موقع متخصص بالشؤون الصينية

استثمار الصين بالعلم والعمل

0

مجلة النداء اللبنانية ـ
جاد رعد:

تحتفل الصين قريباً بعيدها الوطني السبعين، بعد مسيرة نهوض قلّ نظيرها في مشارق الأرض ومغاربها، من الثورة مع الرئيس المؤسس إلى الانفتاح والتطوير خلال السبعينيات إلى إعادة إحياء طريق الحرير على صورة العصر وشاكلته. كما أنّ الشركات الصينية، لا سيّما هواواي، التي، رغم كل ما تتعرّض له من قنص وحصار وغيرها من طقوس “الحرب”، لا تزال قادرة على إنشاء مكتب إقليمي لها في أوروبا بمليارات الدولارت، إضافة إلى رعاية المواهب والمهارات التي يستلزمها قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات بميزانية تفوق تلك التي تخصص للأهداف ذاتها في الولايات المتحدة والدول الاوروبية مجتمعة.

ويزول كل التباس عند معرفة أن الاسواق الأميركية، بالنسبة لهواواي، رغم تراجعها بنسبة 39 % من إجمالي صادراتها إلى 26 % ، غير أنّ عائداتها ما زالت تزداد. ومع ازدياد الشك في جدوى المشاورات، لا تزال الصين تأمل أن تدرك الولايات المتحدة العواقب السلبية لإجراءاتها على المواطن الأميركي، المشتري-المستهلك والمزارع-المصدر والصناعي-المستورد لبعض مواده الأولية، فالضرر تجاوز حدود البلدين إلى بداية ركود عالمي سينتهي مع نهاية العام الحالي بكارثة اقتصادية تهدد بعض الدول بالزوال.
أراد ترامب إظهار نفسه حريصاً على مصلحة ناخبيه ففرض رسوماً جمركية على الصادرات الصينية في جولات متتالية. إلّا أنّ الرياح أتت بما لا يشتهي ترامب، فالعديد من الشركات المعروفة في بلاد العم سام رأت في الصين ملاذها الآمن وسوقها المرجوّة حتى ولو كان ذلك على حساب صورتها الوطنية التقليدية التاريخية مثل سيارات جنرال موتورز (GM) ولينكولن (Lincoln) وأحدثها تيسلا (Tesla) التي هجرت موطنها واستقرت في موطن العرق الاصفر. من جهة اخرى أتت رسالة الرئيس الأسبق لافتاً نظر ترامب إلى أن: “الصين لم تسرق.. الصين لم تغش”. الصين استثمرت في شعبها وأهلها وبناها التحتيّة بدل البذخ و”الاستثمار” في الاموال التي تبذل في الحروب.
إن الصين لم تحفّز التصدير من خلال تخفيض قيمة العملة الصينية، لأن تخفيض قيمة اليوان الصيني يضر بالاقتصاد الصيني أكثر ممّا ينفع، ولأن أساس القرار الرسمي هو النهوض بمستوى معيشة سكان قارة يشكلون سدس سكان العالم، قطع رئيسهم لهم عهداً بأن يدخلوا العام الجديد (2020) وكلهم فوق “خط الفقر” المتعارف عليه عالميّاً، بالاعتماد على التنمية المحلية التي تجاوزت ما يحلم به مجموع الدول الغربية المتشدق بالديمقراطية، وهو وعد تحقق قبل الموعد المحدد بأشهر عدة.
في مجال آخر، يطمح قطاع الإنترنت في الصين إلى أن يكون الأكثر تطوراً ودينامية في العالم، الأمر الذي لا يتحقق إلّا بالمحركات والإدارة الذاتية، أمّا الحديث عن سرقة تقنيات معينة واستعمال أخرى للتجسس فهو ليس إلّا زوبعة في فنجان، إذ أن مجموع براءات الاختراع الصينية التي قامت عليها تقنية الجيل الخامس بلغت حوالي 2000 اختراع مسجل، في حين أن ترامب أخفى العدد المتعلق به لأنه لا يتجاوز المئات. رغم ذلك تتكرّر في كل تصريحات وزارة الخارجية الصينية الدعوة إلى الحفاظ على الفوز المشترك (win-win) والتجارة الحرة، ولم تعمد إلى التلاعب بما تمتلكه الحكومة من سندات الخزينة الأميركية بما قيمته 1179 ترليون دولار. وذلك يعكس راحة الاقتصاد الصيني الذي توجه أكثر فأكثر إلى الاعتماد على النمو الاقتصادي والاستهلاك والاستثمار الداخليين، وهو ما لا تقدر عليه دول أخرى. وهي نجاحات أكدتها أرقام إحصائية مثل ارتفاع إيرادات السياحة الداخلية 8،7 % بعد عيد الخريف 2019 وارتفاع مؤشر إنتاج صناعة الخدمات 7 % وازدياد إجمالي مبيعات التجزئة للسلع الاستهلاكية بنسبة 8،2 %، وارتفاع حجم الاستثمار في الأصول الثابتة بنسبة 5.5 %، أي أن الطلب المحلي استمر في التوسع دون أي خسارة في التجارة والاستثمار الاجنبي الذي يواصل النمو، وكل ذلك في ظل هيكلة اقتصادية جديدة تسابق أزمة عالمية قادمة حتماً.
يضاف إلى ما ورد أعلاه، سياسة غير معلنة، تتلخص بضرورة تأمين مسكن وعمل لكل أسرة في أي مكان تواجدت. هنا شنّ بعضهم حرب أخرى متحدّثاً عن مدن بنيت وما وزالت فارغة، في حين أنّ حقيقة ما جرى هو فرض الحفاظ على وتيرة أعمال البناء بغض النظر عن حجم الطلب في الأسواق، والحكومة تصيب بذلك كثر من عصفور بحجر، لما في ذلك من حفظ لأسعار الشقق بعيداً عن مطامع تحقيق الأرباح السريعة، والحؤول دون تدني عدد فرص العمل، ورؤية مستقبلية في تأمين حاجة السكن ضمن مجموعة من القيم الهندسية والمالية والاجتماعية لا تتحقق “بالمفرق دون الجملة”. فالمدينة الصينية ما زالت تحافظ على فراغاتها الداخلية العامة وتراكم الفراغات الخاصة ولكل منها حرمه الخاص، مع إيجاد “ضالّة” فئة حديثي النعمة في التأنّق والميول الكلاسيكية بعيداً عن التأثير الغربي. ويلاحظ زائر الصين أن السكان يعيشون، رغم اختلاف مشاربهم، جنباً إلى جنب في تناغم دون حساسيات عرقية ولا اجتماعية، مع فرادة خاصة في بعضها مثل شانغهاي وتيانجين وهونغ كونغ.
* الإحصاءات الواردة اعلاه مصدرها المكتب الوطني للإحصاء في الصين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.