موقع متخصص بالشؤون الصينية

قطاع التصنيع الصيني يبحث عن مصدر الإلهام ليتجاوز التقليد

0


صحيفة الاقتصادية السعودية:
بيتر مارش:
جلس جاو جيفان على مكتبه أمام صورة كبيرة لمجرة درب التبانة- وهي خلفية لافتة للنظر لرجل يحاول الوصول إلى آفاق جديدة. وقال الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة ترينا للطاقة الشمسية التي تعد خامس أكبر مصنعي الخلايا الشمسية على مستوى العالم: ”تتمثل رؤيتي في استخدام أفكار جديدة في مجال التكنولوجيا بهدف تحسين حياة البشر”.

ويعد هذا الرجل المبتهج البالغ من العمر 47 عاماً من بين الأشخاص الذين يحددون التوجه الصناعي في الصين التي تعد أسرع الدول الصناعية نمواً في العالم. ويذكر أن مكتبه يقع في مدينة تشانجزهو الواقعة على بعد 170 كيلومترا غربي شنغهاي.

وتجدر الإشارة إلى أن الصين تفوقت على الولايات المتحدة وأصبحت أكبر منتج للسلع في العالم في العام الماضي وبذلك تستعيد سيادتها العالمية التي فقدتها في القرن التاسع عشر، ولكنها لا تزال في حاجه إلى إزالة الصورة التي تظهرها أنها منطقة منخفضة التكاليف، حيث تكون الجودة أقل وتكون أفضل الأفكار منقولة- أو مسروقة- من الغرب.

وفي مقر عمله المتاخم لمصنع ”ترينا” الضخم الذي يعمل فيه 14 ألف موظف، تسيطر على جاو حالة من التفاؤل المستمر بشأن الإبداع الصناعي في الصين، وأشار إلى الجيل الجديد من خلايا ”العسل” الشمسية التي تنتجها ”ترينا” التي حطمت الأرقام القياسية من حيث معدلات الكفاءة كمثال على الإبداع الصيني الداخلي.

وأضاف جاو الذي قام بتأسيس الشركة في عام 1997 بعد أن اكتسب خلفية في مجال الهندسة الكيميائية: ”لقد حققنا هذا التقدم عن طريق الإنفاق بصورة كبيرة على البحث والتطوير، ولكننا حققناه أيضاً بفضل الالتزام بالخدمة والجودة”.

ومن السهل معرفة السبب وراء تفاؤل جاو، فقد برزت الصين بشكل سريع للغاية كقوة صناعية على مدار الـ 15 عاماً الماضية لدرجة أن جميع الشركات الأجنبية الكبرى تقريباً قامت بمشاريع هناك، وهم لا يكتفون الآن ببناء قواعد إنتاج رخيص للصادرات فقط ولكنهم يصبون تركيزهم على المنتجات المتطورة والطلب المحلي الصيني الذي يشهد ازدهاراً كبيراً.

وأدى ازدهار الصين في المجال الصناعي إلى زيادة الاهتمام، لأن شركاتها تقوم بعمليات استحواذ على منافسيها الغربيين، فقد اشترت الشركات الصينية أخيراً شركات في ألمانيا التي تعد معقل الصناعة الأوروبية ومنها مجموعة بوتزمايستر لمعدات البناء وشركة كيكرت لتصنيع قطع غيار السيارات.

ويرغب مخططو الحكومة الصينية في ظهور مزيد من ”الأبطال الصناعيين” على شاكلة ”ترينا” من أجل توليد الثروة المستدامة في وقت يعني فيه ارتفاع تكاليف الأجور أن البلاد لم يعد بمقدورها الاعتماد على العمالة الرخيصة كمحرك للنمو.

وربما يكون من المفارقة أن الجهود التي تبذلها الشركات الصينية مثل ”ترينا” للارتقاء بسلسلة القيمة عن طريق تطوير تقنيات جديدة تصب أيضاً في مصلحة الشركات الصناعية اليابانية والغربية الكبرى التي تنفق مليارات الدولارات على المصانع الصينية والوحدات البحثية.

وكلما أصبحت الصين ”دولة صناعية عادية” ذات معايير صناعية تقترب من أو تساوي تلك المُطبقة في ألمانيا أو الولايات المتحدة على سبيل المثال، زادت احتمالية أن تكون هذه الشركات قادرة على تحويل الصين إلى جزء أساسي من عملياتها.

ولنأخذ على سبيل المثال مجموعة فويث الهندسية الألمانية التي تعد الرائدة عالمياً في مجال المعدات الكهرومائية وآلات صناعة الورق، فقد أعطى الرئيس التنفيذي، هيوبيرت لينهارد، مثالاً نموذجياً بقوله: إن أولوية شركته على الصعيد العالمي تتمثل في ”ترك بصمة صناعية في الصين”.

ويكشف أيضاً المجال الذي تعمل فيه فويث بكل وضوح الأولويات المتغيرة للشركات التي يتم تأسيسها في الصين. ومنذ 10 إلى 15 عاماً مضت، اتجهت الغالبية إلى الصين لتشييد مصانع حيث يمكنهم إنتاج سلع للتصدير. أما الآن، فإن لينهارد شأنه شأن عديد من المسؤولين التنفيذيين الآخرين يعتنق شعار ”في الصين وللصين” حيث ينصب تركيزه على استخدام البراعة الصناعية التي تتمتع بها الصين لبيع السلع على الصعيد المحلي.

وتجدر الإشارة إلى أن نصف المبيعات للعملاء المقيمين في الصين في العام الماضي التي بلغت قيمتها مليار يورو تم إنتاجها في مصانع الشركة في الصين، بينما تم استيراد معظم الباقي من ألمانيا. وقال لينهارد ”تتمثل خطتي في زيادة المبيعات السنوية في الصين إلى 1.5 مليار يورو بحلول عام 2015 تأتي ثلثاها من مصانعنا الموجودة في الصين”، كما أنه يعتزم خلال هذه الفترة زيادة حجم قوة ”فويث” العاملة في الصين بمعدل ثلاثة أضعاف لتصل إلى عشرة آلاف موظف.

ورفض لينهارد الفكرة القائلة إن نقل مزيد من معرفتها الفنية إلى الصين يعني أن شركته تخاطر بالتنازل عن بعض خبرتها وقدرتها الفنية إلى منافسيها الصينيين.

أما المديرون الآخرون فهم ليسوا على ثقة بقدرتهم على بقائهم دون ضرر نتيجة انتهاكات الملكية الفكرية المتقطعة، حيث خضعوا أخيراً لقضايا قانونية كبرى رفعتها شركات غربية بارزة مثل ”أبل” و”هيرميس” و”فايزر”.

وأعرب سيروس جيلا، الرئيس التنفيذي لشركة إلمنت سكس وهي شركة تقع في لوكسمبورج وتعد أكبر الشركات العالمية المصنعة للألماس الصناعي المستخدم في تقطيع المعادن، عن خشية شركته من تثبيت تقنية جديدة في مصنعها الضخم الموجود في مدينة سوزهو الصينية قائلاً ”إذا قمنا بإحداث بعض التغييرات على عملية التصنيع في الصين فإننا سنجد إحدى الشركات المنافسة تقوم بتطبيق جزء منها على الأقل في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر، فالعمل في الصين في مجال صناعة الألماس الصناعي بشبه وضع الأشياء في مصفاة مثقوبة”.

ويذكر أن الحذر الذي تفرضه ”إلمنت سكس” على نفسها بشأن عمليات التصنيع يقلل من القدرة التنافسية النسبية لمصنعها الموجود في الصين مقارنة بمصانعها الموجودة في الدول الأخرى. وأضاف جيلا ”منذ خمسة أعوام، بلغت تكاليف مصنع سوزهو نصف تكاليف مصانعنا الموجودة في أوروبا وجنوب إفريقيا، أما الآن فقد بلغ الفارق ما يقرب من 85 فقط”.

وأرجع جيلا تخلف منافسي ”إلمنت سكس” عنها إلى أن الكيمياء والهندسة اللتين تقفان وراء إنتاج ألماس صناعي عالي الجودة معقدتان بطبيعتهما. وأضاف ”شعرنا منذ أربع سنوات بأن منافسينا الصينيين سيتقدمون كثيراً بمرور الوقت عما كانوا عليه، ولكنهم في الواقع لا يزالون غير قادرين على تحقيق التقدم”.

ومع ذلك، تصر شركات غربية أخرى على أن الصين تتقدم بشكل أسرع نحو إنتاج سلع عالية الجودة. ويرى كلاوديو فاكتشين، رئيس عمليات مجموعة أيه بي بي السويسرية السويدية للصناعات الهندسية في الصين، أن المستوى العام للقدرة الصناعية في الصين- وفقاً لتقديرها ببعض العوامل مثل نوعية الموردين المحليين وتوافر خبرات التصميم رفيع المستوى- يصل إلى ما يقرب من 75 في المائة من المستوى العام في ألمانيا بعد أن كان 50 في المائة فقط منذ خمسة أعوام. وأضاف: ”إننا نجمع بين مهارات التطوير الهندسي والقدرات الصناعية للمصانع الصينية ونبدأ في إفراز منتجات جديدة هنا لم نكن قادرين على تصنيعها من بضع سنوات”.

ومما لا شك فيه أن ارتفاع تكاليف الأجور في الصين تعد جزءاً من صميم النقاش الدائر حول فعالية التكلفة. وأوضحت دراسة أجراها معهد إيفو الألماني للاقتصاد أن متوسط الارتفاع السنوي في تكاليف الأيدي العاملة في القطاع الهندسي في الصين بلغ 11.6 في المائة في الفترة ما بين عامي 2008 و2010 في مقابل ارتفاع مشابه في الاتحاد الأوروبي بلغ 1.9 في المائة وانخفاض خلال نفس الفترة بلغ 8.5 في المائة سنوياً في الولايات المتحدة و3 في المائة في اليابان.

وقد أدى ارتفاع الأجور إلى تكهنات تحول بعض الشركات الصناعية الأجنبية وجهتها بشكل متزايد بعيداً عن الصين بحثاً عن قواعد أرخص في جنوب شرق آسيا. ولكن الصين لا تزال تتمتع بمزايا واضحة من حيث تكلفة الأيدي العاملة، ناهيك عن البنية التحتية والتكنولوجيا والمستهلكين.

الجدير بالذكر أن الأيدي العاملة في المصانع الصينية لا تزال أرخص في الغالب من نظيرتها في عديد من الدول الغربية بنسبة تراوح بين 80 و90 في المائة. وأصبحت الأيدي العاملة تشكل جزءاً أصغر من تكاليف التشغيل نتيجة لجوء المصانع إلى استخدام مزيد من التكنولوجيا- خاصة في بعض الصناعات مثل الإلكترونيات التي ترغب الصين في تشجيعها- حيث تمثل العمالة في عديد من الصناعات من 10 إلى 15 في المائة فقط من إجمالي التكاليف.

وقال يوشيتاكا موريناغا، رئيس أحد المصانع الصينية التي تديرها شركة نيتشيكون وهي شركة يابانية رائدة في صناعة المكثفات الكهربائية: إن تأثير ارتفاع الأجور- في الصناعة التي يعمل بها على الأقل- كان محدوداً للغاية. ويذكر أن الأمر الأكثر أهمية كان يتمثل في التطور المتزايد الذي شهدته الصين في مجال التصنيع مع تحسن نوعية الموردين وانخفاض المشاكل المتعلقة بالجودة وتحسن الشبكات اللوجستية. وأضاف موريناغا: ”لدينا من 50 إلى 60 موردا في الصين، ولأنهم أفضل من ذي قبل (من حيث الجودة والثقة) يمكننا الآن صناعة المكثفات الكهربائية في الصين بتكلفة تراوح بين 70 و75 في المائة من تكلفة صناعتها في اليابان بعد أن كانت تراوح بين 80 و85 في المائة منذ خمسة أعوام”.

وفي حين أن هذه التعليقات تضفي صورة إيجابية على الجهود التي تبذلها الصين للتقدم في المجال الصناعي، هناك مؤشر مُشجع آخر يتمثل في تسارع وتيرة تطور الشركات الصينية التي تكتسب المعرفة الفنية على الصعيد الدولي، ومن بين ”الأبطال” التي اكتسبت هذه الدراية: شركتا هواوي و”زد تي إي”، وهما من أكبر الشركات الصينية في مجال معدات الاتصالات، وشركة سينوبك ومجموعة بلوستار الوطنية الصينية للصناعات الكيميائية وشركة ساني لمعدات البناء وشركة أفييشن أندستري وهي شركة طيران حكومية.

ويتطلع تشن يانشون، رئيس مجلس إدارة شركة بي أو إي للتكنولوجيا ومقرها بكين التي تعد أكبر الشركات المصنعة لشاشات التلفزيون المسطحة في البلاد وسادس أكبر مورد في العالم، إلى اللحاق بركب هذه الشركات. وقال تشن: إن شركته ستضاعف عدد مهندسي التطوير إلى ستة آلاف مهندس في السنوات الخمس المقبلة. ويذكر أن الشركة تمتلك في الوقت الحالى ستة آلاف براءة اختراع. ولاحظ أن ”بعض الأجانب يجدون صعوبة في تقدير ذلك، ولكن كثيرا من الشركات الصينية تتميز في الابتكار”.

وحتى مع هذه التقييمات، فإن الاستنتاج الأكبر الذي خلص إليه عديد من المديرين التنفيذيين الغربيين العاملين في مجال الصناعة هو أن الصين لا تزال أمامها شوط قبل أن يمكن اعتبارها مصدراً للإبداع التكنولوجي الحقيقي- خاصة عندما يتعلق الأمر بالمنتجات ”الإبداعية” التي ستصنع فارقاً كبيراً على الصعيد العالمي وتتضمن الجمع بين عدة أنواع مختلفة من التكنولوجيا تشمل المواد وتصميم الإلكترونيات فضلاً عن البرمجيات.

ومما يوضح الفوارق بين الصناعات هو أن معظم ”الأبطال القوميين” في الصين- ربما باستثناء ”هواوي” و”زد تي إي”- قد برعوا في البناء على منصات التكنولوجيا التي خططتها لهم بالفعل شركات غربية كبرى، حيث ازداد معظم التقدم الذي تم تحقيقه تدريجياً. ولم تظهر الشركات الصينية بعد براعتها في الصناعات الأكثر تعقيداً بطبيعتها مثل معدات القطع التي تعمل بالليزر ومكابس السيارات الثقيلة والحديد عالي الجودة الذي يستخدم في بعض الأغراض مثل أوعية الضغط النووية ومعظم أنواع المعدات الطبية المتقدمة.

وقال عمر إشراق، الرئيس التنفيذي لشركة ميدترونيك وهي شركة أمريكية كبرى لصناعة الأجهزة الطبية: إن قدرة الصين على اتخاذ خطوات كبرى في المجال التكنولوجي ”لا تزال محدودة”. وقال جيمس شيا، رئيس عمليات الفحص الطبي في الصين لمجموعة سيمنز الهندسية الألمانية: إنه ”لم يندهش بعد” من أي تقدم تقني حققته الشركات التي تعمل في مجاله في الصين.

وبشكل عام، يمكن القول إن الصين قد حققت تقدماً مذهلاً على مدار العشرين عاماً التي حاولت فيها اللحاق بركب الدول الصناعية وذلك عندما يتعلق الأمر بتصحيح الأساسيات، ولكن عندما يتعلق الأمر بالإنجازات التكنولوجية فإنها لا تزال في مرحلة الانطلاق- وذلك يتماشى تماماً مع ما يمكن توقعه لدولة بدأ فيها للتو التحول إلى دولة صناعية.

واعترف يه شيكو، رئيس مجلس إدارة شركة أنهوي تياندا المصنعة لأنابيب الصلب التي يتم استخدامها في القطاع النفطي، بأن البلاد لا يزال أمامها شوط كبير يجب أن تقطعه قائلاً ”لقد استوردنا على مر السنوات معظم الأفكار التي استخدمناها لتحقيق تقدم في المجال الصناعي في الصين، وأرى أننا ما زلنا لا نقدم ما يكفي للتوصل إلى أفكار جديدة بأنفسنا”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.