موقع متخصص بالشؤون الصينية

العلاقات المغربية الصينية: نموذج جديد للتعاون جنوب ـ جنوب

0

موقع الصين بعيون عربية ـ

د. فاطمة لمحرحر (باحثة في الدراسات السياسية والعلاقات الدولية المعاصرةـ كلية الحقوق فاس ـ المغرب)

 

على خلاف الكثير من الدساتير في العالم التي لم تولِ مجال السياسة الخارجية إلا حيزا ضيقا مرتبطا أساسا بالمجال الاتفاقي، فإن الدستور المغربي لسنة 2011 قد توسع بشكل ملحوظ في مجال السياسة الخارجية الى الحد الذي يمكن معه القول إنه يشكل خارطة للطريق بالنسبة للفاعلين السياسيين. فقد توخى وضع التوجهات الاساسية لتفاعل المغرب مع محيطه الخارجي انطلاقا من الممارسة التي ميزت الدبلوماسية المغربية منذ الاستقلال. وقد عملت الدبلوماسية المغربية في السنوات الأخيرة إلى تكييف سياستها وسلم وأولوياتها بشكل مستمر وبتوافق مع التحولات التي تحتمها المتغيرات السياسية والاقتصادية في العالم، وأيضا توسيع دائرة جغرافية المصالح اعتمادا على علاقات إقليمية متنوعة وشراكة مع البلدان المختلفة في القارات الخمس.

تعتبر العلاقات المغربية الصينية التي برزت ملامحها منذ سنة 1959، والتي لم تلبث ان شهدت ديناميكية هامة سنة 2005، نموذجا للعلاقات الثنائية المضطردة النمو بين دولتين. ويعزى ذلك إلى انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، وهو ما دفع بالصين إلى الدخول بقوة إلى الأسواق العالمية بشكل أثّر مباشرة في طبيعة وكثافة وجغرافية التجارة العالمية وأصبحت الصين في العشرية الأخيرة ثالث ممون للمغرب. وتمثل الصين سوقا كبيرا للاستكشاف خاصة في ظل التوجه الاستهلاكي المتصاعد للسكان، مما يفتح افاقا واعدة لولوج هذه السوق لا سيما في المجال السياحي، حيث يصل معدل نمو المبادلات التجارية بين البلدين سنويا 30 في المائة. إذ نلاحظ أن حجم الاقتصاد الصيني تجاوز نظيره الامريكي منذ عام 2014، ليصبح اكبر اقتصادات العالم، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي للناتج المحلي الاجمالي لدول العالم، مقومة وفقا لمنهجية تعادل القوة الشرائية التي تتيح قدرة أفضل وأكثر موضوعية على القياس المقارن للناتج المحلي الاجمالي من منهجية تقويم الناتج المحلي الجمالي، وفقا للأسعار الصرف الاسمية. مما يؤهل الصين في المستقبل المنظور لان تتقدم على الممونين التقليديين للمغرب كفرنسا واسبانيا.

والجدير بالذكر، أن تعميق العلاقات بين المغرب والصين وأهميتها وضرورة تنميتها أصبحت تمثل ثوابت السياسة الخارجية لكلا البلدين، لان كلاهما سعيان لأجل تكريس التنويع الجغرافي للدبلوماسية، وهو ما أكدت عليه الزيارة الملكية الاخيرة إلى جمهورية الصين الشعبية، وقد تميزت هذه الزيارة بتوقيع الاعلان المشترك المتعلق بإقامة شراكة استراتيجية بين البلدين، إذ تصبو المملكة عبر هذه الشراكة إلى ان تكون علاقاتها مع الصين أساسا للتأثير الايجابي في التنمية الاقليمية والجهوية. واستثمار موقعها كرافد لهذا الطموح وهذا البعد الاستراتيجي المشترك. كما ان التفاعل بين الحضارة المغربية ونظيرتها الصينية ليس بجديد بل هو قائم منذ فجر التاريخ، عند رجوعنا للتبادلات على مر العصور بين المغرب والصين نجد ان الرحالة المغربي ابن بطوطة (1304-1377)، سافر إلى الصين في القرن الرابع عشر الميلادي، حيث عاش لمدة ثلاث سنوات في الصين ليعود بعدها ويعرف المغرب والعالم العربي والاسلامي بحضارة الصين العظيمة. وفي هذا الاطار احتفل المغرب والصين من خلال معرض مشترك للصور بالعاصمة بكين، بتاريخ طويل من التعارف والتبادل الثقافي يمتد للأزيد من الف سنة، فضلا عن ابراز ملامح متعددة من غنى وتنوع الموروث الثقافي والحضاري للمغرب والصين.

مما سبقت الاشارة اليه يتبادر إلى ذهننا مجموعة من التساؤلات حول العلاقات المغربية الصينية: هل تستطيع هذه العلاقات ارساء نموذج للتعاون جنوب- جنوب فعال وتضامني متعدد الابعاد وقائم على شراكة مربحة؟ ثم هل للمغرب استراتيجية لتطوير هذه الشراكة؟ وما هي الأولويات الجديدة للعلاقات المغربية الصينية؟ وسنحاول الاجابة عن ذلك في هذه الورقة من خلال المحاور لمحورين التالية:

أولا: المغرب والصين شراكة استراتيجية   

أ: المغرب والصين علاقات واعدة

ب: التعاون المغربي-الصيني على طريق الحرير الجديد

ثانيا: العلاقات الثقافية أساس لبناء علاقات أكثر قوة

أ: المغرب والصين ألف سنة من التبادل الثقافي

ب: الحوار الحضاري بين المغرب والصين

 

 

 

أولا: المغرب والصين شراكة استراتيجية ذات افاق مستقبلية

ينخرط المغرب والصين، المرتبطان بعلاقات تاريخية ما فتئت تعزز على مر السنوات، بشكل كامل في تطوير التعاون جنوب- جنوب والشراكة المربحة للطرفين. باعتبارهما محركي السياسات الافريقية للبلدين. فالمغرب والصين، ووعيا منهما بأن افريقيا تستحق اليوم شراكات لتعاون منصف، أكثر من حاجتها لعلاقات مختلة التوازن يصحبها دعم مشروط (1). إن اختيار المغرب الاستراتيجي القائم على تنويع شركائه يتأكد من جديد خلال الزيارة الرسمية التي قام بها الملك السادس للصين الشعبية وقد مكنت هذه الزيارة من تمتين العلاقات السياسية بين البلدين، القائمة على مبادئ الصداقة والتفاهم والتضامن والإرادة المشتركة لتنويع مجالات التعاون الثنائي. ويرجع الاهتمام المتزايد للصين بالمغرب، إلى المرجعيات السياسية الجديدة لتوجهات سياستها الخارجية عموما والعربية والافريقية على وجه الخصوص التي أقرها الحزب الشيوعي الصيني في ظل قيادته الجديدة التي أسست لرؤية استراتيجية جديدة للصين كقوة دولية عظمى تحظى بمكانة أساسية في العلاقات الدولية وفي النظام الدولي الجديد، وهي الاستراتيجية التي تعتمدها الحكومة الصينية رسميا في مجال السياسة الخارجية (2).

وفي هذا الصدد فإن العلاقات المغربية الصينية تركز على خلفية تاريخية تمتد عبر ما يزيد عن الفيتين من الزمن حيث شكل طريق الحرير القديم جسرا للتواصل التجاري والثقافي بين المغرب والصين، وزاد زخم هذه العلاقات حديثا وبخاصة منذ طرح القيادة الصينية فكرة إنشاء طريق الحرير الجديد.

ولعل منتدى التعاون الصيني الافريقي الذي يجتمع كل ثلاث سنوات، بين رؤساء الدول والحكومات الافريقية والصينية، يعتبر خطوة ذات أهمية بالغة نحو مأسسة الحوار والتعاون بين الصين وافريقيا، حيث عقد دورته الرابعة في نوفمبر 2009 بشرم السيخ بمصر. ونظرا لنجاح هذه المبادرة، فقد أطلقت الصين مبادرة اخرى تجاه العالم العربي منذ سنة 2004 أسمتها بالمنتدى الصيني العربي (3) تهدف من وراءه إلى تكثيف الدبلوماسية الثنائية – الجماعية مع دول المنطقة خصوصا ان مثل هذه المنتديات تعد مجالا واسعا وأن مثل هذه المنتديات تعد مجالا لتوسيع النفوذ الصيني بأقل تكلفة بالنظر إلى تكثيف وتركيز أكبر عدد ممكن من الدول ضمن هيأة موحدة ومؤسسة.

 

أ: المغرب والصين علاقات واعدة

الحروب في القرن الجاري رغم زلزلة الثلاثاء الامريكي ل11 شتنبر 2009 ، لن تكون حروبا عسكرية بالمعنى التقليدي، بقدر ما هي حروب معلوماتية وتقنية كما انها لن تكون محصورة على الدولة، بل ستصبح بين مؤسسات اقتصادية عملاقة لا تعرف حدودا ولا مراكز. فخلال نصف القرن الماضي انتقل العالم من كونه عالما اقتصاديا أحادي، ممثلا بأمريكا، واستراتيجيا منذ انفراط العقد السوفيتي في 1991. إلى عالم ذي أقطاب ثلاثة (اليابان، الاتحاد الاوروبي، وأمريكا) (4) في حين أنه للمرة الاولى في التاريخ المعاصر بزغ نمر حقيقي في الشرق، هو اليابان كند على قدم المساواة، إلى جانب نمور وأشبال اسيوية برزت منذ أربعة عقود. يتعلق الامر بالصين التي قال عنها الامبراطور الفرنسي نابليون بونابرت:” الصين مارد نائم، فدعوه نائما، لأنه إذا استيقظ هز العالم.” وبسبب التاريخ المتابين، والمعطيات الراهنة، فإن هذه القوى الاسيوية الحاملة على الاقل لمعجزات اقتصادية بهرت العقول، بخلاف الفشل الذريع الذي حاق بالمحاولات التنموية الافريقية المتعثرة، باستثناء جنوب افريقيا. حيث لازالت اسيا تساهم في تطعيم المبادرة السياسية والاقتصادية، وذلك في ظل المنافسة التي تعرفها القوى الرأسمالية خلال العشرية الاولى للقرن الحادي والعشرين ومعه الالفية الثالثة (5). إن الحديث عن السياسة المغربية- الصينية هو حديث عن بلد صغير هو جدا هو المغرب بموقعه الاطلسي والمتوسطي،بانتمائه الافريقي. العربي والاسلامي، وذلك في علاقته بامتداد قاري كبير هو القارة الاسيوية.ففي اسيا القارة التي انتقل إليها مشعل التطور العالمي بعد الخمسينيات من القرن الماضي مع انطلاق موجة الاستقلالات الاسيوية التي بدأت باستقلال الهند عن التاج البريطاني في 15 غشت 1947، والتي تبعها مباشرة في نفس اليوم انفصال باكستان، إندونيسيا عن هولندا، وكوريا سنة 1945 عن اليابان قبل الحرب الكورية لسنوات 1950-1953 وغيرها. حتى اعتبر عقد الخمسينات من القرن العشرين عقد اسيا والذي لم يطل على افريقيا إلا في الستينات (6). حيث تزايدت القوة الصينية منذ رحيل ماو تسي تونغ سنة 1976، والاصلاحات الكبرى التي قادها الراحل دان سياو بينغ ابتداء من دجنبر 1978 تحت شعار اقتصاد السوق الاشتراكي، والتي يشبهها كثير من المتخصصين في الشؤون الاسيوية بإصلاحات الميجي في اليابان بين سنوات 1868 و1912.

أثار هذا الصعود الصيني السريع في العديد من هياكل القوة الدولية توقعات عديدة بتحول الصين إلى قطب دولي خلال المدى القريب، وربما إلى قائد دولي في الامد البعيد، وربما لا يتجاوز نهاية القرن الحالي. بل ذهب البعض إلى افتراض أنه في ظل صعود القوة الصينية، ونزعات المراجعة الدولية والاقليمية لدى العديد من القوى الرئيسية، وإخفاق القيادة الامريكية للنظام العالمي، أو -على الاقل- هشاشتها، فإن العالم بات يشهد بالفعل إرهاصات حقبة تعددية قطبية، لا تقتصر فقط على المجال الاقتصادي، بل تمتد كذلك إلى الفضاء ين السياسي-العسكري، والمعرفي.

بدأت العلاقات المغربية الصينية على نحو ملحوظ منذ خمس عقود، وفي هذا الاطار الزمني يمكن التمييز بين ثلاث مراحل رئيسية. ابتداء نشأت العلاقة بمجرد حصول المغرب على الاستقلال، يعقب استرداد الصين لمقعدها الدائم في مجلس الامن ابتداء من عام 1971 إلى جانب بروز مشكلة الصحراء منذ عام 1975 هذه العوامل ساهمت في التقليل من أهمية العلاقات المغربية الصينية، الامر الذي أدى إلى تراجعها، ثم تأتي المرحلة الاخيرة لتشمل فترة  ما بعد نهاية الخرب الباردة ومعه أصبحت العلاقات المغربية الصينية قائمة على مقتربات أكثر نفعية من السابق. ويمكن اعتبار الفترة التي سبقت حصول المغرب على استقلاله بمثابة المرحلة الاولى من بناء وتقوية العلاقات المغربية الصينية. فمنذ مولد جمهورية الصين الشعبية حتى إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، اقتصرت علاقات البلدين على الدعم المتبادل والعلاقات الودية بين الشعوب والتي كافحت ضد الاستعمار وقد اتاحت مؤتمر باندونغ الفرصة الاولى لإجراء مشاورات ثنائية مغربية صينية. مع بداية التسعينات، انطلقت مرحلة جديدة من تطور العلاقات المغربية الصينية، ومعها أصبح المغرب يتبوأ موضعا حيويا في أجندة الزيارة الخارجية للمسئولين الصينيين، وقد أرست هذه الزيارات مبادئ وأسس السياسة الصينية اتجاه المغرب.  حيث شكل دعم روابط التعاون مع دول الجنوب دائما مركزا مهما في الخيارات الاقتصادية للمغرب، في إطار خلق توازن في علاقاته مع الاقتصاديات الصناعية. فالعلاقات المغربية الصينية تعتبر نموذجا للتعاون جنوب- جنوب، إذ أن تطوير العلاقات مع الصين يكتسب أهمية كبيرة بالنسبة للمغرب، الذي يتطلع لتعزيز التعاون مع هذا البلد الآسيوي خاصة في مجالات البنية التحتية والزراعة والخدمات والثقافة وغيرها، والقيام بدور الوسيط في التعاون الصيني اتجاه إفريقيا وأوروبا.

لا تزال الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الصيني “هو جين طاو” في ابريل 2006 إلى المغرب، تشكل مرجعية للعلاقات الثنائية المتعددة الأبعاد بين البلدين. حيث لازالت الاتفاقيات السبع للتعاون الثنائي التي أبرمت انذاك في مجال السياحة والصحة والثقافة والاقتصاد والأشغال العمومية والبحث العلمي والتجارة تؤطر العلاقات المغربية الصينية، معتمدة على الاقتراحات الثلاث التي قدمها الرئيس الصيني خلال زيارته للمغرب والتي من شأنها تدعيم أواصر التعاون الثنائي بين البلدين في المستقبل.

وفي نفس السياق صرح الوزير الصيني “وانغ بي” خلال الاجتماع الوزاري السادس لمنتدى التعاون الصيني العربي سنة 2014، إن الدول العربية قوى مهمة يزداد دورها باستمرار في عملية تعددية الأقطاب في العالم، أن تعزيز الصداقة والتعاون يعد أساسا للدبلوماسية الصينية، كما ان تصاعد القوة الشاملة للصين هو تصاعد في قوى السلام ويساهم في حماية الحقوق والمصالح المشروعة للدول النامية بشكل أفضل.

كما أضاف الوزير الصيني قائلا أن الصداقة بين الصين والمغرب تضرب جذورها في أعماق التاريخ، وأن الجانب الصيني على استعداد للعمل مع الجانب المغربي على تسريع تنفيذ توافق قيادتي البلدين حول إقامة علاقات الشراكة الاستراتيجية بينهما، وتجسيد هذه الشراكة في كافة مجالات التعاون الاستراتيجي. كما أكد الوزير الصيني خلال هذا الاجتماع على أن الصين يهتم بميزة جغرافية المغرب ويستعد لتشجيع ودعم قيام الشركات الصينية بمزاولة الأعمال والاستثمار في المغرب من خلال المشاركة الفعالة في المشاريع الكبرى التي تشمل القطارات الفائقة السرعة والطرق والموانئ والمطارات وغيرها، مع الأمل في أن يوفر الجانب المغربي بيئة استثمارية أكثر جاذبية وتسهيلات للشركات الصينية. بعد الخليج العربي وإفريقيا والولايات المتحدة والاتفاقات المتعددة مع الاتحاد الأوروبي يأتي دور الصين للاستكمال رؤية المغرب في الانفتاح على دول العالم تعزيزا لنموذجه في شمال إفريقيا والعالم العربي. حيث دشنت الصين إصلاحات اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية مع الرئيس ” دينغ هيساو بينغ”، كما أن المغرب بدوره يشهد طفرة في البنية التحتية من طرق وموانئ على رأسها ميناء طنجة المتوسطي، إذ تعمل المملكة على توفير المجال على توفير المجال الأمثل للاستضافة الاستثمارات الخارجية لتعزيز وضع المغرب الاعتباري على المستوى القاري والدولي. وفي ذات السياق جاء انفتاح المغرب على الصين وتطوير العلاقات بينهما لبناء قيمة مضافة منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما قبل أكثر من 50 سنة. يمكن اعتبار تلك العلاقات تمرة المجهودات الدبلوماسية للدولة المغربية في الاستفادة من العملاق الصيني ذي القوة النموذجية. حيث تتبوأ الصين اليوم دورا رياديا في بناء عقيدة التعاون جنوب-جنوب، انطلاقا من رصد جزء هام من توجهاتها الاقتصادية نحو دول افريقيا والشرق الاوسط ومحيطها الاسيوي. وفي هذا الاطار كانت نقطة التحول الاولى في علاقات الصين بإقليمها الاسيوي هي أحداث “ميدان السلام السماوي” التي وقعت في الصين في يونيو 1989، ففي هذا الشهر ملأت المظاهرات الطلابية أكبر ميادين الصين مطالبة بالديمقراطية وبمزيد من الاحترام للحقوق السياسية. وقد حظيت هذه المظاهرات بتأييد ومساندة كبيرين ليس فقط في الولايات المتحدة الامريكية والغرب، بل كذلك في الاتحاد السوفياتي المتاخم للصين، والذي كانت قيادته الجديدة ممثلة في ميخائل جورباتشوف، قد رفعت شعار الانفتاح السياسي في ثمانينات القرن الماضي. غير أن القيادة الصينية سارعت باتخاذ قرار المواجهة العنيفة مع المتمردين، وقد كانت الاحداث مناسبة تماما لمن ارادوا الترويج وقتها لمقولة الخطر الصيني. وكان من المنتظر أن يبدأ الجيران الاقليميون بالتوجس من القوة الجديدة التي أظهرت أقصى درجات العنف داخل حدودها، غير أن ما حدث بالفعل لم يلبث أن خالف كل التوقعات وبدلا من مناقشة مستقبل التحالفات الاقليمية في ظل نمو الخطر الجديد، أعلنت معظم دول الاقليم قرارها، باعتبار أحداث “ميدان السلام السماوي” شأنا صينيا محضا لا يجوز التدخل في مجرياته وحتى اليابان ما لبتت ان أعلنت في قمة السبع الكبار والتي عقدت بهيوستن بالولايات المتحدة سنة 1990، انها لن تشارك في عمليات المقاطعة التي كان الغرب قد بدأها ضد الصين. وفي استجابة منها لموقف جيرانها، عدلت القيادة الصينية سياساتها في اتجاه مزيد من الانفتاح على محيطها الاسيوي، بعد أن التقط الخيط من جيرانها، وعزمت على تعميق علاقاتها بهم. وهكذا، جرى تطبيع العلاقات مع اندونيسيا وسنغافورة في عام 1990، ثم مع بروناي عام 1991، ومن بعدها فيتنام في نوفمبر من العام ذاته، ومع كوريا الجنوبية في عام 1991. وقد اعادت الصين النظر في سياساتها الهند-صينية خلال عامي 1990 و1991 عندما قررت التراجع عن تأييدها للخمير الحمر في كمبوديا، والمشاركة في جهود الامم المتحدة لحل النزاع هناك بالطرق السلمية.كما كان حلول وزير الخارجية الصينية وقتها ” كيان كي شين” ضيفا على اجتماع وزراء خارجية اسيان في القمة الرابعة والعشرين للمنظمة في يوليوز 1991، وحضوره الاجتماع الاول للمنتدى الاقليمي الاسيوي سنة 1994، دليلا اخر على اتجاه جديد تنوي القيادة الصينية المشي فيه.

فإذا كان الاقتصاد الصيني يحتل اليوم المرتبة الثانية عالميا، فإن القيادة الصينية الجديدة تتجه نحو تعزيز شراكاتها مع دول الجنوب، ليس فقط بدافع الربح واكتساح الاسواق ولكن ايمانا منها بأن مستقبلها وازدهارها الاقتصادي لا يمكن أن تحقق إلا داخل نسيج مجموعة الجنوب. وداخل هذا السياق، فإن اتجاه المغرب نحو تعزيز علاقاته مع الصين ودول اخرى من اسيا يأخذ معناه الجيواستراتيجي.  فرؤية العاهل المغربي الملك محمد السادس في اعادة هيكلة علاقات وشراكات المغرب وتنويعها، تؤشر عليها الزيارات التي يقوم بها أخيرا، وخاصة الزيارة الاخيرة إلى الصين. بالإضافة إلى الخطب الملكية على التوالي في شهر فبراير 2014، خلال افتتاح المنتدى الاقتصادي المغربي الايفواري بأبيدجان، حيث تظهر الملامح الاولى لعزم المغرب تجديد عقيدته الدبلوماسية حين أشار العاهل المغربي إلى أنه ” نظرا للتحولات العميقة التي يشهدها العالم فقد أضحى من الضرورة ملاءمة الاليات التي تنبني عليها هذه العلاقات والابعاد التي تنطوي عليها وكذا الموقع الذي تحتله ضمن منظومة العلاقات الدولية مع المعطيات الجديدة على أرض الواقع”. ثم يدعو افريقيا إّلى الاستفادة من كل الطاقات التي تزخر بها، دون أن تعيش في عزلة عن العالم. من هنا، فهي مدعوة لمضاعفة الشراكات المثمرة مع الدول المتقدمة التي تبدي اهتماما دائما، وانخراطا ملموسا، من أجل الازدهار الاقتصادي للافريقيا وتنميتها البشرية. كما يجب عليها أيضا أن تستفيد من الفرص التي يتيحها التعاون الثلاثي كآلية مبتكرة، لتضافر الجهود والاستثمار الامثل للإمكانيات المتوفرة. وفي هذا الصدد، فإن المغرب الذي كان رائدا في هذا النوع من التعاون أعرب عن استعداده لجعل رصيد الثقة والمصداقية الذي يحظى به لدى شركائه في خدمة أشقائه الافارقة.

تبدي الصين أهمية كبرى لعلاقاتها مع دول القارة الافريقية عموما و مع المغرب خصوصا، لذلك تشهد العلاقات بين الجانبين تطورا ملحوظا على نطاق واسع، في اطار الشراكة الاستراتيجية والتعاون المشترك المبني على أساس المساواة والثقة المتبادلة. وهذا ما أكده العاهل المغربي الملك محمد السادس، في خطابه الذي القاه رئيس الحكومة المغربية عبد الاله بنكيران أمام قمة منتدى التعاون الصيني-الافريقي التي عقد في دسمبر 2015 بمدينة جوهانسبرغ، حيث قال أن تطوير وتنمية العلاقات الصينية الافريقية خيار استراتيجي نلتزم به ونحرص كل الحرص على تحقيقه. ويطمح المغرب في أن تشكل شراكته الإستراتيجية مع الصين إطارا جديدا للتعاون في الميادين المرتبطة بالاستثمار والتنمية، والأمن وتعميق التشاور السياسي وتعزيز العلاقات الاقتصادية وتقوية التعاون في الميادين الثقافية والتقنية والعلمية. كما تصبو المملكة، عبر هذه الشراكة إلى ان تكون علاقاتها مع الصين أساسا للأثير الايجابي في التنمية الإقليمية والجهوية واستثمار موقعها كرافد لهذا الطموح المشترك وهذا البعد الاستراتيجي المشترك (1) ويعزز هذه الثقة متانة علاقات الصداقة التي تربط البلدين والمرتكزة على إطار قانوني يصل إلى أزيد من 230 اتفاقية منها التوقيع ببكين سنة 2014 على مذكرة تفاهم بين الوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والجمعية الصينية لتنمية الاستثمارات الخارجية، وذلك بهدف دعم المشاريع الاستثمارية، كما تم في نفس السنة التوقيع بالرباط على اتفاقية شراكة بين المكتب الوطني المغربي للسياحة والمكتب الوطني الصيني للسياحة تروم تشجيع التعاون السياحي والثقافي بين المغرب والصين.  وسيرا على هذا النهج ومن أجل خلق مناخ ملائم لتعزيز الروابط بين الرباط وبكين، وقع البلدان مؤخرا اتفاقا يهم الإعفاء المتبادل لحاملي جوازات الخدمة والجوازات الدبلوماسية من التأشيرة. كما أسفرت الزيارة الاخيرة التي قام بها الملك محمد السادس لجمهورية الصين الشعبية عان توقيع عدد من اتفاقيات الشراكة بين القطاع العام والخاص، وذلك في أطار الشراكة الإستراتيجية التي تربط المملكة المغربية والجمهورية الصين الشعبية، إن تجدر المغرب في إفريقيا، ومتانة العلاقات السياسية والاقتصادية التي تربطه بالعديد من البلدان الإفريقية، والشراكة جنوب- جنوب التي يتبنها وتواجد شبكة مهمة من المؤسسات المالية والبنكية بالقارة، كل هذا يجعل من المغرب، شريكا أساسيا بالنسبة للصين.

ب: التعاون المغربي-الصيني على طريق الحرير الجديد

من المعروف أن طريق الحرير هو مجموعة من الطرق المترابطة، كانت تسلكها القوافل والسفن تمر عبر جنوب اسيا رابطة تشيان في الصين مع عدن في اليمن إلى مواقع اخرى. ففي القرن 15، قاد البحار الصيني، السيد تشنغ خه، الاسطول البحري عدة مرات إلى عدن وأمكنة أخرى في العالم العربي، وحتى الان لا يزال النصب التذكاري للبحار الصيني تشنغ خه موجودا في عدن. فكان طريق الحرير القديم يربط الصين والعالم العربي اللذين يقع أحدهما في الطرف الشرقي، والاخر في الطرف الغربي للطريق. وبفضل طريق الحرير، نشرت صناعة الوزرق وفن الطباعة والبارود والبوصلة من الصين إلى اوروبا عبر المنطقة العربية. بينما دخلت من خلال هذا الطريق إلى الصين علوم الفلك، والتقويم والطب، والادوية العربية، الامر الذي عزز الحضارة الانسانية بإسهام الجانبين الصيني والعربي. ومن أجل إحياء روح طريق الحرير القديم، وإثراء مقومات العصر الجديدة، طرح الرئيس الصيني “شي جين بينغ” مبادرة إنشاء ” الحزام الاقتصادي لطريق الحرير” أثناء زيارته لكزاخستان في 2013، وانشاء ” طريق الحرير البحري في القرن 21” خلال زيارته لاندونيسا في أكتوبر من العام نفسه.  ومن أجل سهولة التعبير سمى ذلك بعض الناس ب” الحزام مع الطريق” أو ”الحزام و الطريق” وسماه بعضهم الاخر ب ”حزام واحد وطريق واحد” ، أو ”طريق الحرير الجديد” وهو الاسم الذي اخترناه في هذه الورقة.

وعلى مر ألفي عام، كانت التجارة الثنائية الوحيدة البدائية بين الصين والبلدان العربية هي تجارة الادوات الخزفية والحرير و البهارات وغيرها من الادوات اليومية، وتطورت هذه التجارة يومنا هذا لتتنوع بين صناعة الطاقة الكيميائية وتقنية الملاحة الجوية والاقتصاد المالي ومواد البناء والمعدات الكهربائية. وبعد دخول القرن الجديد، وتحت إطار المنتدى الصيني-العربي والمنتدى الصيني- الافريقي تم تطوير علاقات التعاون الاستراتيجي بين الصين وشركائها في الشرق الاوسط وافريقيا.

ويظل تعزيز التعاون مع الدول الافريقية جزءا هاما من السياسة الخارجية الصينية، الممتثلة في الاستقلال والأخذ بزمام المبادرة، وانطلاقا من المصالح الاساسية المشتركة للشعب الصيني والشعوب الافريقية، تقيم الصين وتطور نمطا جديدا من الشراكة الاستراتيجية مع الدول الافريقية قائما على المساواة المتبادلة سياسيا، وتعاون الربح المشترك اقتصاديا. و يعتبر نمو أهمية المتغير الاقتصادي من أبرز ملامح التحولات الدولية المعاصرة، حيث يعار له الاعتبار الأول في السياسات الخارجية للدول، خاصة مع جمود  أغلب التكتلات السياسية الجهوية وانهيار بعضها، وتراجع أهمية الخلافات الإيديولوجية بين الدول، مما جعل الهم الاقتصادي يتصدر الانشغالات الخارجية الدول. كما أن تزايد أهمية العوامل الاقتصادية في العلاقات الدولية وارتباطها بأمن الدول ووحدتها، ما فتئ صناع السياسة الخارجية في كل من المغرب والصين يؤكدون أن السلام والتنمية في افريقيا من الاهداف الاساسية لهذه السياسة، ومع سياسة الانفتاح التي يتبعها البلدان شهدت سنوات تسعينات القرن 20 وما تلاها تحولا نوعيا في التفاعل المغربي الصيني مع افريقيا، بحيث خرجت العلاقات المغربية الصينية من إطارها الثنائي إلى الاطار الاقليمي، حيث توصلت الحكومة الصينية مع عدد من الدول الافريقية منها المغرب، في منتصف عام 2000 إلى اتفاق مشترك بشأن تشكيل وتأسيس منتدى لتعزيز التعاون الصيني الافريقي. كآلية لتعزيز الشراكة الاستراتيجية الصينية الافريقية و بالنسية للمغرب يمزج بتوازن بين كونه منبرا للحوار السياسي في إطار تعزيز التعاون جنوب – جنوب، وبين اعتماده كآلية للتعاون الثنائي بين الصين وافريقيا. إذ حرص المغرب دوما على أن تقوم شراكته مع الصين على أساس حوار سياسي منتظم، يهم مختلف المبادرات الثنائية على المستوى الاقليمي والدولي حوار يمكن من إقامة تنسيق جيد لتحرك البلدين ولمواقفها في المحافل والمنتديات الدولية. كما يعمل المغرب على أن تقوم هذه الشراكة على دعامة اقتصادية. حيث وقع المغرب فعلا شراكة استراتيجية مع جمهورية الصين الشعبية في ختام زيارة العاهل المغربي لهذا البلد يومي 10-11 ماي 2016، شملت 16 اتفاقية غطت القطاعات المفصلية في البلدين، من قبيل الاقتصاد، التجارة ، البيئة، الطاقات المتجددة، السياحة، الثقافة، التعاون العسكري والامني، والاستثمار في القطاع الخاص. والواقع أن العلاقات المغربية الصينية، التي تجاوزت نصف قرن شهدت توقيع أكثر من 250 اتفاقية ثنائية على امتداد هذا التاريخ، كما تميزت بزيارات رسمية بين الطرفين غير أنها ظلت محكومة بسياقات لم ترق إلى السياق الذي تعرفه اليوم، من حيث النضج والجاهزية للإنجاز.

إن ما يميز الاعلان المغربي الصيني والتوقيع على الشراكة الاستراتيجية لسنة 2016 تحديد المغرب والصين القطاعات الاكثر استراتيجية وحيوية وربحا بالنسبة لهما معا. فلو أخذنا بعضا منها على سبيل المثال، وتساءلنا عن الاسقاطات والنتائج الناجمة عنها، لأدركنا أهمية أن ترتبط مع العملاق الصيني بمصالح متبادلة مبنية على الاحترام والاستفادة المتبادلة. ففي مجال السياحة وهو من القطاعات الاستراتيجية بالنسبة لبلدنا، إذ عرفت الصين طفرة نوعية في اقدام مواطنيها على السفر خارج قارتهم، إذ قارب عددهم عام 2010 الستين مليون وينتظر أن يصل هذا الرقم إلى المائة مليون سنة 2020. لذلك جدير بالمغرب الذي يروم الوصول إلى جلب عشرين مليون سائح إلى بلده، أن يشتغل على هذه الامكانية التي تفتحها الشراكة المغربية الصينية. إلى جانب ذلك هناك قطاعات ريادية مثل الطاقات المتجددة والصناعات الالكترونية، البنيات التحتية، مجال البناء، المصارف، المؤسسات الصغرى والمتوسطة.

وفي الاجمال ثمة افاق كثيرة تخدم البلدين وتجعل علاقتهما خيارا استراتيجيا، فموقع المغرب بالنسبة للصين أكثر من مهم، لا سيما إذا استحضرنا الحضور الصيني الكثيف في افريقيا، والمكانة التي يحظى بها المغرب في دول غرب افريقيا. وهذا الآمر ينقلنا  إلى مستوى أخر من التحليل ويتعلق الآمر بالجهود التي يبذلها الطرفين لتدعيم علاقاتهما الاقتصادية، بالرغم من الصعوبات الكبيرة التي تواجهها التجارة المغربية الصينية خاصة ما يرتبط بالصادرات المغربية نحو الصين، فإن الواقع يكشف أن هناك إمكانيات كبيرة لتطويرها بحيث أن المستوى الحالي للعلاقات التجارية لم يصل بعد إلى المستوى السياسي والدبلوماسي المتميز بين البلدين.

ثانيا: العلاقات الثقافية أساس لبناء علاقات أكثر قوة

يرى ”Mac Ever” أن الثقافة هي ما نحن وأن المدينة هي ما نستعمل والثقافة تمثل نسيج الحياة الانسانية وجودا وحركة وتوظيفا فليس هناك في التحليل النهائي عمل اجتماعي يتم إنسانيا خارج دائرة الثقافة. فالحضارة والثقافة كليهما يشيران إلى منهاج حياة أمة من الناس، والحضارة هي الثقافة مكبرة، وكليهما يشمل القيم والمعايير والمؤسسات، وطرق التفكير السائدة في مجتمع معين. فلحضارة هي أعلى تجمع ثقفي للناس وأوسع مستوى لهويتهم الثقافية وليس فوق لانتماء الحضاري للناس إل انتماؤهم للجنس البشري. لذلك ليس من المبالغة القول بأن العلاقات الدولية في صورها التعاونية المختلفة تحتاج إذا ما أريد لها التطور تقوية التفاعلات والتبادلات الثقافية بين الدول. خاصة مع ظهور نظريات تجعل من الثقافة والحضارة العنصر الحاسم في تحديد مستقبل العلاقات الدولية، ولعل أبرز هذه الاطروحات، ” اطروحة صدام الحضارات” لصمويل هنتنغتون.

طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ في سبتمبر 2013 رؤيته المبتكرة الجديدة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن 21. وتسمى هذه المبادرة اختصارا ” الحزام والطريق” والتي اختارنا لها في هذه المقالة اسم ” طريق الحرير الجديد”، وتهدف إلى بناء نهضة اقتصادية وثقافية كبرى على طول طريق الحرير القديم وبناء اليات للتعاون الاقتصادي والثقافي والانساني تسعى إلى رفاه كل الشعوب المطلة على هذا الطريق. وفي تقديري أن هذه المبادرة هي اهم وأضخم مشروع اقتصادي وثقافي كوني تم طرحه خلال الاعوام الخمسمئة الاخيرة. وفي هذا الاطار نشير إلى ان من المبادئ الاسياسية لمبادرة طريق الحرير الجديد، التواصل الانساني والثقافي  فلا يمكن أن يتم إنشاء هذا الطريق على الاساس المادي فقط، بل يجب الاهتمام بالتواصل والتفاعل الانساني والثقافي، والسير على قدمي التعاون العملي والتوصل الثقافي بخطوات متوازنة، وجعلهما يكملان بعضهما بعضا. ويمكن ان يجري التشارك في إنشاء ”طريق الحرير الجديد” على أساس ثقافة واحدة فقط، بل يجب دفع التواصل و الحوار، واحترام الاخرين من حيث النظم الاجتماعية، والمعتقدات والديانات، والتقاليد، واستيعاب ميزات مختلف الحضارات.

وبالرجوع إلى التبادل الثقافي المغربي الصيني نجد أن هذا التبادل يعتبر من أهم علاقاتهما، ليس فقط في الوقت الحاضر بل على امتداد قرون عدة، وأيضا بالنظر إلى تراثهما الحضاري ودورها الحضاري المتميز. فلم تكن زيارة ابن بطوطة للصين مجرد رحلة عابرة بقدر ما كانت وشيجة ثقافية ربطت المغرب بالصين منذ القدم. كل ذلك وضع أسسا طيبة للعلاقات الثقافية المغربية الصينية.و عليه سنحاول من خلال هذه النقطة الوقوف أهم ما يميز العلاقات الثقافية المغربية الصينية (أ)، و مجالات التبادل الثقافي والحضاري بين المغرب والصين (ب).

أ:المغرب والصين ألف سنة من التبادل الثقافي

بعد استقلال المغرب وإقامة العلاقات الدبلوماسية، تعززت الروابط الثقافية المغربية الصينية أكثر خاصة مع التوقيع على اتفاقية التعاون الثقافي رسميا في سنة 1982، إلى جانب التوقيع على عدد من البرامج التنفيذية لاتفاقية التعاون الثقافي وصل عددها إلى الان 5 برامج تنفيذية. ومع افتتاح سفارة الصين بالرباط أقامت المملكة المغربية وجمهورية الصين الشعبية علاقات دبلوماسية في نوفمبر 1958، أعقبها افتتاح البعثة المغربية ببكين سنة 1960 ويأتي تبادل الزيارات الرسمية لحكام البلدين في إطار تعزيز العلاقات الدبلوماسية التي تلعب دورا محوريا في التقريب بين المغرب والصين. وقد استقبلت الصين في تاريخها شخصيتين مغربيتين بارزتين الرحالة ابن بطوطة الذي زار الصين سنة 1342، والملك محمد السادس.

وتعتبر العلاقات المغربية- الصينية متميزة بفضل التقارب الحاصل في الموقف والرؤى والدعم المتبادل في المنظمات الدولية من جهة، والرغبة المشتركة في مواصلة تعزيز أواصر الصداقة وتنويع التعاون من منظور التآزر والمنفعة المتبادلة من جهة اخرى. كما يتميز تاريخ البلدين بقواسم مشتركة خاصة في بداية القرن 19، فكلتا الدولتين كانتا تقاومان الاستعمار الاوروبي، ومن ثم اقتصرت العلاقات بين البلدين في تلك الفترة على الدعم المتبادل والعلاقات الودية بين الشعوب التي تكافح ضد الاستعمار. بإعلانها ثاني قوة اقتصادية عالمية من قبل صندوق النقد الدولي تكون الصين قد أبانت حقا عن كونها تسير بخطوات ثابتة على درب الاقلاع التنموي، مما يزيد من أهمية التفاعل المغربي- الصيني هو أن الصين تمتلك تجربة متقدمة في مجال مواجهة تحديات التنمية. ومن هنا تبرز مسألة النموذج الصيني في التنمية، وهي مسألة تستحوذ على قدر كبير من الاهتمام لان احد عناصر السياسة الصينية تجاه المغرب هو مبدأ ”التعلم بالمثل”من خبرات كل طرف في مختلف المجالات وهو مبدأ تطرحه الصين من خلال نموذجها التنموي وتجربتها في مختلف المجالات.

بنهاية أسرة تانغ والمماليك الخمس الصينية في عام 960م كان الحزام الثقافي لطريق الحرير قد تجذر وفتحت التبادلات الانسانية الطريق لانسياب التجارة وأمنت الطرق لمئات البعثات الدبوماسية لعدة قرون. بسبب هذا الحزام كانت الثقافة العربية والاسلامية قد وجدت لها موقعا مؤثرا في الصين كما زادت بسبب الحزام الثقافي ايضا معرفة العالم بالصين. إلا ان التبادلات الثقافية على طول الحزام الثقافي لطريق الحرير القديم تعرضت للاضطراب في أواسط القرن الخامس عشر عندما بدأت البوارج الحربية الاوروبية سعيها للسيطرة على منافذ التجارة والمواصلات في العالم القديم تمهيدا لشن حملتهم على الشعوب اسيا وإفريقيا.

وفي هذا الاطار احتفى المغرب والصين السنة الماضية من خلال معرض للصور بالعاصمة بكين، بتاريخ طويل من التعارف والتبادل الثقافي يمتد للازيد من ألف تحت عنوان ”الف سنة من التبادلات الثقافية” مسلطا الضوء على مجموعة من نقاط التلاقي بين المحطة الاولى لطريق الحرير ببلاد الصين ومحطتها الاخيرة في أقصى شمال القارة السمراء، كما تم تتويج هذه المناسبة بتوقيع برنامج لتنفيذ اتفاقية التعاون الثقافي بين البلدين 2016-2020، لكل من الشعبين المغربي والصيني تراث حضاري قديم، وهو عنصر جذب للطرفين ولهذا خطا المغرب والصين خطوات هامة في مجال دعم ما يتعلق بتطوير العلاقات الثقافية مثل انشاء معاهد كونفوشيوس، ارسال بعثات لللتدريب وتعلم اللغة الصينية والعربية.

 

ب- الحوار الحضاري بين المغرب والصين

بالنظر إلى ما باتت تتمتع به الصين من مكانة دولية متقدمة ومتنامية في أهميتها بعد تحديد رؤيتها لدورها على الساحة الدولية مسألة بالغة الاهمية في إطار أي محاولة لاستشراف مستقبل العلاقات الدولية. و بقدر ما قد تتشابه الصين مع غيرها من القوى الدولية الرئيسية في التأثر بمعطيات النظام الدولي، عند بناء رؤيتها لدورها الدولي، فإنها تتميز بمحددات ثقافية، وتنموية، ومجتمعية شديدة الخصوصية، تجعل لرؤيتها تلك التميزها وتفردها. اعتمدت الصين الحالية في بناء رؤيتها وسياستها الخارجية، وتعاملها مع العالم على مجموعة من الاليات الحضارية التي قامت بإحيائها وتجديدها، أو من المقومات السياسية والاقتصادية والمجتمعية التي تطورت خلال العقود الاربعة الاخيرة.  فالحضارة الصينية وإشعاعاتها، وهي في المقام الاول إشعاعات إقليمية من المنظور الثقافي، لكنها تشمل أيضا اشعاعات عالمية من منظور التجارة والاقتصاد.ولعل أوضح نموذج لذلك هو طريق الحرير البري والبحري، هما خطان رئيسيان في نهضة الصين وعلاقاتها الخارجية وتأثيرها في الخارج وتأثرها.و لا تزال مفاهيم حضارة العريقة تشكل ركيزة رئيسية للسياسة الخارجية الصينية في القرن الحادي والعشرين.

بدأت الدبلوماسية المغربية تتحرر تدريجيا من الارتباط السياسي والاقتصادي الذي لطالما ربطها بمعسكر الدول الغربية خلال عقود مضت. من خلال التوجه نحو اقامة علاقات أكثر تميزا مع روسيا والصين، حيث حرص الملك على ذكر روسيا والصين أكثر من مرة في خطاباته الرسمية الاخيرة في سياق حديثه عن تطوير العلاقات المستقبلية للملكة المغربية مع دول العالم. حيث أن الاديولوجية لم تعد عاملا حاسما يحدد توجهات السياسة الدولية تجاه بكين أو موسكو. حيث يتخذ التبادل الثقافي المغربي الصيني عدة مظاهر وينصب على مجالات متعددة منها المجال التعليمي والشؤون الثقافية والاعلام. ففي المجال التعليمي يتميز التعاون المغربي الصيني بتبادل المنح الدراسية إذ يصل عدد المنح التي يقدمها الجانب الصيني للمغرب حوالي 15 منحة دراسية كما نص على ذلك البرنامج التنفيذي لاتفاقية التعاون الثقافي بين البلدي لسنوات 2006-2007-2008. وبالمقابل بلغ عدد المنح المغربية المقدمة للطرف الصيني 5 منح وتعتبر برامج المنح الية مهمة لتشجيع اقامة روابط بين الطلاب والمؤسسات المغربية والصينية.  كما نجد أن هناك تعاون بين المؤسسات التعليمية في البلدين، ففي ماي 2000 تم التوقيع في بكين على اتفاقية تعاون في مجال التعليم بين المدرسة العليا الدولية للتدبير بالمغرب والجامعة و الجامعة الدولية للأعمال والاقتصاد بالصين. وفي نوفمبر 2014 وعلى هامش الاجتماع الاول للجنة المشتركة المغربية الصينية للتعاون، وتم بمدينة الرباط التوقيع على خارطة طريق للتعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا بين المغرب والصين.

وتزامنا مع تكثيف التبادل الثقافي والحضاري بين المغرب والصين، أصبح تعلم اللغة الصينية يحظى باهتمام مغربي متزايد، فاللغة تعد أهم جسور التواصل بين الشعوب. وفي هذا الاطار تم إحدث أول مركز لمعهد كونفوشيوس بمدينة الرباط في دسمبر 2009 بعد توقيع اتفاقية المقر العام للمعهد بجامعة محمد الخامس في مارس 2008، وفي يناير 2013 تم احداث المقر الثاني لمعهد كونفوشيوس بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، كما تم احداث معاهد اخرى بمدن طنجة مراكش وفاس.

لا يقتصر التبادل الثقافي بين المغرب والصين على الجوانب التعليمية بل يمتد أيضا إلى مجالات متعددة كالاعلام والفن والشؤون الدينية، إذ شهد التعاون المغربي الصيني على صعيد العلاقات الاجتماعية تطورا متناميا في السنوات الأخيرة وذلك على ضوء الاهمية المتزايدة لدور الاعلام ووسائل الاتصال على الصعيد الدولي. وارتباطا بالدور الاساسي للإعلام في تعريف شعبي البلدين بثقافة وحضارة الأخر وإلقاء الضوء على التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في كلا البلدين بهدف الفهم المشترك بين شعبي البلدين. ولعل من أبرز سمات التعاون المغربي الصيني في مجال الاعلام وجود عدد من المكاتب التمثيلية في المغرب لعدد من الهيئات والمؤسسات الاعلامية الصينية نذكر منها ، وكالة الانباء الصينية ”شينخوا” وصحيفة الشعب. فضلا عن ارتباط عدد من المؤسسات الاعلامية في البلدين بالاتفاقيات وبروتكولات تعاون منها اتفاقية التعاون بين القناة المغربية الاولى والإذاعة والتلفزيون الصيني سنة 2002، إلى جانب اتفاقية تعاون بين وكالة المغرب العربي للأنباء و وكالة الصين الجديدة للأنباء.

تظل العلاقات الثقافية مع امبراطورية الوسط بالرغم من الديناميكية المتجددة في العلاقات الثنائية، هزيلة بشكل واضح حيث لا ترقى إلى مستوى وحجم المبادلات بين البلدين، ولا إلى مستوى طموح المسؤولين السياسيين في البلدين بهذا الشأن .

 

خاتمة:

يتعرض تعامل الصين مع دول الجنوب عموما ومع دول المنطقة العربية والافريقية إلى عدة انتقادات حيث يتسم هذا التعامل بالانتهازية والتركيز على سياسة إغراق اسواق هذه الاخيرة بالمنتجات الصينية الرخيصة ذات الجودة المتدنية على حساب التبادل العادل والتنمية المستدامة بها. كما تتهم بتغاضيها عن المتعمد عن قضايا البيئة وحقوق الملكية الفكرية والتأليف في هذه البلدان مما يلحق اضرارا بمصالحها على المدى البعيد والمتوسط. وبغض النظر عن الطبيعة الراهنة للعلاقات المغربية خلال السنوات الاخيرة، فإن تتجه في المستقبل نحو دينامكية أكبر بالنظر إلى المكانة التي توليها الصين للمغرب ضمن استراتيجيتها التجارية في القارة الافريقية وإلى الارادة السياسية في البلدين. إذ من المرجح أن تتجاوز البلدان في المستقبل المنظور الخطوط الكلاسيكية لمبادلاتهما التجارية الصرفة إلى مبادلات ثقافية وبشرية أكثر عمقا وكثافة بالنظر إلى التزايد المضطرد للاهتمام بالثقافة واللغة الصينية بالمغرب والذي يقابله اهتمام شبيه باللغة و التقانة الغربية. وفي هذا السياق مطلوب من الاجيال الجديدة المنشغلة ببناء الحزام والطريق أن تبني أيضا حزاما ثقافيا جديدا يسهم في تعزيز التواصل الانساني والثقافي، حيث يحدثنا التاريخ إلى أن بناء حزام ثقافي على طول الحزام الطريق سيسهم حتما في السلام والاستقرار والازدهار الاقتصادي على طول الحزام طريق الحرير الجديد.

هوامش:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و.م,ع،”المغرب والصين: تعاون جنوب- جنوب وشراكة رابح-رابح”، كواليس اليوم،10 ماي 2016،www.maghress.com،16 ابريل2017.

(2) التقرير الاستراتيجي المغربي 2010-2013،مركز الدراسات والابحاث في العلوم الاجتماعية، مطبعة النجاح الجديدة، 2014،ص.31.

(3) المرجع نفسه.

(4) محمد غربي،البعد الاسيوي في السياسة الخارجية للمغرب. إلى أين؟،مجلة القانون والاقتصاد طنجيس،عدد 11،نونبر 2011،ص.57.

(5) المرجع نفسه.

(6) المرجع نفسه،ص.59.

(7) عبد الكريم مفكر، “المغرب والصين: علاقات اقتصادية تعد بمستقبل زاهر”، البوابة الوطنية، 24 نونبر 2014،<www.maroc.ma>  1 سبتمبر 2015.

 

لائحة المراجع:

و.م,ع، ”المغرب والصين: تعاون جنوب- جنوب وشراكة رابح-رابح”، كواليس اليوم،10 ماي 2016،www.maghress.com،16 ابريل2017

التقرير الاستراتيجي المغربي 2010-2013،مركز الدراسات والابحاث في العلوم الاجتماعية، مطبعة النجاح الجديدة، 2014

محمد غربي،البعد الاسيوي في السياسة الخارجية للمغرب. إلى أين؟،مجلة القانون والاقتصاد طنجيس، عدد 11،نونبر 2011

مالك عوني، السياقات الغالبة: الصعود الصيني إلى “اللاقطبية”، مجلة السياسة الدولية، تحولات استراتيجية على خريطة السياسة الدولية، يناير 2017

مروان العبدلاوي، العلاقات المغربية الصينية (من 1956 إلى 2007)، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، فاس، 2008

فاطمة لمحرحر، السياسية الخارجية المغربية اتجاه الصين، المركز الديمقراطي العربي، 28 ماي 2017،www.democraticacac.com

وانغ بي: تجسيد الصداقة الإستراتيجية بين المغرب والصين في كافة مجالات التعاون،وزارة الشؤون الخارجية لجمهورية الصين الشعبية،4 يونيو 2014،<www.fmprc.gov>  28 غشت 2015.

 

محمد بن محمد العلوي،”المغرب والصين يخطوان بثبات نحو متقبل مثمر”، ميدل است أولاين، 24 دجنبر 2013،<www.middle-east-online.com>    28 غشت 2015

 

المصطفى الرزرازي،”الزيارة الملكية للصين وما بعدها: قراءة في الانجازات والابعاد”، برلمان، 16 ماي 2016،www.barlamane.com[1]

 

حنان قنديل، الصين واستمرارية الصعود السلمي، “السياسية الدولية، العدد 183، يناير 2011

 

فؤاد الغزيزر، العلاقات المغربية الصينية والتعاون جنوب-جنوب، الصي، بعيون عربية، 28 دسمبر 2015،www.chinainarabic.org

 

عبد الكريم مفكر، “المغرب والصين: علاقات اقتصادية تعد بمستقبل زاهر”، البوابة الوطنية، 24 نونبر 2014،<www.maroc.ma>  1 سبتمبر 2015.

 

سليمان تشوليه،”طريق الحرير الجديد…التعاون الصيني-العربي”، السياسية الدولية، العدد 201،يوليوز 2015

جين تشونغ جيه( شمس الدين)،”الاطار التاريخي والثقافي للعلاقات العربية- الصينية”،المستقبل العربي،العدد 459،ماي 2017

سعيد الصديقي، قراءة في أبعاد الدبلوماسية الجديدة، مطبوعات الهلال، وجدة، 2002

”العلاقات المغربية الصينية…من التعاون إلى الشراكة الاستراتيجية القوية”، تليكسبريس، 24 نونبر 2014،www.telexpresse.com[1]

 

امحمد مالكي،”الشراكة الاستراتيجية المغربية الصينية”، عربي 21، 17 ماي 2017،www.arabi21.com

فؤاد الغزيزر،” العلاقات الثقافية الصينية المغربية، الصين بعيون عربية، www.chinainarabic.org  [1]

 

جعفر كرار احمد،”الحزام الثقافي: تاريخ التبادل الثقافي بين الصين والعرب”، المستقبل العربي،العدد 459،ماي 2017

الزيارة الملكية على الصين:شراكة استراتيجية شاملة ذات أبعاد وافاق مستقبلية واعدة،البوابة الوطنية، 10 ماي 2016،www.maroc.ma

-محمد نعمان جلال،”الاحياء الحضاري:أي مسستقبل للصين في النظام الدولي؟”السياسة الدولية،عدد يناير 2017

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.