موقع متخصص بالشؤون الصينية

الموقف الصيني من قرار انسحاب الولايات المتحدة الأميركية العسكري من أفغانستان

0

موقع الصين بعيون عربية-

محمد زريق:

اتخذ الرئيس الاميركي جو بايدن قرارا استراتيجيا بسحب القوات الاميركية من افغانستان، بعد عشرين عاما من التواجد في افغانستان تحت ذريعة القضاء على الارهاب ونشر الديموقراطية. بعد عشرون عاما، ازدادت طالبان قوة ونفوذا وقد استولت على كافة مفاصل الدولة والمدن الرئيسية بسهولة وبفترة قياسية، مما يترك العديد من التساؤلات عن الدور الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة في افغانستان وعلاقتها مع طالبان، المفارقة هي أن أعظم قوة في العالم مصحوبة بحلف من الجيوش القوية لم تستطع القضاء على جماعة مسلحة غير ضخمة العديد.
رئيس الوزراء البريطاني الاسبق طوني بلير الذي كان احد المروّجين السياسيين للتدخل الاميركي (الغربي) في أفغانستان قد أعرب عن صدمته من قرار إدارة الرئيس بايدن بالانسحاب واعتبر أن هذا القرار “مأساوي وخطير وغير ضروري وأبله”. قاد طوني بلير بريطانيا للمشاركة بالحملة الاميركية ضد أفغانستان عام 2001 في ظل إدارة الرئيس جورج بوش. في تصريح لاذع لقيادة الولايات المتحدة قال بلير “إن غياب الإجماع والتعاون والتسييس العميق للسياسة الخارجية وقضايا الأمن يضعف بشكل واضح قوة الولايات المتحدة”. بالتالي إن حلفاء الولايات المتحدة يشعرون عدم الثقة في ظل غياب التنسيق والتعاون السياسي والامني في القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك. بالنهاية قدم بلير توصية للادارة الاميركية لوضع خطة دبلوماسية استراتيجية لممارسة “أقصى قدر من الضغط” على طالبان، وقال: “نحتاج إلى وضع قائمة بالحوافز والعقوبات والإجراءات التي يمكننا اتخاذها، بما في ذلك حماية السكان المدنيين حتى تفهم طالبان أن أفعالها سيكون لها عواقب”.
بعض المحللين السياسيين قد طرحوا مقولة “هدر دماء وأموال الولايات المتحدة في مستنقع أفغانستان”، البعض ينظر إلى قرار الانسحاب والهروب من أفغانستان على أنه ضربة مروعة لمصداقية الولايات المتحدة: مصداقيتها بوصفها شريكا، ولمكانتها الأخلاقية في الشؤون العالمية، بيد أن الرئيس بايدن يشير الى أن الولايات المتحدة قد عادت من جديد وبقوة الى الساحة الدولية، فهل يفتش الرئيس بايدن عن باب لخروج الولايات المتحدة بسلام من القضايا الشائكة التي تورطت بها الادارات المتعاقبة منذ عشرين عاما؟ هل ترغب الادارة الحالية بارجاع الولايات المتحدة الى نقطة الصفر أو الذروة أيام انهيار الاتحاد السوفياتي وضعف المعسكر الشرقي؟
إن المشهد الدولي الحالي يختلف بكثير عن حقبة بداية القرن الواحد والعشرين، باتت الصين أكثر قوة وتمتلك الاقتصاد الثاني عالميا، روسيا قد استعادت قواها وتعمل على تشكيل حلف أوراسي، وإيران تتمدد بسرعة في الشرق الاوسط بالرغم من العقوبات الاميركية. إن الرئيس بايدن على دراية بأن الولايات المتحدة ستخسر الوقت والاموال في حروب عبثية في الشرق الاوسط، لأن الخطر الأكبر الداهم على الولايات المتحدة قادم من شرق آسيا وأكثر تحديدا من الصين، لذا تسعى الولايات المتحدة إلى زيادة عديدها العسكري في آسيا-الهادئ ومنطقة بحر الصين الجنوبي، وإقامة المزيد من التحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية في آسيا بهدف تقويض التقدم الصيني.
نشرت الصحف العالمية صورا لاجلاء اميركيين بالمروحيات من سايغون الفيتنامية قبل خمسين عاما ومن كابل الافغانستانية مؤخرا، بالاشارة إلى عدم تغير استراتيجية الولايات المتحدة منذ ذلك الحين. يختلف سياق الأحداث الدولية اليوم اختلافا جذريا عما كان عليه الوضع في السبعينيات. إن الولايات المتحدة – بل الغرب بشكل عام – منخرط في العديد من الصراعات، ولكنه ليس الرابح الصريح. وقد يكون الانهيار الأفغاني كارثة، في الحرب التي عرفت باسم الحرب على الإرهاب. لكن لا يمكن النظر إلى فشل واشنطن في الصراع الأوسع بين الديمقراطية والاستبداد، إلا على أنه نكسة خطيرة. السؤال الاساسي هل سيشعر حلفاء الولايات المتحدة، مثل إسرائيل واليابان ودول مجلس التعاون الخليجي، بالاطمئنان إزاء هذا القرار الاميركي أم بالخوف وعدم الأمان على مستقبل بلادهم المرتبط كثيرا بالسياسة الخارجية الاميركية.
إن النموذج الغربي الذي يروج لنشر الديموقراطية في العالم قد أثبت فشله، مما يشكل داعما للنموذج الصيني القائم على التعاون والشراكات والمصير المشترك دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، لذا يبدو أن النموذج الصيني، من أدواته مبادرة الحزام والطريق، أكثر جاذبية وفيه الكثير من المكاسب الاقتصادية والاسقرار الأمني. إن الانسحاب الاميركي قد يتحول الى فرصة للصين لسد الفراغ وبناء شراكات استراتيجية مع هذه الدولة الغنية بالموارد الطبيعية وذات الموقع الجغرافي المتميز بين جنوب آسيا ووسط آسيا والشرق الأوسط.
دافعَ الرئيس الأميركي جو بايدن عن قراره بسحب القوات الأميركية من أفغانستان في الخطاب الذي وجهه إلى الشعب الأميركي الاسبوع الماضي، بالنسبة له إن هذا القرار يعكس إعادة ترتيب المصالح الأميركية، ويمنحها وضعا أفضل للتعامل مع التحديات الجديدة للقرن الواحد والعشرين، كما يوضح للحلفاء والخصوم -على حد سواء- أولوياتها التي تحدد إذا كانت ستنفق مواردها هنا أو هناك. على إثر القرار الأميركي عقد وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي جلسة طارئة وتم توجيه الانتقاد لواشنطن وهي من المرات النادرة التي توجه أوروبا اللوم للولايات المتحدة بشكل علني وصريح، لأن ما أقدمت عليه في أفغانستان قد يتسبب في تدفق اللاجئين إلى الدول الأوروبية، كما من شأنه أن يعيد أفغانستان منصة للإرهاب في آسيا الوسطى. قال وزير دفاع لاتفيا “لقد انتهت هذه الحقبة، ولسوء الحظ فإن الغرب -وأوروبا على وجه الخصوص- يظهر بذلك ضعفه للعالم”. كما وصف السياسي الألماني أرمين لاشيت، المرشح لخلافة المستشارة أنجيلا ميركل، أن انسحاب القوات الغربية من أفغانستان “أكبر كارثة شهدها حلف شمال الأطلسي منذ تأسيسه”.
إن سيطرة طالبان على أفغانستان قد يعيد الى الضوء مشروع مد أنابيب الغاز من روسيا عبر البحر الأسود ليصل إلى الهند من خلال أراضي تركمانستان ثم أفغانستان. وهذا المشروع العملاق قد يغير من خريطة الطاقة في العالم مما قد يؤثر وبشدة على أسعار المحروقات. والخطورة هنا تكمن في قدرة طالبان إن مرّت الأنابيب عبر أراضيها أن تتحكم في أسعار الطاقة العالمية لدرجة ما، وأن تستغل ذلك من خلال التلاعب ببورصات النفط لصالحها. بعد محادثات أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في موسكو يوم الجمعة الماضي، قال بوتين إن سيطرة حركة طالبان على أفغانستان تظهر أن الجهود التي يبذلها الغرب لفرض الديمقراطية عديمة الجدوى، وأضاف بوتين “من الضروري إنهاء السياسة الأمريكية غير المسؤولة، التي تهدف الى تأسيس ديموقراطيات في دول أخرى وفقا لمبادئ لا تتماشى مع مجتمعاتها، دون أخذ الخصائص التاريخية والوطنية والدينية بعين الاعتبار، وفي تجاهل تام للتقاليد التي تعيش بها الشعوب الأخرى”.
إن الحكومة الصينية لم تتخذ بعد موقفا حاسما إزاء ما يحدث في أفغانستان، فقد ذكر الناطق باسم الخارجية الصينية تشاو لي جيان أن الحكومة الصينية ستتخذ موقفها بعد تشكيل حكومة في أفغانستان، الا أن الحكومة الصينية منفتحة للتواصل والحوار مع طالبان، فقد أظهر الطرفان حسن النوايا خلال لقاء وفد عن طالبان لوزير الخارجية الصيني وانغ إي في تيانجين. في هذا الاطار صرّحت المتحدثة باسم الخارجية الصينية هوا تشون ينغ أن بلادها “تحافظ على اتصال وتواصل مع حركة طالبان الأفغانية”.
إن هذه الخطوة الاميركية سيكون لها تداعيات طويلة الامد وتأثيرات على الامن والاستقرار في آسيا الوسطى وباكستان والشرق الاوسط، وقد يطال الحدود الصينية الضيقة مع أفغانستان ذي الغالبية المسلمة من الاويغور، التأثيرات قد تمتد الى مباردة الحزام والطريق التي طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013. تركز الصين على تعزيز التواصل الاقتصادي مع أفغانستان عبر بناء الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، الذي ستستفيد منه كابل في نهاية المطاف. إن تعاون الصين- طالبان سيطال الامن وحماية الحدود مع الصين وعدم استخدام الاراضي الافغانية للقيام بأعمال تعرض أمن الصين للخطر.
قال غينغ شوانغ، نائب المندوب الدائم للصين لدى الأمم المتحدة، إن منظمات إرهابية عدة، من بينها حركة “تركستان الشرقية” اجتمعت وتطورت في أفغانستان، آملا ألا تصبح أفغانستان “جنة إرهابية مرة أخرى”. إن الصين ستسعى من خلال اتصالاتها مع طالبان لرسم خطوط حمر، وتأكيد أن تطوير أي علاقة في المستقبل مرهون بالحفاظ على أمن الصين. وصفت حركة طالبان الصين بأنها “دولة صديقة”، ورحبت بها لإعادة إعمار أفغانستان وتنميتها. وقال الناطق باسم الحركة سهيل شاهين، في تصريحات صحفية، إن حركته ستضمن سلامة الاستثمارات الصينية في أفغانستان. من جهته يرى رئيس تحرير صحيفة غلوبل تايمز الصينية هو شيجين أن الصين تقيم علاقاتها على أساس المنفعة المتبادلة، مشيرا إلى أن الصين في حال ذهابها إلى أفغانستان لن تسعى لملء أي فراغ، انطلاقا من سياستها الخارجية التي ترفع شعار “احترام خيارات شعوب جميع البلدان”.
خلال جلسة طارئة لمجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة، قال مبعوث الصين، تشين شو، “يجب أن تتحمل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا ودول أخرى المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها جيوشها في أفغانستان”، وأضاف “تحت راية الديموقراطية وحقوق الإنسان، تقوم الولايات المتحدة ودول أخرى بتدخلات عسكرية في دول أخرى ذات سيادة وتفرض نموذجها الخاص على دول ذات تاريخ وثقافة مختلفة إلى حد كبير”، مشيرا إلى أن هذا جلب “معاناة كبيرة” لشعوب تلك الدول.
ينظر الغرب الى الدول المجاورة لافغانستان على أنها ستقع في الفخ عاجلا أم آجلا، فقد شبّه المحلّل البريطاني ريتشارد كيمب، وهو القائد السابق في الجيش البريطاني، باكستان وإيران والصين وروسيا بسرب من النّسور، سوف يتداعى على الذبيحة الأفغانية بعد انسحاب الولايات المتحدة. من جهتها اعتبرت الصين أنها لن تسمح لنفسها بالوقوع في فخ الدخول العسكري إلى أفغانستان التي كانت مقبرة لثلاث إمبراطوريات هي بريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. اعتبرت الصين أن وصول طالبان إلى مقاطعة بدخشان الشمالية الشرقية التي تقع على الحدود الجبلية مع إقليم شينجيانغ؛ الحدود التي تقدر مساحتها بنحو 80 كيلومتراً مربعاً، قد يوفّر ملاذاً آمناً للمتمردين الانفصاليين من المسلمين الإيغور. مما دفع الصين الى الاعتراف بطالبان وعقد المحادثات معهم بهدف التنسيق الامني مستقبلا.
إن علاقة طالبان مع حركة “تركستان الشرقية الإسلامية” وخليفتها الحزب الإسلامي التركستاني متينة منذ تسعينيات القرن العشرين، فقد أنشأوا معسكرات تدريب في أفغانستان منذ “الجهاد” ضد الاحتلال السوفياتي، وبقيت قوية بعد سيطرة “طالبان” في العام 1996 على 90% من أراضي أفغانستان. إن ما يزيد من قلق الصين أنَّ الولايات المتحدة أزالت في العام 2020 حركة “تركستان الشرقية الإسلامية” من قائمتها الخاصَّة بالمنظمات الإرهابية الأجنبية، بعدما كان مجلس الأمن قد صنَّفها منظمة إرهابية بموجب القرارين 1267 و1390 في 11 أيلول/سبتمبر 2002، لارتباطها بتنظيم “القاعدة”. تعتبر الصين أن هذه المنظمة ربما تكون قد زادت من مواردها اللوجستية والمالية والقوى العاملة والأسلحة منذ أن أزالتها واشنطن من قائمة الجماعات الإرهابية في العام 2020. أشار تقرير صدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أنَّ حركة “تركستان الشرقية الإسلامية” ليست موجودة وعاملة في أفغانستان فحسب، بل إنها تتبع أيضاً “أجندة عابرة للحدود”.
لن تفرط الصين بأفغانستان، فهي منطقة استراتيجية على طريق الحرير وشريك اقتصادي أساسي، منذ اجتماع السفير الصيني في قندهار مع زعيم حركة “طالبان” الملا عمر في أيلول/ديسمبر 2000، بدأت الاستثمارات الصينية في أفغانستان تزداد وتتضاعف بشكل كبير، فهناك أكثر من 100 شركة صينية، كلها تابعة للحزب الشيوعي في مختلف المجالات في أفغانستان، منها التنقيب عن النفط والغاز وقطاعات المعادن والاتصالات والنقل والإمدادات العسكرية. وقد حصلت شركتان صينيتان في العام 2008 على امتياز التعدين في منجم “مس عينك” الّذي قيل إنه يحتوي ثاني أكبر مكامن النحاس في العالم. وتخطّط الصين لإقامة مشاريع بنى تحتية من الطرق والسكك الحديدية ما بين بيشاور عاصمة إقليم الحدود الشمالية الغربية في باكستان والعاصمة الأفغانية كابول. إذا إن ترسيخ تواجد الصين في أفغانستان سيعتمد على نجاح بكين في التوصل إلى تفاهم مع حركة “طالبان”.
إن الصين لن تقع في فخ الدخول العسكري الى أفغانستان، التي كانت مقبرة أعظم ثلاث امبراطوريات، بل ستسعى لتكثيف التواصل السياسي والمشاريع الاقتصادية. إن الصين بحاجة الى الارض الافغانية الغنية بالمكامن المعدنية للنحاس والحديد والكبريت والبوكسيت والليثيوم والعناصر الأرضية النادرة الضرورية لصناعة التكنولوجيا. بالمقابل إن تواجد طالبان في الحكم قد يهدد أمن طريق الحرير بالرغم من التواصل الصيني مع هذه الجماعة. يشير قائد القوات الهندية في كشمير سابقاً ديفيرا هودا لصحيفة “واشنطن بوست” بقوله إنَّ عودة طالبان تعزز الروح المعنوية للجماعات المسلحة التي تتخذ من باكستان مقراً لها، مثل “عسكر طيبة” و”جيش محمد” و”طالبان الباكستانية”، مما يجعل الجماعات الإسلامية المقاتلة أكثر قوة وعنفاً من كشمير إلى شينجيانغ. من أجل طمئنة الصين تعهد المتحدث باسم طالبان محمد نعيم بأن “أراضي أفغانستان لن تستخدم للمساس بأمن أي دولة”.

* محمد زريق دكتور في العلاقات الدولية، وباحث مختص في سياسة الصين الخارجية تجاه المنطقة العربية مع تركيز خاص على مبادرة الحزام والطريق، لديه العديد من الكتابات والمنشورات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.