موقع متخصص بالشؤون الصينية

الصين والعرب: تواصل إنساني وعلاقات ولدت كي تعيش

0

 

 

موقع الصين بعيون عربية ـ
محمود سعد دياب*:

حرمنا فيروس كورونا من انطلاق فعاليات منتدى التعاون الصيني العربي، والذي كان مقررًا انعقاده هذا العام في العاصمة الأردنية عمان، لكن ظروف حظر السفر والتنقلات والإجراءات الاحترازية بسبب هذا اللعين كورونا أجبرت القادة الصينيين والعرب على تأجيل المنتدى الذي كان يعتبر متنفسًا للجانبين وفرصة جيدة لتوثيق أواصر التعاون ودراسة الخطط المستقبلية وإبرام اتفاقيات جديدة، واقتصر على الاجتماع الذي عقد على مستوى وزراء الخارجية افتراضيًا، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا وتكون الظروف مواتية لاستئناف مسيرة التعاون بشكل طبيعي.

حقيقةً، إذا تتبعنا خط سير التعاون الصيني العربي، سنجد أن بدايته ضاربة في عمق التاريخ، فهو خط يمثل حكاية عبور من الشرق الأقصى إلى الأوسط .. حكاية سارت عبر طريق الحرير القديم في اتجاهين، تطورت إلى ثلاثة اتجاهات من الصين إلى بلاد الشام ثم صعودًا إلى هضبة الأناضول فأوروبا، ومن الصين إلى بلاد الشام ثم مصر انتهاءً بمدينة الإسكندرية عاصمة البلاد وقتئذ. والطريقان يمران بدول وسط آسيا، ثم لاحقًا من الصين إلى بحر العرب على شواطئ سلطنة عمان والإمارات حاليًا ثم اليمن والصومال وجيبوتي وإريتريا عند مضيق باب المندب ثم السودان ومصر والحجاز على البحر الأحمر حتى السويس المصرية نهاية بمدينة الإسكندرية أيضًا..

حكاية العبور تلك رسمها الصينيون والعرب قبل الميلاد من أصحاب الحضارات القديمة في مصر والعراق وسوريا ـ بلاد الشام كانت تسمى كلها سوريا في قديم الزمان ـ واليمن .. حكاية أفرزت علاقات ولدت لكي تعيش، كونها جاءت في لحظات تحدٍّ من أبناء الحضارات القديمة بهدف تبادل الثقافات قبل السلع والخدمات، فقد التقت رغبة التجار المهرة في قديم الزمان على ذلك التواصل الإنساني العابر للقارات، وهو الأول من نوعه، ذلك التواصل الذي أفرز علاقات ووشائج اجتماعية وثقافية على طول طريق الحرير، فنجد صينيين استقروا ببلاد العرب واندمجوا بمجتمعاتها، وعرباً استقروا في بلاد التنين وأنشأوا مجتمعات باقية آثارها حتى الآن في العاصمة القديمة شي آن ومدينة ينتشوان وما حولها بمقاطعة نينغشيا .. وهي آثار ظاهرة في فنون العمارة والعادات والتقاليد مع تأثر كبير طبعًا بالتقاليد الصينية في كل مجال ..

وهو التواصل الذي أثمر توطين صناعة الحرير والخزف الصينيين لأول مرة في مصر، ومدينة الإسكندرية عاصمة مصر البطلمية شاهدة على مصانع النسيج التي أشرف الخبراء الصينيون على تدشين صناعة الحرير فيها إذ علموها ـ ومعها صناعة الخزف ـ للمصريين ، بقوة دفع من رغبة الإمبراطور الصيني والملكة كليوباترا التي كانت ترتدي الحرير الصيني وتعشق الخزف، لكي تتحول مصر فيما بعد إلى قاعدة لتلك الصناعة تضاف إلى خبراتها في صناعة النسيج عموما منذ عهد القدماء، وقد صدّرت إنتاجها للشرق والغرب.

موجة الرحلات المتبادلة تطورت مع الزمن كي تتوسع من مجرد علاقات تجارية إلى جسر تواصل حضاري وثقافي ومعرفي ينقل في الاتجاهين، ولم تنقطع هذه العلاقات على امتداد العصور، بل تطوّرت وازدهرت مع تطوّر الحياة وزيادة الحاجة إلى التعرّف إلى الثقافات الأخرى، حتى انقطعت فجأة في عهد الدولة العثمانية لكي يعيد إحياؤها الرئيس الصيني شي جينبينغ بتدشين مبادرة الحزام والطريق التي بنت على فكرة الطريق القديمة ووسعتها إلى طرق بحرية وجوية وبرية، وخلال العقود الأخيرة ازدادت الصلات وتوثقت حتى وصلنا إلى مستوى متقدم أزعج الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة.

إن التحركات الصينية على طول الحزام والطريق هي تحركات تحكمها مبادئ تراعي الإنسانية واحترام استقلالية وخصوصية كل دولة وحقها في إدارة شئونها الداخلية كيفما يحلو لها، كما تحقق أيضًا حلم أبنائها في تحقيق التنمية المستدامة، وهنا أستعير تصريحات نائب رئيس مجلس الدولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي خلال المنتدى الصيني – الأمريكي لمراكز الفكر ووسائل الإعلام، عندما استنكر مقولة أن “نجاح الطريق الصيني سيسبب صدمات وتهديدات للغرب”، مؤكدًا أن “الصين التي تتمتع بـ5000 سنة من الحضارة، لم يكن لديها قط جينات العدوان والتوسع، وأنها لا تنسخ نماذج أجنبية على أرضها ولا تصدر نماذج صينية للغير، ولا تطلب من دول أخرى نسخ ممارسات الصين…لا يجب أن يكون (أبيض أو أسود) ولا ينبغي أن تؤدي الاختلافات في الأنظمة إلى عدم التوصل إلى اتفاق”.

إن الصين تدرك تمامًا أن عصر الاستعمار قد ولى ولن يعود، وقررت أن تستفيد من دول العالم، وفي القلب منها دول العرب، وتفيدها بالقدر ذاته دون استغلال أو تهميش أو سيطرة أو حتى تأثير في القرار السياسي والاقتصادي، وهو ما وضحه وانغ يي في تصريحاته مؤكدًا أن “الصين لا يمكنها أن تصبح “ولايات متحدة” أخرى، والموقف الصحيح هو الاحترام والتقدير والتعلم والمساعدة المتبادلة، وفي هذا العالم الملون، يمكن لبكين وواشنطن التعايش بسلام رغم اختلاف الأنظمة الاجتماعية”.

إن الصين قد أعلنت مساندتها للقضايا العربية بعد سنوات قليلة من تأسيس الجمهورية الجديدة، وفي القلب منها القضية الفلسطينية بالطبع، وهي الجرح الغائر في قلب كل عربي. وكان مؤتمر قمة دول عدم الانحياز في باندونج ضربة البداية، واستمر الدعم المستمر على المستوى الأممي والدولي وكان آخرها إعلان الصين دعم المبادرة المصرية “إعلان القاهرة” لحل الأزمة الليبية والتي أعلن عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي مطلع شهر تموز/ يوليو الجاري، في إطار دعم بكين لجامعة الدول العربية في أداء دورها الإيجابي بشأن القضية الليبية، وتبني الدول العربية قرار معارضة التدخل العسكري الخارجي، والدعوة لوقف إطلاق النار فوراً ودعم التسوية السياسية للقضية الليبية.

في مؤتمر باندونغ عام 1955 تبلور الموقف السياسي الصيني تجاه القضية الفلسطينية بشكل واضح، ولعب الزعيم جمال عبدالناصر والدبلوماسي الفلسطيني في الوفد السوري أحمد الشقيري دورًا كبيرًا في التأثير إيجابًا على موقف رئيس الوفد الصيني شو ان لاي، لكي تحول بكين دفة موقفها من الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية من دور لا يتجاوز حدود الدعوة إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، من دون الاهتمام بحقائق الصراع وتفاصيل القضية قبل المؤتمر، إلى تأييد النضال العربي ودعم الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني بعد المؤتمر، وإعلانها دعمها بحزم عملية السلام وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة وتأييد مطالب فلسطين المشروعة فيما يعرف بـ”حل الدولتين”، ما يؤكد وقوف بكين مع الشعوب المظلومة منذ بداية الجمهورية الجديدة لأنها دولة وشعب ذاقا الظلم والاحتلال والقتل على مدار سنوات.

كان “السلام” هو المرتكز الرئيسي لتوجهات الصين في العصر الحديث وتحركاتها تجاه القضايا العربية على مدار قرابة 65 سنة، ففي الأحداث السورية وقفت بجوار الشعب السوري ودعمت حكومته ضد التنظيمات الإرهابية على المستويين الدولي والأممي، وفي أحداث ما سمي بالربيع العربي، أكدت مرارًا على ضرورة تحقيق الاستقرار والجلوس إلى مائدة المفاوضات ووقف الاقتتال والحرب بالدول التي عانت من ويلات ذلك الربيع المدعوم غربيًا. لكن العرب على الجانب الآخر يرون أن الصين لا بدّ أن تلعب دورًا أكبر في المنطقة، وهي المطالبات التي لاقت استجابة من الصين التي أعلنت خلال فعاليات منتدى أمن الشرق الأوسط، على لسان نائب السفير بسفارتها في القاهرة شياو جون تشنغ في تصريحات خاصة لـ”روزاليوسف”، أن بكين “تبدي اهتمامها بالشرق الأوسط وقلقها الشديد أيضًا حيال الأوضاع الراهنة التي تعيشها المنطقة، وعزمها على لعب دور صانع السلام ومعزز الاستقرار والمساهم في تنمية المنطقة”.

وكما يعلم الجميع بالطبع، فإن تعبير الشرق الأوسط هو كناية عن الوطن العربي، وهو التعبير الذي اصطلح المجتمع الدولي عليه مؤخرًا ترضيةً لدولة الكيان الصهيوني التي ترغب في إيجاد مبرر لها للوجود كخنجر يشق الأمة العربية إلى نصفين، وهي دولة ليست عربية لا على مستوى العرق ولا اللغة، فبالتالي فكونها دولة شرق أوسطية قد يكون أمرًا مقبولًا.

تصريحات الوزير المفوض الصيني دعمها الرئيس شي جينبينغ عندما أعلن عن مقترح لإقامة المنتدى بهدف تشكيل إطار للسلام في الشرق الأوسط، والمساهمة في تقديم أفكار تساعد على بلورة خطة لتحقيق الأمن والسلام في المنطقة، وهو المنتدى الذي يعتبر منصة للتباحث والتحاور في التحديات التي يواجهها أمن المنطقة، والخروج بحلول لقضاياها تحت سقف واحد، وذلك من خلال المشاركين من كبار المسؤولين والخبراء في مجالات الاستراتيجيات والدبلوماسية والأمن من الصين والدول العربية وغيرها، وهو المقترح الذي كان قد مهد له “شي” قبل عامين عام في حفل افتتاح الاجتماع الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني – العربي بأن الجانب الصيني مستعد لتعزيز الحوار والتشاور مع دول الشرق الأوسط في مجال الأمن.

مقترح “شي” وتحركات الصين تكشف عن توجهات أهل بكين على المستوى الدولي في وقت تمر فيه منطقتنا العربية بمرحلة من فقدان الأمن والسلام، وتعاني من ضبابية المعايير المزدوجة والتحيز الصارخ في السياسة الأمريكية الحالية، ومقابل ذلك تدعو الصين إلى التنمية السلمية وإقامة علاقات دولية يسودها السلام والاستقرار والتعاون والكسب المشترك، مؤكدة أن المخرج الأساسي لقضية أمن المنطقة يكمن في التنمية، لأن الصين ترى أن الاستقرار والتقدم مرتبطان ببعضهما البعض، وأنه من أجل إعادة الاستقرار والأمن، يتعين علينا أن نتخذ العدالة والإنصاف كأساس والتعددية كمنصة والتنمية المشتركة كهدف ومكافحة الإرهاب الشاملة كضمان والمصير المشترك كمرجع، لنتمكن من تحقيق الاستقرار في المنطقة ودفع عجلة التنمية السلمية.

كما تؤكد الصين على مساعدة الدول العربية في مكافحة الإرهاب التي اكتوت بناره، مع عدم اتباع المعايير المزدوجة في ذلك، وربط الإرهاب بديانات محددة، حتى لا يتسنى للبعض استخدام ذريعة “حقوق الإنسان” لتشويه جهود البلدان الأخرى في مكافحة الإرهاب والتطرف.

إن الصين لها رؤية مهمة في قضايا المنطقة، تتمثل فيما أشار إليه الرئيس شي جينبينغ في أن الصين تتخذ سياسة متطابقة مع الرغبة الشديدة لشعوب المنطقة في إحلال السلام والتنمية، حيث ترى أن الاضطرابات في الشرق الأوسط ترجع بالأساس إلى التنمية، والتي ترجح كفة الأمل على اليأس في عقول الشباب وتبعدهم عن العنف والفكر المتطرف والإرهاب.

كما ترى أن الأمن المشترك يعني احترام وضمان الأمن لكل بلد ويجب أن يكون للجميع ولا يجوز لبلد على حساب أمن الآخرين، ولذلك يتطلب الالتزام باحترام سيادة الدول واستقلالها ووحدة أراضيها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والأمن المتكامل يعني صيانة الأمن في المجالات التقليدية وغير التقليدية، ويتطلب اتخاذ إجراءات متعددة ومتكاملة لتعزيز الحوكمة الأمنية في العالم، أما الأمن التعاوني يعني تعزيز الأمن والثقة الاستراتيجية المتبادلة بين الدول عبر التحاور والتعاون وأخيرًا الأمن المستدام والذي يركز على القضايا التنموية والسعي لتحسين معيشة الشعب وتقريب الهوة بين الأغنياء والفقراء، بما يعزز ركائز الأمن.

مفهوم الصين ومواقفها بشأن مكافحة الإرهاب تتطابق مع رؤية العرب وأبرزهم مصر بشكل أساسي، حيث يتفق كل من الصينيين والعرب على أن الإرهاب خطر يهدد استقرار المنطقة والأمن العالمي ويتربص لزعزعة تناغم القوميات والأقليات، وهو ما يتطلب جهدا دوليا لاستئصاله من خلال التوصل إلى توافق عالمي حول مكافحة هذا الخطر، رافضة الربط بين الإرهاب وأي دين أو عرق أو دولة.

وتتفق رؤية الصين والدول العربية على أن معالجة مشكلة الإرهاب بشكل جذري وشامل، تأتي من خلال معالجة وحل جميع القضايا الساخنة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، جنبا إلى جنب مع قضايا سوريا والعراق واليمن وليبيا، وعدم التركيز على حل أية قضية على حساب أخرى، وإعطاء الأولوية للتفاوض المباشر بين أطراف الصراع وتنفيذ مشاريع إعادة إعمار ما دمرته الصراعات ودفع عجلة التنمية الاقتصادية وتوفير المساعدات الإنسانية بهدف القضاء على البيئات الحاضنة للإرهاب بشكل جذري.

ولذلك يركز الجانب الصيني على موضوع الحل العادل لقضية الشعب الفلسطيني واحتلال إسرائيل للجولان السورية وفق القرارات الشرعية الدولية، وأنه لا يمكن تحقيق الأمن بغياب العدالة، فالأساس لتحقيق العدالة في المنطقة هو عودة الحقوق لأصحابها الشرعيين.

باختصار إن الاهتمام الصيني بمنطقتنا العربية لا يقف عند حد مبادرة الحزام والطريق وتعزيز مصالح بكين الاقتصادية في المنطقة، كما يعتقد الكثيرون، بل يتعدى ذلك إلى الحرص الزائد على استقرار هذه المنطقة ومنع انزلاقها نحو حروب وكوارث إضافية.

*صحافي مصري مختص بشؤون الصين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.