موقع متخصص بالشؤون الصينية

زمن الصين بجدارة

0

صحيفة البعث السورية-

هيفاء علي:

منذ عدة أيام، بعث 15 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين رسالة تحذيرية إلى جو بايدن، ينبّهون فيها من التطور السريع الذي طرأ على الصين، والذي من شأنه أن يمنح الصين القدرة على بناء اقتصاد عالمي يركز على قوتها الاقتصادية، ويجعلها قادرة على إزاحة الولايات المتحدة من موقعها القيادي الحالي في الشؤون الدولية بشكل عام. وطالبوا رئيسهم العجوز عبر إطلاق نداء مذعور بالإسراع في بدء المفاوضات التجارية مع شركاء الولايات المتحدة في آسيا.

إن ما جعل هؤلاء الأعضاء يشعرون بالخطر هو اتفاقية” الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” التي تمّ التوقيع عليها في 15 تشرين الثاني 2020 ودخلت حيّز التنفيذ في الأول من العام الجاري 2022. وهي أكبر اتفاقية تجارة حرة في العالم وتضمّ 15 دولة آسيوية، إذ اعتبروا أن مثل هذه التطورات الاقتصادية تعمل على تغيير العالم بطرق زاحفة وصامتة، ولكن بطرق لا يمكن لأي حدث كبير القيام بها. ذلك أنه عندما يتمّ الحديث عن “البلدان الخمسة عشر المعنية”، فذلك يعني الحديث عن 2.3 مليار شخص، أو 30٪ من سكان العالم، و30٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأكثر من ربع التجارة العالمية، و31٪ من الاستثمار الأجنبي المباشر. وفي قلب هذه الاتفاقية، توجد الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم والقوة التجارية الرائدة في العالم، كما تضمّ ​​اليابان وكوريا الجنوبية والعديد من الدول الأصغر في مجموعة الآسيان. أما الولايات المتحدة، فهي ليست واحدة منهم، لأن المشروع كان صينياً منذ البداية، ولم يناسب أمريكا.

هذه هي الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، بعبارة أخرى، لا يتعلق الأمر فقط بجعل كل التجارة تقريباً في المنطقة معفاة من الرسوم الجمركية، بل هناك العديد من التفاصيل الجذابة الأخرى، مثل شهادة منشأ واحدة، على سبيل المثال، مع العديد من المكونات المصنّعة في أي مكان بداخلها، وهذا بالتالي يبسط إجراءات التجارة.

بشكل عام، أصبحت الجمارك قديمة، وستكون العديد من الشركات الصغيرة في المنطقة الآن قادرة على إنشاء سلاسل التوريد التي يريدونها دون الكثير من المتاعب، وهناك أيضاً العديد من الأشياء الصغيرة التي طال انتظارها، كإنشاء سوق تسوق موحد عبر الإنترنت للمنطقة بأكملها.

والصين تقع في قلب هذا النظام نتيجة حجم اقتصادها، وحقيقة أن لديها تاريخاً طويلاً في بناء اللوجستيات وسلاسل التجارة الأخرى حول العالم، ومشروع “الحزام والطريق” أكبر دليل على ذلك. ومجرد فكرة أنه تمّ إطلاق الاتفاقية التجارية الأخيرة قد حفّز الشركات الصينية والإقليمية في المستقبل. وبحسب أحدث التقارير، فقد نمت التجارة الخارجية للصين في الأشهر الـ11 الأولى من العام الماضي بنسبة 22٪، وشهدت نمواً مزدوج الرقم في جميع أسواقها الرئيسية، وخاصةً مع الآسيان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ونتيجة لذلك فإن اقتصادات المنطقة تنمو، وبالتالي، أصبحت المنطقة والصين مرة أخرى محركاً للنمو العالمي.

إن فكرة اتفاقيات التكامل في آسيا -في الواقع- تمّ العمل عليها منذ أربعين عاماً، وجميعها تتعلق بالمنطقة بأكملها، حيث تمّت مناقشات لتطبيقها في كل مكان من خلال آلية “أبيك” ومبادرات أخرى. لكن القصة الأكثر شهرة هي قصة شراكة باراك أوباما عبر المحيط الهادئ “تي بي بي” التي يتلخص معناها في اقتباس تاريخي من الشخصية نفسها: “الصين لن تملي قواعد التجارة، نحن سنفعل”.

لذلك حتى اليوم، لا تملي الصين قواعد التجارة العالمية، وهذا هو الاختلاف الرئيسي بين اتفاقية “الشراكة الاقتصادية الاقليمية الشاملة” المنتصر الحالي، والفكرة الأمريكية الفاشلة حول الشراكة عبر المحيط الهادئ. يعتبر الدرس الرئيسي من هذا النوع من الاتفاقيات مثيراً للاهتمام، لأنه يوضح نوع السلوك والقواعد والمعايير التي تجلبها الصين إلى العالم، فقد كانت الشراكة عبر المحيط الهادئ، بالنسبة للمشاركين فيها، وخاصة الدول الصغيرة، لعبة رهانات وحشية. كان الجزر موعوداً بحلاوة غير مسبوقة، لكن العصا يمكن أن تكون غير مسبوقة بالألم، بمعنى الوصول المجاني عملياً إلى أسواق البلدان الأخرى من خلال المنتجات الأمريكية على وجه الخصوص، ولكن في الوقت نفسه، يجب الخضوع للقواعد الأمريكية الملفقة بشأن أي شيء، مثل ظروف العمل أو زراعة جوز الهند، ليكون تحت المراقبة المستمرة. وعندما يتعلق الأمر “بالخدمات” مثل البنوك والإنترنت وما إلى ذلك، كانت شروط الصفقة من النوع الذي يمكن للشركات العملاقة متعدّدة الجنسيات أن تسيطر بهدوء على اقتصادات بأكملها.

كانت نهاية هذه الاتفاقية غريبة، فقد قرّر دونالد ترامب أن أمريكا لم تعد بحاجة إلى مثل هذه الشراكة عبر المحيط الهادئ وانسحب منها. وتبيّن أن الزعيم غير الرسمي هو اليابان، وتتفاوض الصين الآن للانضمام إلى أنقاض الشراكة عبر المحيط الهادئ أيضاً، ولكن الشيء العظيم في هذه القصة هو أن الصين فعلت شيئاً رائعاً عندما أزالت كل القيود على النمط الأمريكي من شروط اتفاقية الشراكة الإقليمية الاقتصادية الشاملة، كل تلك القواعد الخانقة التي أراد أوباما أن يمليها على العالم.

وعن معنى الدرس الذي تعلّمه من الاتفاقيات التجارية الأمريكية، يقول خبير اقتصادي انكليزي عبّر عن رأيه: “كان من المفترض أن تكون شراكة بين أنداد، ولكن مع مثل هذه الشراكة، يمكن للاقتصادات المتقدمة أن تدور حول الاقتصادات الأقل تقدماً. وقد صمّمت هذه الاتفاقيات التجارية كسلاح اقتصادي للسماح للاقتصادات الأكثر تقدماً بجني الفوائد من الدول النامية المعرضة للاستغلال. وفي النهاية، بدت الاتفاقيات وكأنها أداة محتملة لشكل جديد من الاستعمار الاقتصادي”.

من ناحية أخرى، وبالنسبة للخبير، لدى الاتفاقية الجديدة، فرصة جيدة لأن التكامل هناك يتمّ بدون ضغط وبخطوات صغيرة وبدون التعثر كما كانت الحال مع المشروع الأمريكي الضخم.

بالعودة إلى رسالة أعضاء مجلس الشيوخ، فقد جاء اقتراحهم لبدء محادثات التجارة على وجه السرعة في آسيا متأخراً، لأنه من الواضح أنه لم يتمّ تعلّم دروس فشل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ونجاح اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، فقد فشلت الشراكة عبر المحيط الهادئ، لأنها ضغطت على الشركاء وأجبرتهم على فعل ما لم يرغبوا القيام به. والآن تتكشّف مؤامرة جديدة معقدة مع محاولة أمريكا الضغط على اليابان وإجبارها على عدم تزويد الصين بمنتجات متطورة تقنياً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.