موقع متخصص بالشؤون الصينية

“قويتشو” القومية.. حقوق وولاء وطني وإبداع

0

 

 

موقع الصين بعيون عربية ـ
سناء كليش:*

كانت زيارة وفد الاتحاد الدولي للصحافيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء الصين، في مارس 2018 الى جمهورية الصين الشعبية، بدعوة رسمية من قيادة الحزب الشيوعي الصيني، ناجحة ومثمرة على جميع الأصعدة، وخاصة زيارة المناطق القومية في محافظة “قويتشو” الغربية، التي اكتست أهمية وإفادة متميزة لي شخصياً وللوفد الاتحادي بشكل عام، وأتاحت مضاعفة المَعارف والمعلومات حول واقع القوميات الصينية.. مَعيشتها وهمومها وآمالها وتطلعاتها، فضلاً عن فهم سياسة الحزب والدولة الصينية حِيالها.

توجّهنا الى “قويتشو” بطائرة الخطوط الجوية الصينية، في رحلة استغرقت من العاصمة بكين أكثر من ثلاث ساعات، واستنتجنا خلالها شساعة المناطق والمدن الصينية وترامي أطراف الدولة الصينية ما بين البحرين الشرقي والجنوبي، وإلى الصحراء الغربية ومشارفها المناطق الريفية، وما تتطلبه من جهد وطني كبير لبلوغها مراحل من التطور الذي يليق بأهلها أولاً، ويليق بالخطط العلمية للدولة الصينية ثانياً، فقد تمكّنت المؤسسات الحزبية والرسمية الصينية من دفع التقدم في عموم الجهات الغربية للدولة، ليُحاكي التقدم في الشرق الصيني حيث بدأت عمليات حركة الإصلاح والانفتاح الصينية قبل أربعين عاماً، ونجحت فنقلت هذا الشرق الصيني الى تقدم مذهل لأسباب كثيرة ربما لا مجال لتفصيلها هنا.

وتحتفل الصين برمّتها في العام الحالي بذكرى شروع البلاد بعملية الإصلاح والانفتاح، باستعراض ثمار هذه العملية، رغبة بالوصول الى استنتاجات جديدة تتيح تأصيل الرؤى التي مهمتها نقل الصين الى عصر بدأ يتشكّل، جلّه الازدهار ما فوق العادي، لتؤكد البلاد نجاعة التخطيط النوعي الذي يوائم ما بين الخاص والعام، والفردي والحكومي، ورأس المال والحوكمة والتشريع وحركية الدولة الاشتراكية وشعاراتها الواقعية، بعيداً عن الجُمود العقائدي أو العقلية الإدارية المحصورة في قرارات الفرد.

في المسألة القومية في الصين، من الضروي التأكيد على واقع الدولة الموحّدة والمتعددة القوميات والتي تنتسب الى 56 قومية، من بينها على سبيل الذكر لا الحصر “هان” والمنغوليين” و”هوي” المسلمة و”التبتيون” و”الويغور” و”مياو” و”ويي” و”تشوانغ” و”بويي” و”الكوريين”، الى جانب أقليات أخرى شحيحة بعددها، وغير معروفة لدى سواد الصينيين. وبحسب المراجع الصينية المحكمة، تُعتبر قومية “هان” الأكبر عدداً بين مختلف القوميات، وتصل نسبتها بين مجموع القوميات في الصين الى 92 بالمائة من إجمالي سكان الدولة، وال 8 بالمائة المُتبقّية هي لأبناء الأقليات القومية الأخرى. ويسكن أبناء هذه الأقليات بشكل رئيسي في مناطق ذاتية الحكم، ومتوارثة لديها “أباً عن جد”، وتقع مواطنها في شمال غرب وجنوب غرب، بالإضافة الى شمال شرق الصين.

خلال زيارتي الى قويتشو، لفت انتباهي اهتمام مؤسسات الحزب والدولة بساكني المنطقة رغم قلّة عددهم وتكفلها بمهمة تمكينهم من العمل والخدمات الصحية والاجتماعية بأشكالها المختلفة، فضلاً عن الحِرص على حماية التنوّع القومي والفلكلوي والثقافي للقوميات في هذه المنطقة.

وقد شملت الزيارة مركزاً للصناعات التقليدية لتشغيل نساء المنطقة وفتياتها وتعليمهن إبداعات الحياكة، وتدريبهن على إنتاج ملابس وأزياء نسائية موشّحة بألوان ورسومات مُستوحاة من تراث المنطقة وخصوصياتها الثقافية، بالإضافة الى لوحات جدارية تمثل طبيعة المنطقة والرسومات والألوان القومية فيها. وتشتمل قويتشو على أكثر من 18 ألف قرية جبلية، تصنّف 426 منها على إنها “تجمعات فريدة التقاليد”، وجُّها جاذب للزوار والسياح، فهي تسمى “سويسرا الصينية” لتمتعها بفرّادة بيئية وطبيعية كبرى، تتوافر في الأقل من البيئات الأرضية.

ولمست في تلك المنطقة الكبيرة مساحةً وعلى أرضها، أن نظام الحكم الذاتي الجامع لعدة قوميات في بوتقة سياسية واقتصادية واحدة، ناجح بإمتياز في إدغامها ببعضها البعض، وفي النجاح بسياسة تجذير التناغم فيما بينها وبوحدتها الإنتاجية والإنسانية، وهو بلا شك نجاح للسياسة القومية للحزب الشيوعي الصيني والدولة الصينية، يؤكد نجاعة النظام السياسي ومرونته واهتمامه بالموروث التاريخي للقوميات بكل تجلياتها اللغوية والاجتماعية والنفسية والعقلية، برغم العدد القليل لهذه القوميات وقلّة نسبة مساهماتها في مُجمل الحياة اليومية، ذلك أن الحزب تمكّن من إقامة هيئات للحكم الذاتي بهدف تطبيق خططه في تلك المناطق، بما يتفق وظروف الأقليات القومية ومِيزاتها التاريخية ومتطلباتها اليومية والمستقبلية، وواقعها المحلي المتشابك بالوطني، فضمّنت الدولة الصينية ببرامجها القومية تطبيق السياسة القومية ونقلها الى واقع مُعاش، إستناداً الى أوضاع القوميات ضمن الواقع الريفي، وأفضى ذلك بالتالي الى بروز متعلمين وكوادر متخصصة في شتى المناحي من بين أبناء هذه القوميات.

لهذا كله، لم  يرحل أهل المنطقة عن مناطقهم بعيداً، بل استمروا  يعيشون ويسكنون بين قومياتهم ويُشاركوها وشعبهم الصيني الجهود الجماعية لبناء الوطن بشعاراته الرئيسية، وللارتقاء بتطبيقات التحديث الوطني بقيادة الحزب، ولنقل عمليات التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الى ذرى أرقى بالمناطق القومية، تصلح للجذب السياحي وصناعة السياحة والتسويق الثقافي والصناعي في السوقين الصينية والدولية سواء بسواء، ذلك أن خطط التطوير الموضوعية وتجلياتها التي شاهدتها على أرض الواقع، تشي بتواصل نجاح عمليات الارتقاء والازدهار التدريجي من خلال توفير المتطلبات الأساسية للسكان أولاً، ثم في المرحلة التي تليها، الانتقال الى توسيع مجالاتها الى اقتناء الفوائض السلعية، ضمن تطبيق مرحلة رغادة الحياة أو الاشتراكية الأعلى تطوراً وازدهاراً، حيث يكون الفرد على درجة عالية في الوعي، لاسيّما لحتمية الإخلاص الوطني إنتماءً وإنتاجاً وصرحاً جامعاً وفي المستقبل أيضا.

 

لقد تم بعددٍ من القرى الجبلية بناء 120 مسلكاً سياحياً يُشرف على الطبيعة، من بينه شلال “هوانغ قوه شو”، وقصر التنين، وكهف “تشي جين”، وبحيرة “هونغ فنغ”، ومنطقة “تشانغجيانغ في ليبو”، ووادي “ما لينغ خه”، وغيرها. ففي تلك المنطقة كبيرة المساحة، تلمس نجاح نظام الحكم الذاتي القومي في تجذير في تحقيق وتجذير وحدتها الانتاجية والانسانية، بما يُقيم الدليل على نجاعة النظام السياسي الصيني ومرونته واهتمامه بالموروث التاريخي – الثقافي للقوميات بكل تجلياتها اللغوية والاجتماعية والنفسية وغيرها..  ويُلاحِظ كل زوار “قويتشو” ما حققته المنطقة من إنجازات متميزة قدَمتها القوميات في الصين لوطنها المشترك، من خلال محافظتها على مناطقها مزدهرة حياتياً وإنتاجياً وسلمية ومتناسقة مع بقية الوطن، وإخلاصها الشامل له، لتساهم بذلك على غرار بقية المناطق الصينية في بناء الحضارة الصينية المشتركةً.

هناك إدراك تام في قيادات الحزب والدولة بالصين، إن القوميات والمسألة القومية هي جزء من بين عددٍ من المسائل الاجتماعية العامة وتاريخها، وهي ستبقى بعلاماتها موجودة في البلاد بكل تجلياتها على الأقل في مرحلة مقبلة قد تطول أو تقصر، ولن تتراجع أهميتها سوى في ظل إقتصاد الرغادة والمجتمع الازدهاري وكمالِه، لتغدو القومية إرثاً إنسانياً لا يتطلع الى مكاسب ذاتية بحد ذاتها أو محاصصة دولتية.. لذا تعتبر مسألة تنمية الاقتصاد الوطني بأقصى الجهود والسرعة وفلكيته مهمة أساسية للاشتراكية ضمن الاعمال القومية الراهنة في الصين والمتضامنة تطلعاً لتنفيذ خطط إنجاز  التطور المشترك والشامل والازدهار الجماعي.

المسألة القومية في الصين في المرحلة التاريخية الحالية لا تعتبر ظاهرة سلبية بقدر تمتعتها بكامل الإيجابيات لتلبية الرغبات القومية وفي إطاراتها الشاملة والجزئية وبكل أشكالها، فلا يمكن أن تحل أو تذوب “القومية” سوى بشكل تدريجي ومن خلال تسوية كل المسائل الاجتماعية والاقتصادية الأكثر تطوراً، وبناء صرح الاشتراكية المشتركة لجميع الوطنيين، وإعلاء المواطنية والإخلاص العملي والفكري كقيمة عُليا تعلو على كل إعتبار، وستستمر القوميات تعيش وتعمل، وإن كانت قليلة أو متوسطة العدد إقتصادياً وعددياً، لكن وجودها أساسي ومهم لأنه يؤكد نجاعة ونجاح السياسة القومية الصينية، التي تتسم بالانسانية والوطنية المؤطّرَة بالقانون الأساسي للدولة، وبتوفير إحتياجات القوميات، وبتعمير مناطقهم وتقريبها من مستويات المدن المتوسطة، تطلعاً الى ازدهارها في مرحلة مُقبلة، لتتشبع الدولة بالتالي بأكملها بكل مكوناتها وبولاء وطني وفكري طبيعي.

*#سناء_كليش: كاتبة وصحفية #تونسية ناشطة ومعروفة ومن المجموعة الأولى المؤسِّسة للاتحاد الدولي للصحافيين والأعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء #الصين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.