
اليوم، توصف الصين على نطاق واسع في جنوب شرق آسيا بأنها قوة مشاغبة لا تحترم آراء الآخرين، ناهيك عن مصالحهم. ويتجلى هذا في أوضح صوره مع البلدان المطلة على بحر الصين الجنوبي، الذي يشكل شريان الحياة البحري لجنوب شرق آسيا وجارتي الصين في الشمال الشرقي كوريا واليابان. وتسعى الصين إلى تحويل بحر الصين الجنوبي إلى بحيرة صينية جنوبية، وقد ضمت مسألة السيادة على مجموعة من الجزر الصخور المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي إلى ما تصفه بأنه مصالحها الأساسية. الواقع أن العشرات من البلدان في مختلف أنحاء العالم تتنازع على مطالب إقليمية متضاربة، وخاصة في المناطق البحرية. لكن أغلبها تحترم قاعدة متأصلة بعمق في القانون والعرف الدوليين: لا بد أن تجري المطالبات بطريقة سلمية وبالتراضي، والتأكيد أن مثل هذه المطالبات من جانب واحد تخلق التوترات وتزيد من خطر اندلاع الصراعات العنيفة -وهو ما يحدث غالباً نتيجة لسوء تقدير أو حادث.
في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، أنشأت الصين من جانب واحد منطقة تعيين الهوية لأغراض الدفاع الجوي في بحر الصين الشرقي. وفي بحر الصين الجنوبي، وضعت الصين مؤخراً نظام إخطار لصيد الأسماك. ونظراً لإصرار الصين على مطالباتها الإقليمية، فإن أحداً لا يصدق تصويرها لهذه التحركات على أنها تدابير من أجل السلامة، وإنما تُعَد جزءاً من ممارسة لامبالية لنهج “فَرِّق تَسُد” -حيث تكسب السيادة بحكم الأمر الواقع على المناطق المتنازع عليها شريحة تلو الأخرى.
من المستبعد للغاية أن يكون قادة الصين متخوفين من أن تتحقق المطالبات القديمة من البلدان في جنوب شرق آسيا مثل بروناي، أو أن تذهب مطالبات الصين في بطن التاريخ. ونظراً لمدى تشكل السياسة الخارجية الصينية بما يتفق مع ملاحقتها للإمدادات من المواد الخام على المدى البعيد -بما في ذلك احتياطات النفط والغاز الطبيعي في بحر الصين الجنوبي- هل تكون مطالبات الصين اقتصادية في طبيعتها؟
ربما، ولكن هناك تفسير آخر يبدو مقنعاً بالقدر نفسه على الأقل: التوترات السياسية الداخلية في الصين. فكثيراً ما يتحدث زعماء الصين ومفكروها الاستراتيجيون (المجموعتان اللتان لا تتداخلان دوماً) عن كراهية الصين لعدم الانضباط في الأنظمة الديمقراطية، ويؤكدون لنا أن النظام السياسي في الصين أكثر انضباطاً وحسماً منها.
لكن كل النظم السياسية لا بد أن تعالج مصالح متضاربة. وعندما تتم هذه العملية عبر قنوات غير رسمية، فإن التنافس بين الشركاء يمكن أن يتحول سريعاً إلى مشاجرة. والواقع أن المؤسسات في الصين مستنفرة ضد بعضها بعضا على نحو غير مسبوق. فالأجهزة الأمنية الداخلية تتنافس ضد المؤسسة العسكرية على الموارد والنفوذ، وكلاهما ينافس المؤسسات المدنية.
علاوة على ذلك، ليست لدى أي هيئة حكومية غالباً أدنى فكرة عما تقوم به أي هيئة حكومية أخرى. ولا بد أن تسلك عملية الفصل في المنافسة المؤسسية أحياناً كل الطريق إلى القمة، حيث يكافح زعماء الصين من أجل الحفاظ على السيطرة والتوازن.
ورغم المظاهر، فإن أجندة الرئيس شي جين بينج الإصلاحية لا تنطوي كما نتصور على رؤية شاملة للمستقبل -أو ما يطلق عليه الرئيس شي وصف “الحلم الصيني”- والتي تصلح كأداة للإبحار عبر حسابات سياسية معقدة لازمة لضمان إرضاء الجميع بالقدر الكافي لمنع الناس من التمرد. ولا يملك المرء إلا أن يتخيل كم المشاكل التي يواجهها في كل صباح.
لعل في رأس الأولويات أنه يتعين على “شي” أن يحافظ على علاقة قوية مع أجهزة الأمن والبيروقراطية العسكرية. فبدون دعم هاتين المؤسستين، لن ينجح في تنفيذ الإصلاحات التي تحتاج إليها الصين من أجل تجنب ما يسمى بفخ الدخل المتوسط. ولذل، ربما يفعل ما يتعين على أي زعيم غيره في أي مكان أن يفعل: اختيار معاركه وتحديد أولوياته. وفضلاً عن ذلك، ولأن النزعة القومية في الصين كثيراً ما تخدم كوكيل للإحباط الشعبي في مواجهة السلطات، فإن المرء يستطيع أن يرى لماذا لم تضع الحكومة، التي لا تريد أن تبوء جهودها بالفشل، الحساسيات اليابانية أو الفلبينية أو الكورية الجنوبية أو الفيتنامية على قائمة أولوياتها القصوى.
ورغم ذلك، وما لم تعمل الصين على تحسين علاقاتها بجيرانها، فإن صورتها الدولية ستستمر في التدهور. ويمكن لها أن تبدأ بانتهاج موقف أكثر احتراماً في التعامل مع رابطة دول جنوب شرق آسيا. والواقع أن إصرار زعماء الصين على خوض مفاوضات ثنائية مع البلدان الأعضاء في هذه الرابطة، بدلاً من التعامل مع الكتلة برمتها، لم يسفر عن شيء غير تأجيج المخاوف ومشاعر الاستياء في المنطقة.
لن تقطع الصين شوطاً طويلاً باعتمادها على الحجة الباطلة التي تزعم بأن الولايات المتحدة تعمل بشكل أو بآخر على إثارة العداوة ضدها، وكأن تعمد الأذى على هذا النحو من شأنه أن يفيد المصالح طويلة الأجل لأميركا التي تعاني بالفعل من وفرة من المشاكل. بدلاً من ذلك، يتعين على الصين أن تشجع تطوير الهياكل متعددة الأطراف -مرة أخرى بالبدء من رابطة دول جنوب شرق آسيا- القادرة على إدارة الفوائد الاقتصادية التي قد تحققها الأراضي المتنازع عليها. وكما يقول المثل فإن الأسوار الجيدة تضمن الجيرة الطيبة.

*مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون شرق آسيا سابقا، وعميد كلية كوربل للدراسات الدولية في جامعة دنفر حاليا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.