موقع متخصص بالشؤون الصينية

سر التناغم والاختلاف.. هل النموذج الصيني أفضل من الغربي ولماذا؟ | رؤية هادئة

0

موقع الصين بعيون عربية-

محمود سعد دياب*:

ما الذي حمَى الصين من الحروب بين الأديان والطوائف المتعددة؟

قد يعتقد الباحث في الشأن السياسي الصيني، أنه ينبغي عليه قضاء عمره كاملًا لكي يفهم النظام السياسي هناك ويهضم أبعاده وتفاصيله المعقدة، خصوصًا إذا علمت أن النظام السياسي المعمول به هناك كان صمام أمان تلك الدولة المليارية «من حيث التعداد السكاني طبعًا»، والذي جعلها تصمد أمام أية محاولات لتفكيكها واختراقها وتحويل مساحتها الضخمة لدويلات صغيرة، فضلًا عن كونه كان دافعًا لها لكي تتبوأ المكانة الاقتصادية التي وصلتها مؤخرًا فضلًا عن المكانة الجيوسياسية على مسرح الأحداث العالمي.

في هذا المقال وبمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، أحاول بهدوء وحيادية الإبحار في تفاصيل النظام السياسي الصيني، وكان سؤالي دائمًا عن مميزات النظام الصيني، وبما أن الغرب متقدم أيضًا فأيهما أفضل النموذج الغربي أم الصيني؟

بداية أنا أعتبر نفسي محظوظًا لأنه توافرت لي فرصة العيش في الصين عاماً كاملاً تقريبًا في 2019، وقتها التقيت عدداً كبيراً من أصدقاء باحثين وسياسيين صينيين، وكنت دائمًا مفعمًا برغبة ونهم للمعرفة دائم السؤال والاستفسار، وهو أمر لم يجد فيه هؤلاء الأصدقاء الصينيون غضاضة بل بالعكس قال لي أحدهم وقد ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه: حقيقةً أنا أحييك على محاولتك للفهم عكس معظم الصحفيين وحتى الباحثون الذين يعملون بدون فهم مجرد نقل الخبر أو إعداد الدراسة دون أن يتضمن عملهم العمق المطلوب..

وقتها بادرت هذا الشخص المخضرم في السياسة الصينية، قائلًا: بما أنك باحث كيف ترى النظام السياسي الصيني؟ فهو رغم تعقيداته غير واضح بالنسبة لأي شخص أجنبي مثلي، فضلا عن أن الناس تعتقد أن النظام الغربي هو النموذج الأفضل. وقتها أوضح أن دورة السياسة الغربية ويقصد هنا الانتخابات محددة وقصيرة المدة وأقصاها 8 سنوات للرئيس، وحتى بالنسبة لنواب الكونغرس فإذا طالت مدة بقائهم فإنهم دائمًا يكونوا محددين بمهام تتعلق بمصالح قصيرة المدى لبعض الناخبين المؤثرين في عملية التصويت وليس مصلحة عامة الناس، لذلك فإنهم لا يمكنهم وضع خطط طويلة الأجل، لأن الرئيس أو عضو الكونغرس يهتم بإرضاء الناخبين وتحقيق مصالح قصيرة الأجل مع تجاهل قضايا ملحة وعدم وضع خطط طويلة الأجل لمعالجتها مثل البطالة والحد من الفقر أو الإصلاح الاقتصادي على سبيل المثال، ولذلك فإن طريقة الحوكمة المتبعة في الغرب تفشل دائمًا في التعامل مع الأزمات المالية العالمية ولنا مثال في ذلك الكساد الكبير 1930 والأزمة المالية 2008، عكس النموذج الصيني الذي يأخذ بالاعتبارات الشاملة ويدرس الأمر بشكل كامل ويختار الوقت المناسب لتطبيق سياساته وخططه التي قد تصل إلى 50 أو 100 عام .

رد الرجل كان وافيًا شاملًا لكنه رغم ذلك لم يرو نهمي المتواصل، فتحدثت مع صديق مختلف عن أمر مهم آخر وهو مسئولية السياسي بالصين والغرب، حيث يقول إن السياسي في الغرب يكون مسئولًا عن مجموعة ناخبين ببلده وليس جموع الناس سواء في دائرته الانتخابية أو في الدولة كلها أو بباقي دول العالم، فمثلًا من يدافع منهم عن مشروع قرار لرفع قيمة الضرائب على السولار والبنزين بهدف خفض انبعاثات الكربون والحفاظ على البيئة، سيواجه غضبَا من ناخبيه ولن يفوز في الانتخابات التالية، والأمر نفسه ينطبق على باقي الملفات التي تقدم علاجاً جذرياً للمشاكل على المدى الطويل، مقابل ذلك تجد من يدافع عن قرارات تقدم مسكنات مؤقتة للمشاكل يحصل على شعبية جارفة ويحصل على أغلبية الأصوات، والأمر نفسه إذا ما انحاز النائب أو السياسي لمصلحة عرقية أو قومية مؤثرة في الانتخابات على حساب قوميات وأعراق أخرى، ما يعد نوعًا من الظلم المجتمعي.

خلال بحثي المستفيض قرأت كتاباً أيضًا عن السياسة في الصين، أكد مؤلفه أن النموذج الصيني يطبق فكرة “التناغم والاختلاف” لحل العديد من المعضلات التي تواجه الحوكمة، وهي الفكرة التي حمَتْ الصين من الحروب بين الأديان والطوائف، فهناك 56 قومية تعيش على الأراضي الصينية الشاسعة يعتنقون خمسة أو ستة أديان أكبرها البوذية والإسلام والطاوية والمسيحية، وهذه الفكرة نابعة من مفهوم “الوسطية”. ويقول الكاتب إن نبي الإسلام محمد “ص” قد أوصى بالوسطية بل إن الدين كله قائم عليها مع مفاهيم أخرى مثل التسامح وقبول الآخر.

وأشار المؤلف إلى كتاب من الكلاسيكيات القديمة اسمه “تشاو يي” ذكر مفهوم الوسطية كفضيلة يجب أن يتحلى بها الحاكم أو السياسي تجاه الشعب من جهة، وأفراد الشعب تجاه الحاكم ومع بعضهم البعض من جهة أخرى، وفيما بعد تطور المفهوم إلى “التناغم” والذي يعني “البحث عن أرضية مشتركة ودرء الخلافات” للوصول إلى عالم “التناغم والاختلاف”. عندما توصلت لتلك الحقائق المتوافقة مع الإسلام الحنيف، وجدتها عكس النظام الغربي فتجد أن الحروب التي نشبت في أوروبا منذ العصور الوسطى ومنها الحملات الصليبية على العالم الإسلامي كانت لأسباب دينية، وهكذا استمرت الحروب بين الأديان والطوائف المختلفة لآلاف السنين، ودمرت تقريبًا الحضارة الغربية، لذلك انطفأت شعلة الحضارة اليونانية والرومانية القديمة لأن هذه الأديان أو المذاهب تنكر الأخرى، فإذا كنت لا تؤمن بديني، فأنت كافر!

وأعتقد أنه لا يزال تقليد تكفير الغير مستمراً حتى يومنا هذا سواء في أوروبا أو في بلداننا العربية والإسلامية، وإذا نظرنا لنموذج تنظيم داعش ودولته في العراق والشام سنعلم أن أساسه تقليد التكفير الذي بدأ في أوروبا في العصور الوسطى، ومن ثم فإن داعش “الممول والمدعوم غربيًا” كان بطل أحداث “الربيع العربي” التي أثمرت نزوح ملايين اللاجئين لأوروبا والولايات المتحدة، فقد ارتدت “جريمة الغرب” عليه وأضرته شخصيًا، ما يؤكد فشل النموذج الغربي بدعم الثورات الملونة سواء في بلاد العرب أو في أوكرانيا وجورجيا سابقًا ومؤخرًا في فنزويلا، فلم تكتف تلك الثورات في تدمير بلدانها فقط ولكن ارتد التدمير والخراب على الغرب.

أيضًا إذا نظرنا لحالات الطعن والعمليات الإرهابية التي شهدتها دول أوروبا مؤخرًا، والتي نفذها في الأساس مجموعة من المحسوبين على تيارات الإسلام السياسي كانوا مدعومين من الغرب سابقًا، في حين طالبت تلك الثورات الملونة وأحداث الربيع العربي بتطبيق النموذج الغربي في الديمقراطية، ويبدو أن هؤلاء الثوار لم يتعلموا من دروس الماضي وما ذكره الرئيس بوش الإبن قبل غزو العراق عام 2003، عندما قال إن الولايات المتحدة ستحول العراق إلى واحة من الديمقراطية، وكانت النتيجة عراق مهلهل يتنازع فيه أبناء الطوائف والأعراق وغابت جهود التنمية وفشلت الخطط الحكومية وسط المظاهرات وأحداث الفوضى والعنف وتوقفت حركة التنمية منذ رحيل الرئيس صدام حسين عن الحكم، وأحداث العنف تلك حولت بلدان الربيع العربي إلى بلدان ممزقة تسودها الحروب الأهلية وغابت التنمية أيضًا، ولكن هناك دول حولت ذلك “الربيع العربي” إلى “شتاء عربي” وقاومت تلك المساعي التخريبية ووضعت نفسها من جديد على طريق التنمية مثل مصر وتونس، في حين دول أخرى لا تزال تعاني من الآثار التدميرية لتلك الأحداث.

في الصين كما قالت الكلاسيكيات القديمة، تجد أن جوهر الثقافة المتوارثة عبر الأجيال هو مصطلح “التناغم والاختلاف”، فمنذ عهد الحكيم كونفوشيوس، يرى الصينيون أن الكون عبارة عن أشياء متشابكة ومترابطة لذلك فيجب أن تكون هناك علاقة تكافلية ومتناغمة بين الإنسان والطبيعة، والإنسان والإنسان الآخر، والثقافة والثقافة الأخرى، وإذا نظرنا إلى الإسلام عندما دخل الصين مثلًا كانت مبادئه متوافقة مع مبادئ الكونفوشية المتوارثة منذ مئات السنين قبل الميلاد، لذلك لم يجد المسلمون الأوائل في الصين صعوبة في التكيف والاندماج مع تعاليم كونفوشيوس التي تحض على نفس الفضائل التي يحض عليها الإسلام.

أيضًا هناك مثال آخر مثل البوذية التي جاءت أساسًا من الهند لكي تندمج مع الكونفوشية والطاوية في كيان واحد، ويشكل ثلاثتهم مع الإسلام التقاليد الصينية المتعارف عليها الآن، لذلك نجد وجود اختلافات بين البوذية في الصين والهند فمن الممكن أن نقول إن البوذية انصهرت في القالب الصيني واتخذت شكلًا أقرب إلى الكمال منه في البوذية الهندية، وأثمر ذلك المزيج عن حالة من السلام الكامل منعت وجود حروب قائمة على أساس ديني أو عرقي على مدار التاريخ الصيني، ومما لا شك فيه أن فكرة “التناغم والاختلاف” هي السبب الرئيسي وراء قدرة الحضارة الصينية على الامتداد لآلاف السنين، فهي أقدم حضارة ممتدة حتى الآن.

انتظرونا في مقالات أخرى بمشيئة الله..

*صحفي مصري بمؤسسة الأهرام وباحث في الشئون الدولية والصينية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.