موقع متخصص بالشؤون الصينية

هل تصبح الصين رائدة في إنتاج “مواليد معدلين وراثيا”؟

0

160811181757_china_leading_genetic_enhancement_640x360_thinkstock_nocredit

ربما سيكون بوسعنا قريباً تعديل الحمض النووي (دي إن آيه) للبشر، لمعالجة أمراض مثل السرطان؛ ولكن هل سيقود ذلك إلى ظهور مواليد مُعدلين جِينياً للحيلولة دون إصابتهم بأمراض بعينها أو لضمان اتسامهم بصفات أو ملامح معينة؟
إذا ما حدث ذلك، فمن المتوقع أن تضطلع الصين بدور رائد في هذا الشأن؛ كما يقول جي.أوين شيفر العالم المتخصص في مجال قيم وأخلاقيات علم الأحياء.
هل ترغب في تعديل الصفات الوراثية لأطفالك المستقبليين لجعلهم أكثر ذكاءً وقوة، وربما أفضل مظهراً؟ في الوقت الذي تبدو فيه احتمالاتٌ مثل هذه قريبةً من التحقق، في ضوء وضع العلم في الوقت الحالي، يحتدم نقاشٌ على الساحة الدولية حول مدى أخلاقية الجهود الرامية لتحسين الصفات والقدرات البشرية، باستخدام “التكنولوجيا الحيوية”.
وهو مصطلح يعني استخدام تطبيقات التقنية الحديثة في معالجة الكائنات الحية، ومن بين وسائل ذلك؛ التعديل الجِيني، وما يُعرف بـ”الحبة الذكية” – وهي جهاز استشعار دقيق يمكن ابتلاعه لكي يتسنى من خلاله رصد المؤشرات الفسيولوجية المختلفة بداخل جسم المرء – وكذلك توصيل أجهزة إليكترونية مباشرةً بدماغ من يُعاني من مشكلات في الدماغ.
وقد زادت حدة هذا النقاش العام الماضي فحسب، بعد ابتكار وسيلة تقنية جديدة لتعديل الصفات الوراثية يُطلق عليها اسم “سي آر آي إس بي آر-كاس 9″، والتي زادت من الإمكانيات المخيفة للعبث بالحمض النووي للإنسان، بهدف تحسين صفاتٍ مثل الذكاء واللياقة البدنية، والقدرة على ممارسة الرياضة بشكل جيد، بل وحتى الحس الأخلاقي، وتطوره.
فهل نحن على شفا “عالم جديد شجاع” مثل ذلك الذي تناوله الكاتب ألدوس هُكسلي في روايته التي تحمل نفس الاسم، وهو عالم يقطنه بشر مُحسنين وراثياً؟
ربما يكون هذا صحيحاً. وهناك فكرة جديدة مثيرة للاهتمام في هذا الصدد بأنه من المنطقي الاعتقاد بأن أي تحولٍ مدوٍ في مجال “التحسين الوراثي” سينشأ من الصين على الأرجح، ولن يبزغ من دول غربية، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهي دول شكلت مهداً للعديد من التقنيات الحديثة.
وقد أظهرت نتائج عددٍ هائل من استطلاعات الرأي، التي جرت بين شعوب دولٍ غربية، وجود معارضة كبيرة للعديد من أنماط وأشكال تحسين القدرات البشرية بشكل مصطنع. فعلى سبيل المثال، كشفت دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث والدراسات في الولايات المتحدة وشملت 4726 أمريكياً؛ أن غالبية هؤلاء لا يريدون استخدام شرائح تُزرع في المخ من أجل تقوية ذاكرتهم.
كما تبين وجود رؤية شائعة لدى معظم من شملتهم الدراسة؛ مفادها بأن تدخلاتٍ مثل هذه غير مقبولة من الوجهة الأخلاقية.
مواليد مُعدلون جينياً
وكشف استعراضٌ أوسع نطاقاً لاستطلاعات الرأي العام؛ عن وجود معارضة كبيرة في بلدانٍ مثل ألمانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لانتقاء الأجنة التي يتم اختيارها لكي تُزرع في الأرحام، ليس على أساس حالتها الصحية، وإنما بناء على سمات مثل حسن المظهر والذكاء.
بل تبين أن هؤلاء يُبدون تأييداً أقل لعمليات التعديل الجيني، التي تستهدف على نحو مباشر، تحسين سمات بعينها لدى من يُعرفون بـ”المواليد المُعدلين جينياً أو وراثياً”.
وثمة عدد من الأسباب، التي تقف وراء معارضة البعض لتحسين قدرات البشر بوسائل اصطناعية، خاصة عبر أسلوب التحسين الوراثي. فقد أظهرت الدراسة، التي أشرنا إليها سابقاً وأجراها مركز بيو، أن هاجس الأمن والسلامة؛ كان من بين أكثر الهواجس التي راودت المستطلعة آراؤهم، وذلك تماشياً مع آراء الخبراء الذين يقولون إن العبث بالجينوم البشري، أو المجموعة الكاملة من المعلومات الوراثية الخاصة بالإنسان، ينطوي على مخاطر جمة.
وقد يتقبل المرء هذه المخاطر إذا ما كانت لأغراض علاجية، ولكن تقبله لها سيقل كثيراً إذا ما كانت البشرية ستواجهها من أجل تحسين صفات لا علاقة لها بالحالة الصحية للإنسان؛ مثل حسن مظهره أو ذكائه. كما تُثار هنا، في غالبية الأحيان، اعتراضات لدواعٍ أخلاقية؛ إذ قد يُنظر للعلماء في هذه الحالة على أنهم يحاولون “لعب دور الذات الألهية”، والتدخل في شؤون الطبيعة، التي لا يُفترض أن يُسمح لهم بالتطفل عليها.
فضلاً عن ذلك، ثمة مخاوف من إمكانية حدوث تفاوتٍ بين البشر وبعضهم البعض؛ جراء ظهور جيلٍ جديد من “البشر المُحسّنين وراثياً”، ممن يتحلون بالكثير من المزايا مقارنةً بغيرهم. وكل ذلك يُذكرنا بأن “العالم الجديد الشجاع”، الذي تحدث عنه هكسلي في روايته، كان كابوسياً تماماً، وذا سماتٍ مناقضة بالكامل لسمات المدينة الفاضلة.
رغم ذلك، فإن الدراسات واستطلاعات الرأي التي تحدثنا عنها، ركزت على توجهات مواطني دول الغرب حيال هذه المسألة، في ضوء العدد المحدود للغاية من الاستطلاعات التي جرت في هذا الشأن في البلدان غير الغربية. على أي حال، هناك بعض الأدلة التي تفيد بأن اليابانيين يتخذون موقفاً معارضاً لعمليات تحسين القدرات البشرية؛ مثلهم مثل الغربيين.
لكن الأمر يختلف في دولٍ أخرى مثل الصين والهند، إذ يتخذ المواطنون هناك موقفاً أكثر إيجابية حيال تلك العمليات. وقد يرتبط مثل هذا الموقف في الصين تحديداً، بالتقبل العام الذي كانت تلقاه أساليبٌ عتيقة لتحسين النسل، من قبيل الإجهاض الانتقائي للأجنة، التي تعاني من أمراض وراثية خطيرة.
رغم ذلك، هناك حاجة لمزيد من البحث والدراسة لإيضاح ما إذا كان هناك اختلافٌ ما بين تقبل الصينيين لهذه الوسائل العتيقة، وعدم معارضتهم للأساليب الحديثة الرامية لتحسين القدرات البشرية، أم لا. وقد حدا ذلك بـ”داريل ميسر”؛ مؤسس معهد “يوبيوس إثيكس إنيستتيوت” في نيوزيلندا، لافتراض أن آسيا ستكون في صدارة أي توسع في جهود تحسين القدرات البشرية؛ خاصة بوسائل صناعية.
وفي الوقت نفسه، يمكن القول إن العائق الأكبر في طريق جهود “التحسين الوراثي”؛ يتمثل في التشريعات واسعة النطاق التي تحظر التعديلات الجينية. وقد كشفت دراسة أُجريت مؤخراً أن دول أوروبا، وكذلك كندا وأستراليا، تشهد حظراً فعلياً لعمليات التعديل الجيني لما يُعرف بـ”الخط الجنسي” أو “الخط الإنتاشي”، وهو مصطلح يشير إلى تسلسل الخلايا ذات المواد الوراثية التي يمكن توريثها للأجيال القادمة.
أما الصين والهند ودولٌ أخرى سواها غير غربية، فلديها قواعد تنظيمية أقل صرامة بكثير بشأن هذا الأمر؛ بل إن القيود الخاصة بذلك – إن وُجِدتْ – تكون على الأغلب في صورة مبادئ إرشادية، لا تشريعات ملزمة.
ويبدو أن الولايات المتحدة تشكل استثناءً في هذا المضمار، فلا توجد فيها قوانين تُقيد التعديلات الجينية. رغم ذلك، فمن المحظور تخصيص تمويل فيدرالي للأبحاث التي تتناول إجراء التعديلات التي تطال “الخط الإنتاشي”. ويشكل هذا الحظر قيداً لا يستهان به على القيام بهذه الأبحاث، في ضوء أن غالبية علماء الوراثة يعتمدون على المنح الحكومية في الدراسات التي يجرونها.
على النقيض من ذلك، كان التمويل الذي وفرته حكومة بكين، هو ما قاد إلى أن تصبح الصين في عام 2015 أول دولة تجري تعديلات على جينات أجنة بشرية باستخدام تقنية “سي آر آي إس بي آر- كاس 9”. كما أنه كان للصين الصدارة على طريق الاستعانة بهذه التقنية، لإجراء تعديلات جينية – لا تمس “الخط الإنتاشي” – لخلايا أنسجة بشرية، بهدف الاستفادة منها في علاج مرضى السرطان.
ومن هذا المنطلق؛ هناك عاملان رئيسيان يسهمان في ازدهار تقنيات “التحسين الوراثي”؛ أولهما إجراء أبحاث لتطوير هذه التقنيات، وثانيهما الموقف الشعبي حيال تشجيع الأبحاث وعمليات التطوير هذه. وعلى هذين الصعيدين، تتخلف الدول الغربية بأشواط عن الصين.
أكثر من ذلك، ربما يلعب عاملٌ ذو طابع سياسي أكبر، دوراً في هذا الصدد. فـ”الديمقراطيات الغربية” – بحكم طبيعتها – تراعي الرأي العام الشعبي. ولذا سيصبح الساسة المنتخبون أقل حماسة على الأرجح، في ما يتصل بتمويل مشروعات مثيرة للجدل، وسيكونون أكثر ميلاً لفرض قيود عليها.
على النقيض من ذلك، تفتقر دولٌ مثل الصين لهذا النظام الديمقراطي المباشر، وهو ما يجعلها بالتبعية؛ أقل مراعاةٍ للراي العام، ويجعل بوسع مسؤوليها الاضطلاع بدور هائل في تشكيل اتجاهات الرأي العام لتتماشى مع أولويات الحكومة.
ويشمل ذلك المعارضة المحدودة لجهود “التحسين الوراثي”، إذا ما كانت موجودة من الأصل. ومع أنه يمكن القول؛ إن الأعراف الدولية تتزايد ضد هذه الجهود التي تتم عبر إجراء تعديلات جينية، فإن الصين أثبتت – على أصعدة أخرى – استعدادها لرفض مثل هذه الأعراف، في سبيل خدمة مصالحها الخاصة.
وفي واقع الأمر، فإذا ما نحينا جانباً الاعتراضات المبنية على الاعتبارات الأخلاقية وتلك المتعلقة بالسلامة؛ سنجد أن “التحسين الوراثي” ينطوي على إمكانية تحقيق مزايا كبيرة للشعب أو الأمة التي تمضي على دربه.
فمن الممكن أن يُحدِث أيُ تحسين ولو طفيف، في مستوى ذكاء مواطني هذه الأمة، عبر تعديل الجينات، تأثيراتٍ كبيرة على صعيد نموها الاقتصادي. بجانب ذلك، ثمة جينات بعينها يمكن لها أن تعطي بعض الرياضيين مزايا حاسمة في المنافسات الدولية شديدة الاحتدام. كما أنه قد يكون لجيناتٍ أخرى أثرٌ على النزعات العنيفة للإنسان، وهو ما يشير إلى أن استخدام الهندسة الوراثية قد يؤدي لتقليص معدلات الجريمة.
ورغم أن العديد من هذه الفوائد المحتملة مبنيٌ على الافتراض والتكهن، فإن التقدم العلمي والبحثي ربما يجعلها تتجسد على أرض الواقع.
فإذا ما عززت المزيد من الدراسات – بالأدلة والبراهين – صحة ما يقوله علماء عن أن بوسعنا تحسين الصفات، التي تحدثنا عنها آنفاً، عبر إجراء تعديلات جينية، فإن الصين في موقع يجعلها على أتم الاستعداد، للاضطلاع بدور ريادي في مجال تعزيز القدرات البشرية.
وهنا يثور سؤال: هل هناك أي سبب يدعو الغربيين للشعور بالقلق إزاء احتمالية أن تتبوأ الصين صدارة دول العالم في مجال التحسين الوراثي، بخلاف ذاك الهاجس الذي يستحوذ عليهم دائماً، بضرورة أن يكون لهم قصب السبق في كل المجالات؟
يمكن أن تكون الإجابة “نعم يحق لهم الشعور بالقلق”، وذلك إذا ما كان منتقدو أسلوب “التحسين الوراثي” على حق؛ فيما يتعلق بكونه أمراً غير أخلاقي أو خطير؛ أو كليهما معاً. ففي هذه الحالة، سيكون بزوغ هذا الأسلوب وازدهاره في الصين مدعاةً للقلق، لأنه يعني – من وجهة نظر هؤلاء المنتقدين – أن الشعب الصيني سيصبح عرضةً لتدخلات خطيرة ولا أخلاقية، وهو سبب كافٍ لإثارة المخاوف على الساحة الدولية.
وبالنظر إلى سجل الصين فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان على أصعدة أخرى، من المشكوك فيه أن يُحدث الضغط الدولي تأثيراً كبيراً على صعيد مسألة “التحسين الوراثي”.
في المقابل، فإن تحسين الصين لقدرات مواطنيها، قد يجعلها ذات قدرة تنافسية أكبر على الساحة الدولية. وهنا قد تنشأ أمام معارضي “التحسين الوراثي” معضلةٌ لا يحسدون عليها؛ إما رفض هذا الأسلوب والتخلف بأشواط عن ممارسيه، أو المضي على دربه والمعاناة من العواقب المادية والأخلاقية المترتبة على ذلك.
ومن وجهة نظر معاكسة يمكن القول إنه إذا كان المرء يرى أن تحسين القدرات البشرية عبر تلك الأساليب؛ أمرٌ مرغوبٌ فيه بحق؛ فمفاد ذلك ضرورة الترحيب بهذا التوجه. ومن هذا المنطلق أيضاً، يمكن اعتبار أن الحكومات الغربية تتردد بين إقدام وإحجام، وتبطئ بذلك وتيرة تحقيق تطور على طريق إحراز تقدم علمي، يمكن أن ينطوي على فوائد كبيرة للبشرية.
ويحدث ذلك في وقت تقود فيه الصين المسيرة على هذا الدرب وتمضي بها قدما. ومن ثم فإن نجاح هذه الدولة الشيوعية في زيادة قدراتها التنافسية، سيشكل بالتبعية، ضغطاً على الدول الغربية لتخفيف قيودها، وبالتالي السماح للبشرية ككل بإحراز تقدم على طريق الانتفاع من أسلوب “التحسين الوراثي”، ليصبح البشر أصحاء بشكل أكبر، وكذلك أكثر إنتاجية، وقدرة بوجه عام.
وفي كلتا الحالتين، يمثل التوجه نحو تحسين القدرات البشرية عبر وسائل من بينها التعديل الجيني؛ تطوراً مهماً. وستبين لنا الأيام ما إذا كان هذا التوجه قابلاً للاستمرار أم لا.
فهل يمكن أن تتغير توجهات الرأي العام حياله في الولايات المتحدة وغيرها من الدول؟ أم أن منابع التمويل المخصص له في الصين ستجف؟ وبغض النظر عما سيحدث في المستقبل؛ فإن الصين تبدو في الظروف الراهنة؛ الدولة التي تحمل مستقبل “التحسين الوراثي” بين يديها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.