موقع متخصص بالشؤون الصينية

تأملات في العلاقات الأميركية-الصينية: الحرب التجارية وتبعاتها

0

موقع الصين بعيون عربية-

د. محمد زريق*:

وصل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الى سدة الحكم بفضل شعاراته الشعباوية القائمة على أفكار “فلنجعل أميركا أمة عظيمة مجدداً”، “إعادة الإعتبار للسوق الداخلي الأميركي” وبالطبع “الحملة الغوغائية والعشوائية التي قادها منذ البداية ضد الصين عبر حرب تجارية ونشره للأفكار العنصرية ضد الجالية الصينية التي تعتبر من نسيج المجتمع الأميركي، خصوصاً بعد إنتشار الجائحة وتسميته الجائحة بال Chinese Flue)) أو الحمى القادمة من الصين دون أي دليل قاطع على صحة آرائه وأقواله”.
بالمحصلة كان ترامب الخاسر الأكبر في كافة الملفات التي فتحها ضد الصين، فالحرب التجارية ارتدّت سلباً على إقتصاده الوطني، والجائحة “الصينية” باتت أكثر فتكاً بالمجتمع الأميركي، والدبلوماسية الأميركية-الصينية دخلت مرحلة غير مسبوقة من التوتر، لم يشهدها التاريخ الدبلوماسي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949. ترامب خسر الإنتخابات ووصل الرئيس جو بايدن على أنقاض مخلفات مهترئة وضعها في طريقه الرئيس السابق ترامب، ففي آخر لقاء فيديو بين الرئيسين الأميركي والصيني، خاطب الرئيس الصيني شي جين بينغ الرئيس الأميركي جو بايدن مباشرة قائلاً “نحن نمتلك أكبر إقتصادين في العالم، لذا إن إتباع سياسة النكايات والكيديات السياسية والإقتصادية سيرتد سلباً على الإقتصاد العالمي، أما التعاون والمشاركة البنَّاءة سيكون له مردود إيجابي على العالم، خصوصاً في هذه الأوقات المريرة التي تشهدها البشرية”.
لكن يبدو أن الرئيس جو بادين مصمم على إعتبار الصين الخصم الأول للولايات المتحدة من خلال سياسة التفرقة الاقليمية للصين الواحدة في تايوان وهونغ وكونغ، وفتح ملفات غير بريئة ومشكوك بأمرها فيما يتعلق بحقوق الإنسان في الصين مثل حقوق الإنسان في مقاطعة شينجيانغ الويغورية ذاتية الحكم، وقضية بحر الصين الجنوبي، وتشكيل حلف عسكري بوجه الصعود الصيني، كل ذلك يؤشر إلى أن العلاقات الثنائية تسير في الاتجاه الخاطئ والادارة الاميركية الحالية لم تتعلم بعد من التجربة الترامبية الفاشلة.
سعى ترامب خلال حملته الانتخابية بالتركيز على الأيام الخوالي عندما كان الحلم الأمريكي نابضًا بالحياة، وهو الوقت الذي كان فيه النمو الاقتصادي للولايات المتحدة يتسارع. حتى سبعينيات القرن الماضي، كانت الطبقة الوسطى تشكل ما يقرب من 61٪ من إجمالي السكان وفي عصر لم يكن فيه أي خصم اقتصادي جاد للولايات المتحدة، ولا حتى الاتحاد السوفيتي قادراً على كبح جماح الولايات المتحدة، أما اليوم فالوضع مغاير كليا خصوصا مع النهضة الصينية الاقتصادية الكبرى، التي اعتبرها معظم المحللين الاقتصاديين “بالمعجزة الاقتصادية الصينية”. أنا أشُك أن ما حققته الصين في فترة ضئيلة من الزمن لا يمكن لأي أمة أخرى على وجه المعمورة أن تحققه، وذلك بسبب الادارة القوية والحكم الرشيد والكثافة السكانية، بالاضافة الى استراتيجية الإنفتاح السلمي على العالم، دون الخوض في زواريب الخلافات والحروب.
ومع ذلك، كانت الثمانينيات تشبه نقطة تحول مهمة في العالم حيث غزت ثقافة الاستهلاك كل أسرة في الغرب وكان الوقت الذي بدأت فيه الشركات متعددة الجنسيات تتشكل. بحلول عام 1980، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة قيمة إجمالية قدرها 2.4 تريليون دولار ودين إجمالي قدره 858 مليار دولار.
كانت الإقتصادات في جميع أنحاء العالم مزدهرة بعد أن بدأت الطبقة الوسطى الإنفاق بدلاً من الادخار. ثم بدأت الشركات المنشأة حديثًا في البحث عن موارد رخيصة للعمالة والمواد الخام لتلبية الطلب المتزايد للطبقة الوسطى الآخذة في التوسع وإحتياجاتها المتزايدة بإستمرار.
خلال نفس الفترة، بدأ الحزب الشيوعي الصيني بسياسة ما عُرف بالتحول الاقتصادي “الإصلاح والانفتاح” بقيادة الزعيم “دينغ شاو بينغ”. بدأ هذا التحول بإلغاء الطابع الجماعي عن الزراعة، وفتح الإستثمارات الأجنبية والسماح لأصحاب المشاريع ببدء الأعمال التجارية. بعد هذا الإصلاح الكبير، انتهزت الشركات الأمريكية هذه الفرصة الممتازة للبدء بالإستثمار في السوق الصينية.
في الثمانينيات، كان متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للمواطن الصيني حوالي 300 دولارًا أمريكيًا بمتوسط معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي يبلغ 10 سنويًا. جعل هذا التحول الصين “أرض الأحلام” للمستثمرين لأن كل شيء كان بجزء بسيط من تكلفة الشركات الناشئة؛ العمالة والمواد الخام وتكلفة المعيشة وغياب الطبقة الوسطى المتطلبة في المجتمع لديها مهارات مهنية بشكل ساحق. كل هذه العوامل سهلت على الشركات متعددة الجنسيات جعل الصين أكبر مصنع في العالم. كانت الصيغة بسيطة، فالصين تنظر إلى العالم بأسره على أنه سوقها الخاص. لذلك بعد إلغاء القيود، نما القطاع الخاص بشكل ملحوظ ليشكل 70٪ من الاقتصاد بحلول عام 2005.
مع إقتصاد نما بمعدل 10٪ في العقود الثلاثة الماضية، أصبحت الصين موطنًا لأكثر من 100 شركة متعددة الجنسيات بما في ذلك آبل وأمازون؛ وأصبحت هذه الشبكة العالمية المترابطة جنبًا إلى جنب مع الإنتاجية التنافسية، الولايات المتحدة والصين عملاقين متكاملين في الإقتصاد العالمي، وخاصة في التجارة.
من الضروري الإشارة إلى أن الصين تستخدم دولار الولايات المتحدة كعملة احتياطية أجنبية في المعاملات الدولية. علاوة على ذلك، تمتلك الصين قيمة إجمالية قدرها 1138 تريليون دولار في سندات الخزانة الأمريكية اعتبارًا من عام 2018، وقد نجحت في الحفاظ على فائض في ميزانها التجاري في العالم على عكس الولايات المتحدة حيث تجاوز العجز 900 مليار دولار أمريكي بنهاية عام 2019.
بدأت إدارة الرئيس الشعبوي دونالد ترامب حربًا تجارية غير مسبوقة مع “التنين الآسيوي” في محاولة لتوحيد الشركات الأمريكية المتمركزة في الصين لتشجيعها على العودة إلى الأراضي الأمريكية والاستثمار محليًا. فرض ترامب رسوم جمركية باهظة على المنتجات الصينية التي تدخل السوق الأمريكية، وهو تكتيك أدى إلى نتائج عكسية على الفور.
وفقًا لـبزنس أنسايدر، أعلنت أكثر من 84 مزرعة في الغرب الأوسط إفلاسها في الربع الأخير من عام 2018 بعد أن فقد فول الصويا خمس قيمته السوقية خاصة أن المنطقة تعتمد بشكل أساسي على تجارة فول الصويا مع الصين. نتيجة لهذا القرار وبحلول نهاية عام 2018، تحولت الصين إلى روسيا كمصدر بديل لاستيراد فول الصويا. وقع البلدان اتفاقية أحادية الجانب لزيادة تجارة المنتجات الزراعية بما في ذلك الأرز ولحم الخنزير والدواجن والأسماك وتطوير الخدمات اللوجستية.
طورت الصين شبكات قوية بعد هيمنتها على السوق العالمية. جعلت هذه الإستراتيجية البلاد تتمتع بالاستقلال الذاتي وأقل إعتمادًا على القوى الأجنبية. منذ الثمانينيات، استثمرت الصين المليارات في التعليم لتنشئة جيل عالي الإنتاجية ومبتكر في التكنولوجيا. إن الطبقة الوسطى الصاعدة والاقتصاد المزدهر سيجعلان الصين حتما في طريقها لتكون نسخة القرن الحادي والعشرين من “الحلم الأمريكي”.
من خلال البنية التحتية المعطلة والخدمات العامة، عملت إدارة ترامب وتتبعها إدارة بايدن على توسيع الأيديولوجية التحررية للحكومة المحدودة وتفرض نية خصخصة كل قطاع من قطاعات الخدمات العامة، في حين نجحت الصين في إظهار وحدة إقتصادية تُعرف بإسم “إشتراكية السوق” توازن بين الملكية الخاصة والعامة والتعاونية لوسائل الإنتاج.

 

*دكتور في العلاقات الدولية وباحث مستقل، يدرس السياسة الخارجية الصينية ومبادرة الحزام والطريق وقضايا شرق أوسطية والعلاقات الصينية-العربية. بحوذة الكاتب العديد من الدراسات المنشورة في مجلات رفيعة المستوى وصحف عالمية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.