موقع متخصص بالشؤون الصينية

من الحقيبة الدراسية إلى الحقيبة الدبلوماسية .. رحلة يرويها سفير سلطنة عمان المعتمد لدى الصين

0

صحيفة الشعب الصينية:

بدأت قصة ناصر البوسعيدي سفير سلطنة عمان المعتمد لدى بكين مع الصين في العام 1990 عندما كان في العشرينات من عمره، حيث جاء لبكين لدراسة اللغة الصينية وآدابها في إطار توجيهات سامية من السلطان العماني الراحل قابوس بن سعيد لإرسال شباب عمانيين لدراسة مختلف اللغات العالمية فقال: “كانت امنيتي أن ادرس اللغة الفرنسية، لكن كان اختيار جلالة السلطان الراحل ابتعاثي الى الصين، لدراسة اللغة الصينية وآدابها”.

في شهر سبتمبر/ أيلول من عام 1990، وطئت قدم سعادته لأول مرة أرض مطار بكين بعد رحلة طويلة غامضة على متن طائرة الخطوط الفرنسية من كاراتشي الى بكين والتي بدت له غريبة في بادي الأمر أذ لم يكن يعرف عن الصين سوى بروسلي وأفلام ووشو! . وفي الحديث عن مطار بكين آنذاك قال: “لا مقارنة بين مطار بكين في التسعينيات واليوم، هناك فرق شاسع وتطور ملحوظ منقطع النظير“. ثم أضاف:” توجهت مباشرة من المطار الى فندق هوادو في سان لي تون، حيث اقمت ثلاثة أيام قبل الذهاب للإقامة في جامعة اللغات والثقافة ببكين. لقد بدت لي سان لي تون وكأنها مقر الأمم المتحدة يتجول فيها الأجانب من مختلف دول العالم، كما كانت تشتهر بتجارة اللؤلؤ والحرير الذي يقوم على بيعه تجار قدموا من خارج بكين، ولم يكن في المنطقة وقتها مظهر من مظاهر الرفاهية والمباني المتطورة أو السيارات الفارهة والفاخرة التي تجوب أسواقها كمثل ما نشاهده اليوم، وكانت وسيلة تنقلنا الوحيد هو سيارة الأجرة ”ميان باو面包车 “، وبعد ثلاثة أيام، ذهبت الى جامعة اللغات والثقافة كأول طالب عماني يدرس في الصين، وقضيت فيها سبع سنوات رائعة لا تُنسى حصلت خلالها على درجة البكالوريوس و الماجستير على التوالي “.” وتحدث السفير عن جامعة بكين للغات والثقافة بكلمات مليئة بالامتنان والفخر: ” … كانت الجامعة عبارة عن قرية تسكنها جنسيات عدة يجمعهم حب اللغة الصينية، وأنا فخور بتعلمي اللغة الصينية في هذه الجامعة.” وأضاف:”اللغة أداة مهمة لفهم ثقافة أي بلد، وفهم الثقافة هو جسر لتعزيز التفاهم المتبادل بين الناس بمختلف جنسياتهم، وهنا أقدر وبشدة الجهود العظيمة التي لازلت تبذلها الحكومة الصينية في تشجيع الطلبة الأجانب على تعلم اللغة الصينية وتقريب الثقافة الصينية للعالم الخارجي، مما أثمر عن تزايد عدد الطلبة الأجانب في الجامعات الصينية لتعلم اللغة واستكشاف الصين !”.

يكمل السفير القصة قائلا: ” لم أكن اتحدث اللغة الصينية عند وصولي إلى الصين، والقليل من الصينيين آنذاك كانوا يتحدثون اللغة الإنجليزية فضلا عن العربية ، ومع ذلك لم أجد صعوبة في التواصل مع الإدارة في الجامعة بفضل الأستاذ وانغ المسؤول عن الطلبة العرب والذي كان يتحدث اللغة العربية بطلاقة، وبفضل المساعدة التي قدمها لي الطلبة العرب الذين سبقوني للجامعة والذين قدموا من تونس والجزائر ومصر” واستحضر السفير هنا قصة طريفة عن بداياته في التحدث باللغة الصينية قائلا: ” بقيت ثلاث أشهر لم أستطع أن أطلب السكر من المطعم، حيث أن نطق كلمة سكر”Tang 糖” يشبه “Tang 汤” بمعنى الحساء، إذ لم أكن أجيد حينها ضبط النغمة الصوتية الصحيحة لكلمة السكر فكان من الصعب فهمي من قبل العاملين الصينيين ! “.

بعد عودته إلى عمان، لم ينقطع التواصل بين السفير والصين، قال :”كل مرة أفتقد فيها الصين، أذهب إلى المطاعم الصينية في سلطنة عمان لأتحدث مع الصينيين وأتناول الطعام الصيني، أو أشاهد القنوات الصينية التلفزيونية .” ولكن في العام 1999، عاد إلي الصين للمرة الثانية للدراسة في المعهد الدبلوماسي LCC لمدة ستة أشهر، ثم في العام 2013، عاد مرة أخرى لدورة تدريبية امتدت ثلاثة أشهر. وفي الحديث عن هذه الفترة قال:” شهدت في هذه الفترة تغير جذري في بكين، وفرق كبير مقارنة بفترة التسعينيات، حيث تحسن المستوى المعيشي للشعب الصيني بشكل سريع وملحوظ، واكتظت الشوارع بالسيارات الفخمة، وأصبحت أشاهد الصينيين يرتادون محلات العلامات الفاخرة بشكل متزايد“. مضيفا:” زرت خلال هذه الفترة الكثير من المناطق خارج بكين للسياحة، واستشعرت الفارق الكبير الذي طرأ على السياحة الداخلية بين الماضي والحاضر، وتغير المفاهيم المتعلقة بالنقل فأصبح ركوب القطار الفائق السرعة، والذي يمكن أن تصل سرعته القصوى إلى 340 كيلومترًا في الساعة، أكثر تفضيلا من الطائرة بل أكثر سهولة وراحة وذلك بفضل السياسات التي اتخذتها الحكومة لتسهيل عمليات النقل ومواكبة التقنية الحديثة المتطورة ” وهنا يستذكر السفير أيضاً أنه اضطر أن يستقل قطارا بطيئا ومكتظاً بالناس في فترة التسعينيات خلال عيد الربيع ليعود من قوانغدونغ إلى بكين واقفاً لعدة ساعات !!

يعتبر السفير نفسه محظوظ جدا، حيث أن امتلاكه للغة الصينية فتح له آفاقا رحبة وفرصاً نادرة، فقد قال: “بعد تخرجي عام 1997، وأنا لا أزال في جامعة بكين للغات والثقافة لم أغادرها بعد تم إلحاقي رسمياً في المراسم السلطانية بديوان البلاط السلطاني، لأحظى بعد ذلك بفرصة التجربة لأول مهمة ترجمة مباشرة بين الممثل الخاص لجلالة السلطان والرئيس الصيني آنذاك جيانغ زيمين وذلك خلال زيارة وفد عُماني رفيع المستوى الى الصين”.

كما أعرب عن فخره بالعمل في المراسم السلطانية حيث عمل على استقبال ضيوف جلالة السلطان على مستوى عال، مضيفاً: ” لقد كان لمعرفتي باللغة الصينية خير معين على ترتيب اللقاءات مع الوفود الصينية في المراسم السلطانية، وفي دائرة المراسم بوزارة الخارجية لاحقاً”.

انتقل السفير بعد ذلك إلى وزارة الخارجية العمانية للعمل بها كرئيس دائرة المراسم في عام 2015م، حيث عين بعدها سفيراً لسلطنة عمان لدى الصين، ليعود إليها قبل عامين حاملاً حقيبة دبلوماسية تفوح منها عبق الذكريات لواقع الحياة في الصين. قال :”من متطلبات الدبلوماسي المبتعث للخارج الإلمام بثقافة البلد وعاداته وتقاليده ولا يتأتى ذلك بسرعة إلا بالإلمام باللغة والتواصل المباشر مع الشعب، وإن دراستي للغة في الصين في ذلك الوقت سهلت مهمتي الحالية كسفير لدى جمهورية الصين الشعبية، وقد لمست هذا في برامج الزيارات التي تقيمها وزارة الخارجية الصينية إلى مختلف المدن الصينية خارج بكين، حيث أجد ترحيباً من قبل عموم الصينيين الذين أقابلهم، وسهولة في التواصل معهم بكل سلاسة مما يضفي على الرحلة بعض المرح والارتياح حيث أن إلمامي باللغة الصينية كسر الحواجز النفسية بيني وبين الصينيين عند الحديث وتبادل الآراء”.

ختاماً، وبمناسبة العيد الوطني العُماني الواحد والخمسين، قال السفير:” أن سلطنة عُمان وهي تحتفل بعيدها الوطني الحادي والخمسين الموافق الثامن عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، لا يفوتها أن تحتفل أيضا بصداقاتها وعلاقاتها المتجذرة مع الدول الصديقة والشقيقة، مؤكداً أن علاقات الشراكة الاستراتيجية المتميزة بين سلطنة عمان وجمهورية الصين الشعبية، هي امتداد للعلاقات التاريخية الراسخة بين الشعبين منذ أكثر من 1400 سنة والتي تُوّجت بإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1978، وقد شهدت فيها إنجازات على كافة الأصعدة حتى أصبحت سلطنة عمان شريكاً استراتيجياً هاماً للصين في منطقة الخليج العربي، كما أصبحت العلاقات الثقافية والعلمية ملفاً مهماً جدا بين الدولتين.” وحول أعداد الطلبة العُمانيين الذين درسوا في الصين ، قال السفير : ”حتى الآن، بلغ عدد الطلاب العمانيين الذين درسوا في الصين 70 طالباً، وهم الآن يشغلون أعمالاً بمناصب مختلفة في حكومة بلدي ، كما يهتم عدد كبير منهم أيضاً بالعمل في التجارة البينية بين الصين وسلطنة عمان”، وهنا، أشار السفير ايضاً الى الدور الذي لعبه آنذاك في دفع بزيادة عدد الطلاب العمانيين في الصين حيث قال: ” بعد تخرجي من الصين وعودتي إلى سلطنة عُمان، تقدمت بمقترح إلى وزارة التعليم العالي، لابتعاث الطلبة العمانيين الى الصين، واقتنع المسؤولين باقتراحي، ولم يقتصر تعلم اللغة على الابتعاث أو الاستفادة من المنح الدراسية المقدمة من الحكومة الصينية مشكورة، بل تم افتتاح قسم للغة الصينية في أحدى الكليات العمانية وهناك رغبة عند بعض المؤسسات التعليمية الخاصة في فتح أقسام للغة الصينية أيضا، ولا زلت متفائل بمزيد من التعاون والتقدم في هذا المجال فالقول الصيني المأثور يقول :”لا مستحيل أمام أهل العزيمة ” “.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.