موقع متخصص بالشؤون الصينية

الصين تهزأ بالاستراتيجية الغربية: كيسنجر لا يسعفكم إلى الأبد

0

جريدة الأخبار-

أدهم السيد:

قبل حوالي 2000 عام، أرسل الإمبراطور الصيني، وو دي، مبعوثاً إلى الحدود الغربية لإمبراطوريته من أجل دعوة القبائل التي كانت تستوطن تلك المناطق (الإيغور حالياً)، إلى التحالف معه لصدّ هجمات المغول (شعوب الشمال). بعد عناء طويل، وصل المبعوث الإمبراطوري، تشانغ تسيان، إلى المكان المقصود. وبعد أن عرض مقترحه، كان جواب مستضيفيه بأنهم لن يدخلوا الحرب ضد المغول، وأنهم نقلوا مكان عيشهم بعيداً كي لا يكونوا تحت مرماهم. وعندما عاد الديبلوماسي الصيني إلى مملكته، قدّم اقتراحاً بعيداً كلّ البعد عن التحالفات العسكرية. قال للإمبراطور: «يجب أن نقيم تحالفاً اقتصادياً مع هذه الشعوب، ومن خلالهم يمكن أن نتوجه غرباً، إلى بلاد آسيا الوسطى وفارس وما وراءها. وعندما نعزز علاقاتنا الاقتصادية معهم، ستكون لنا مصلحة مشتركة متينة لمواجهة المغول». وهكذا، كانت هذه الفكرة أساس ما عرف لاحقاً بـ»طريق الحرير»، والذي قام الرئيس الصيني، تشي جين بينغ، بإعادة إحيائه من خلال مبادرة «الحزام والطريق»، والتي تستهدف الصين من خلالها تقديم نموذج جديد في العلاقات الدولية مبنيّ على «الربح المشترك»، أو ما يطلق عليه هنا في بكين «المصير المشترك للبشرية».

من الضعف إلى القوة
منطق تشانغ تسيان هذا لا يزال سائداً في دوائر القرار في بكين. وعندما قال الرئيس الصيني إن حلّ مسألة تايوان وتحقيق إعادة التوحيد التامّ للصين أصبح أقرب من أيّ وقت مضى، جرى تفسير كلامه على أن الصين ستشنّ حرباً على الجزيرة المتمردة، بخاصة أن كثيرين تفاجأوا بالنبرة الجديدة التي استخدمها الرئيس الصيني في خطاب مئوية تأسيس الحزب الشيوعي الصيني الحاكم. إلا أن المنطق الصيني يقول إنه في فترة الضعف والتراجع، يصبح تقسيم البلاد ممكناً من خلال شن حرب مباشرة من قبل القوة المعادية، وهذا ما حصل في الصين حيث سيطرت القوى الاستعمارية على أجزاء كبيرة منها، وبقيت أجزاء محتلة حتى الأمس القريب، مثل هونغ كونغ التي احتلتها بريطانيا لمئة عام وأعادتها الصين في تسعينيات القرن الماضي، أو من خلال تشجيع هذه القوة المعادية الانفصاليين الذين سيجدون في ضعف الدولة زخماً قوياً لتقسيم البلاد. أما في مرحلة القوة والتقدم، فستصبح وحدة الدولة صلبة وجاذبة، والصين اليوم أقوى من أيّ وقت مضى، وهي قادرة من خلال تقدمها الاقتصادي على إضعاف حجج الانفصاليين في تايوان، ودفع شعبها إلى التوحد مجدداً مع بكين. وهذا كان مستحيلاً قبل أربعين عاماً مثلاً، حيث كان الاقتصاد في تايوان وهونغ كونغ التي لم تكن قد عادت إلى الصين بعد، ينموا أسرع بكثير من الاقتصاد الصيني، بالتالي فإن مستوى الحياة فيهما كان أعلى بكثير من مثيله في بكين.

لا يعني التحالف الاستراتيجي بين الصين وروسيا أنّه لا يوجد تمايز

بالأمس، وعندما بدأت العملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس، عاد الحديث عن «غزو» صيني لتايوان، وكثرت التحليلات المترافقة مع فبركات إعلامية تشير إلى أن هذا «الغزو» قد بدأ فعلاً. ولكن بناءً على ما أوضحناه سلفاً، فإن الصين ستبقى تعتمد «عملية التوحيد السلمي» طالما أن القوى الانفصالية في تايوان لم تذهب نحو إعلان الاستقلال. الصين، وعلى لسان معظم مسؤوليها، تعتبر هذا الأمر بمثابة الخط الأحمر الذي لا يمكن أن تسمح بتخطّيه. والهاجس الصيني مبنيّ على تجارب تاريخية، فقوة بكين الاقتصادية اليوم لا تعني بالضرورة أنها قادرة على الحفاظ على وحدة أراضيها، فقبل مئة وخمسين عاماً كانت الصين قوية اقتصادياً، إلا أن القوة الاستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا العظمى، دمّرتها من خلال ما يعرف بـ»حرب الأفيون»، واستتبع ذلك تقسيم البلاد ودخولها في ما يطلق عليه الصينيون «قرن الإذلال». بالتالي، فإن السماح بانفصال تايوان سيعني فتح الباب أمام مناطق أخرى للانفصال عن الصين بتحريض وتنفيذ من القوى الإمبريالية.

الصين وروسيا: تكامل لا تطابق
حاول الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، أن يعيد التاريخ، ولكن بشكل معكوس. ومحاولته هذه كانت تجسيداً حقيقياً للمهزلة، حيث سعى لاستمالة روسيا إلى جانب أميركا وإبعادها عن الصين، في محاكاة للاستراتيجية التي اعتمدتها أميركا – كيسنجر عندما عزلت الصين عن الاتحاد السوفياتي خلال فترة الحرب الباردة. ترامب، المتميز بغباء يترافق مع جنون عظمة، كان يعتقد أنه الوحيد الذي اكتشف هذا السر، ولم يعرف أن الصينيين درسوا كلّ الإخفاقات السابقة، إخفاقاتهم الخاصة وإخفاقات الآخرين. أما من جهة روسيا، فلم يترك لها الغرب بقيادة الولايات المتحدة أيّ خيار سوى العداء معه. فعلى الرغم من سقوط الاتحاد السوفياتي، ووصول يلتسين إلى الكرملين، إلا أنهم استمروا في التوسع شرقاً من خلال ضمّ دول كانت جزءاً من المعسكر الشرقي-السوفياتي إلى حلف «الناتو»، وكأنهم كانوا يتقصدون محاصرة روسيا بدل ترويضها، فما كان منها إلا أن واجهتهم، وآخر فصول هذه المواجهة ما يجري في أوكرانيا اليوم.
لذا، الصين تعرف جيداً أن «الثالوث الإمبريالي» (الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، واليابان، بحسب تعبير سمير أمين) لن يسمح لها بحجز مكانها الذي تستحقه على الساحة الدولية، وسيعمل على تدميرها كما دمر الاتحاد السوفياتي، لا بل إن مشروع الصين يتناقض بالجوهر مع ما هو سائد اليوم عالمياً، بالتالي فإن استمرار تطور الصين، الذي يعتمد بشكل أساسي على السلام لا الحرب، مهدد في ظل استمرار المنطق الإمبريالي القائم على العدوانية والاحتكار والعقوبات، وهذا ما يدفع الصين إلى أن تصبح لاعباً سياسياً رئيساً في العالم والتخلي عن سياسة الحياد. وكذلك الروس، يعرفون أن لا مكان لهم بين أولئك، إلا كتابع مهدد بالتقسيم والاجتياح في أي وقت.
ولكن النقطة المهمة التي يجب الإشارة إليها، هي أنه وعلى الرغم من التقاطع لا بل التحالف الاستراتيجي بين الصين وروسيا، والذي يتطور يوماً بعد آخر، إلا أن النهج الصيني يختلف كثيراً عن النهج الروسي. وهذا الأمر لن يؤدي إلى إضعاف التحالف، لا بل يعتبر نقطة قوة. فالصين وروسيا تتكاملان مع بعضهما البعض: الأولى تمثل القوة الاقتصادية الأولى في العالم، والثانية تعتبر ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم. وهذا ما يشكل توازناً عالمياً في وجه «الثالوث الإمبريالي». والمفارقة أن الصين تعتبر نفسها وريثاً شرعياً للاتحاد السوفياتي، ففي خطاب للرئيس الصيني في مئوية الحزب الشيوعي الصيني قال، إنه عندما «تفجرت ثورة أكتوبر الروسية، حملت صدى دويّ مدافعها إلى الصين الماركسية اللينينية»، بالتالي تم تأسيس الحزب الذي يقود الصين اليوم. أما روسيا، فمن الواضح أن استراتيجية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مبنية على استنتاجه الرئيسي الشهير بأن تفكيك الاتحاد السوفياتي كان خطأ استراتيجياً.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أنه لا الصين هي الاتحاد السوفياتي، ولا روسيا كذلك. وهذا الأمر ليس عابراً، ولا هو كلام اعتاد استخدامه المتهمون بأنهم يستخدمون «لغة خشبية»، بل هو حقيقة مهمة جداً؛ فمثلاً، لا يمكن للولايات المتحدة وأتباعها استخدام نفس أدوات الحرب الباردة مع الصين، فالأخيرة لا يمكن عزلها اقتصادياً كما حصل مع الاتحاد السوفياتي، فهي في قلب الاقتصاد العالمي إن لم تكن قلبه، ويكفي الإشارة إلى أنه عندما حصلت أزمة في إحدى الشركات العقارية الصينية منذ أشهر، اهتزت الأسواق المالية العالمية، فكيف إن تمّ عزل الصين التي تشكّل تقريباً ثلث الاقتصاد العالمي.
يبقى أن التحالف الاستراتيجي بين الصين وروسيا، والذي تمّ تعزيزه خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الروسي إلى بكين قبل أسابيع، حيث جرى التأكيد على الدعم الكامل لقضايا البلدين، لا يعني أنه لا يوجد تمايز حول بعض القضايا المطروحة. فالصين مثلاً تؤيد حق روسيا في الدفاع عن أمنها، وتعتبر أن توسع «الناتو» نحو حدودها هو اعتداء عليها، إلا أنها لن تؤيد انفصال «جمهوريتي» دونيتسك ولوغانسك، كما أنها اتخذت موقفاً أقرب إلى المحايد في ما خص العملية العسكرية الروسية الخاصة في دونباس، وحملت الولايات المتحدة و»الناتو» مسؤولية ما يجري، ودعت كلاً من روسيا وأوكرانيا إلى ضبط النفس والحوار. كل هذا يعبر عن نهج صيني لطالما دعا إلى حلّ الخلافات بالطرق السلمية والحوار، فالسلم هو الرئة التي تتنفّس منها الصين، أما عدم الاستقرار العالمي فهو مقتل لها. قد يصمد هذا النهج خلال زمن التحولات الكبرى الذي نمرّ به، ولكن المرجح أكثر أنه لن يصمد أمام العدوانية الإمبريالية، مما سيدفع الصين وروسيا إلى تنسيق جهودهما بشكل أكبر بهدف بناء عالم جديد، وليشمل تحالفهما هذا الكثير من الدول المتضرّرة من الواقع الدولي الحالي، والساعية للتحرر والتقدم، كبلداننا مثلاً، أو أقلّه هذا ما نأمله نحن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.