موقع متخصص بالشؤون الصينية

هل انجازات الصين “معجزة”؟

2

 

 

موقع الصين بعيون عربية ـ
بشار جابر*:

 

عانت الصين من الحروب الاستعمارية الإمبريالية، شأنها شأن العديد من الدول، ولكن طبيعة الحروب التي استهدفتها توصف بأنها أشد وطأة، وتفتقر للقيم والأخلاق بشكل يَصعب تصديقه، ومن هذه الحروب “حرب الأفيون الأولى والثانية”، في الأعوام 1840 و1856، والتي شنّتها دول استعمارية – بريطانيا، وانضمت إليها لاحقاً فرنسا – والتي استهدفت الإبقاء على تجارة الأفيون وزراعته، بل ونشر الإدمان أيضاً في المجتمع الصيني. واستمرت الآثار السلبية لهذه الحرب حتى أنهاها الرئيس “ماو تسي تونغ” في بداية القرن العشرين، وتبعها أيضاً اجتياح اليابان – الدولة الإمبريالية – قبل بدء الحرب العالمية الثانية رسمياً بسنوات عديدة، وتمحورت أهداف اليابان على نهب ثروات الصين المسالمة، واستمرت الحرب منذ عام 1937 ولغاية استسلام اليابان وخسارتها للحرب العالمية الثانية في العام 1945، وخلّف الاستعمار الامبريالي العديد من  المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في الصين وشعبها.

 

بدأت النهضة الصينية منذ عصر الرئيس “ماو”، ويَطول الحديث عن الأسس والمنهجيات التي أسـسها وأرساها هذا الرئيس والتي تُعتبر الأساس الصّلب لانطلاق التنين الصيني، ويهمني هنا أن أوضح بداية الانفتاح على العالم، وتجاوز المحن التي عاشها الصينيون، والبداية من “الفقر” الذي تعرضت له الصين ففي العام 1978 كان معدل “الفقر”– في المناطق الريفية – 97.5% أو ما يقارب 770 مليون شخص (National Bureau of Statistics of China، 2018). وقام أمين عام الحزب الشيوعي الصيني آنذاك، “دنغ شياو بينغ”، باعتماد نهج إصلاحي لاقتصاد الصين باتّباع “سياسة الاقتصاد المفتوح”، و”الإصلاح الزراعي”، والتي كانت وما زالت نتائجها مذهلة بانخفاض غير عادي لمؤشر “الفقر النسبي” – وربما الأكثر دراماتيكية في تاريخ البشرية -. ويُبيّن الجدول (1) الانخفاض الهائل بنسب مؤشرات “الفقر النسبي” للمناطق الريفية وصولاً الى 3.1% أو 30 مليون شخص (المصدر السابق).

 

التغيير المذهل والقدرة على خلق الفرص من التحديات قد يقابله سلبيات مؤثرة أو محدودة التأثير، فكما يُشير بيان صحفي لرئيس المكتب الوطني للإحصاءات الصينين،

المنشور على “موقع صحيفة الشعب الصينية” في مطلع العام 2018، بالإضافة الى التقرير السنوي للأحصائات 2018، فإن مَعامل “جيني” – الذي يَقيس فجوة الدخل – قد بلغ 0.467 في العام 2017، مقارنة بأعلى نسبة بتاريخ الصين منذ الانفتاح حيث بلغت 0.491 للعام 2008، وهو يُمثل انخفاضاً جيداً، ولكنه أشار بأن هذا ما زال يُصنّف بأنه “خطير نسبياً”، وأن الصين ستركز على نظام عدالة توزيع الدخل لخفض معدل “جيني” (People’s Daily Online، 2018) (National Bureau of Statistics of China، 2018).

 

ـ جدول (1): نسب “الفقر” لعدد من الأعوام خلال الفترة من 1978-2017

 

ـ المصدر: المكتب الوطني للإحصاءات الصيني>

 

وعلى ذكر الدخل فهي مؤشر جيد لقياس “الطفرة” التي أحدثتها سياسات الصين المتعاقبة لرفع مستوى المعيشة لمواطنيها، فالجدول التالي يبين ارتفاع متوسط الدخل من 171.2 “رينمينبي” في عام 1978 الى 25973.8 ألف “رينمينبي” في العام 2019 (National Bureau of Statistics of China، 2018) – أو ما يقدر بـ(151) ضعف الدخل في 40 عاماً-

 

ـ الجدول رقم (2): متوسط نصيب الفرد من الدخل المتاح للأسرة 1978-2017

 

ـ المصدر: المكتب الوطني للإحصاءات الصيني.

 

وبالطبع هذه الأرقام مرتبطة بالانفتاح على العالم وخروج الصين من قوقعة الخوف من الأجنبي إذ كانت حبيسة لها، فالاستعمار والدمار الذي عانت منه الصين من القوى الاستعمارية الغاشمة، كان لها كل الأثر على الانعزال الذي حصل للصين، والشكل رقم (1) يبيّن الانفجار الذي حدث للناتج القومي الإجمالي في الأربعين عاماً الأخيرة، حيث انتقل الناتج الاجمالي من 149 مليار في العام 1978 الى ما يفوق 12 تريليون دولار امريكي لنهاية العام 2017 (National Bureau of Statistics of China، 2018) و (The World Bank, 2019)، وهو ما يعني أن الناتج المحلي الاجمالي تضاعف 82 مرة في الأربعين عاماً الأخيرة، وهو حق طبيعي لأكبر دولة في التعداد السكاني، ولكن للسياسات الوطنية الصينية نصيب الأسد من هذا الإنجاز. فبمقارنة بسيطة مع جارتها “الهند” – التي تقاربها بعدد السكان -، نجد ان الناتج المحلي الاجمالي للهند، أقل بقليل من 3 ترليون دولار أمريكي، أي أنه أقل من ربع ناتج الصين. وتحتل الصين حالياً المركز الثاني على العالم بهذا المؤشّر، وتمني النفس بأن تتصدره. وأفضل دليل على مدى تأثير الانفتاح الاقتصادي على العالم هو وجود مُنتج صيني في كل بيت تقريباً في هذا الكوكب.

 

 

 

 

الشكل رقم (1): الناتج القومي الاجمالي للصين خلال الفترة من عام 1978- 2017

 

المصدر: البنك الدولي والمكتب الوطني للإحصاءات الصيني.

 

نقطة أخرى لصالح الصين تتمثل بإطلاق “مبادرة الحزام والطريق”. لن أتكلم عنها كثيراً فهذه المبادرة أصبحت عالمية ومعروفة للجميع، ولكن ما يجذبني للحديث عنها هنا هو قيام الصين ببناء “ثاني أكبر تكتل اقتصادي” في العالم – بتشاركية وتعاونية مع دول المبادرة-، ويجدر التنويه الى أن هذا المشروع هو لبلد يُعتبر “بلداً نامياً” ولم يصل بعد الى مصف الدول المتقدمة، فبالتالي هو يفكر بمنهج الدول المتقدمة، بل يتغلب عليها، فتجد أن العديد من الدول الأوروبية المتقدمة وشركاتها تحاول أن تكون أساسية في هذا المشروع، من خلال “البنك الآسيوي لاستثمار البُنية التحتيّة”، الذي انشئ لدعم هذه المبادرة – ويُعتبر منافس للبنك الدولي -، أو من خلال توقيع إتفاقيات تفاهم ومشاركة في تطبيق بعض مشاريع المبادرة والمشاركة في حضور مؤتمرات المبادرة.

 

في الختام، لا أعتقد أن ما يحدث في الصين هو معجزة، بل أن كلمة معجزة تدل على حدوث شيىء خارق للعادة ويرتبط بالسماء، والصحيح أن الصين كطائر الفينيق الذي ينتفض من الرماد، فمهما حدث سوف تعود لتأخذ مكانها المناسب في العالم، فلديها كل المؤهلات لذلك كتاريخها الضارب في العصور، والتعداد السكاني الضخم، والتطور الذي تشهده معظم قطاعاتها، بالإضافة الى امتدادها الجغرافي وسلميتها مع جيرانها والعالم أجمع.

 

وفي اعتقادي، فإن السياسات الاقتصادية والسياسة الخارجية المتوازنة التي تنتهجها الحكومات الصينية المتعاقبة ،هي أساس النجاح الذي نشهده الآن، وخير دليل هو “مبادرة الحزام والطريق” التي أطلقها الرئيس “شي جين بينغ” في العام 2013 لرؤية الصين المستقبلية لقيادة العالم مع مَن يرغبون بذلك، وبطريقة تشاركية وتعاونية وثقافية لازدهار وتنمية المجتمعات المشارِكة، ودعم الاستدامة وبدون تدخل في سياسات الدول الأخرى، وأيضاً، حديث الصين المستمر بالانتقال من عصر الصناعة التقليدية الى عصر الإبداع الصناعي، وهو ما نلمسه بتقدم التقنيات التكنولوجية وكذلك صناعة البُنية التحتية للنقل وغيرها الكثير.

#بشار جابر: عضو في الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتاب العرب أصدقاء وحلفاء الصين، مُحلِّل سياسي واقتصادي أردني، وحاصل على ماجستير “سياسة عامة” من جامعة بكين – جمهورية الصين الشعبية.

هوامش:

References:

National Bureau of Statistics of China. (2018). Annual Report. Beijing: National Bureau of Statistics of China. Retrieved from http://www.stats.gov.cn/tjsj/ndsj/2018/indexeh.htm

People’s Daily Online. (2018). China’s Gini coefficient exceeded 0.4 in 2017. People’s Daily Online. Retrieved 5 20, 2019, from http://en.people.cn/n3/2018/0206/c90000-9424307.html

The World Bank. (2019, 5 21). GDP (current US$). Retrieved from worldbank.org: https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.MKTP.CD?cid=GPD_29&locations=CN

 

2 تعليقات
  1. مروان سوداح يقول

    مقالة ممتازة حقا وصاحبها الأستاذ بشار تعب جدا في إعدادها من مراجع صينية أساسا حتى تتسم بالموضوعية والدقة والإفادة الحقيقية.

  2. بشار جابر يقول

    اشكرك استاذ مروان وهذه فعلا شهادة أفتخر بها. وأتمنى مشاركة الجميع المعرفة التي اكتسبتها خلال دراستي بالصين, وأيضاً الاستفادة منكم جميعا كتاب هذا الموقع الأغر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.