موقع متخصص بالشؤون الصينية

الصين: نعومة المخالب

0

china-naserhosseini1

موقع الصين بعيون عربية ـ
بحث جامعي من إعداد: ناصر الحسيني
(البحث يعبر عن اختيارات الكاتب وآرائه واستخلاصاته ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع )
محتويات الفهرس

المقدمة
أولاً: تعريف بجمهورية الصين الشعبية

ثانياً: النظام السياسي الصيني وآليات صنع القرار
فلسفة قديمة في الحكم تلاقت مع الفكر الماركسي
اعتماد سياسة الإصلاح وإظهار صورة حسنة عن الصين
انفتاح على الإعلام
قبول صيني بمبدأ تعدد الأقطاب ومشاركة في المسؤوليات
غياب التنسيق
توزيع القوى في النظام السياسي الصيني
القوى “التقليدية” الرئيسة صانعة القرار
دور الفرد (الزعيم)
قيادة جماعية اللجنة الدائمة للمكتب السياسي
دور الرئيس
دور الوزارات والأمن والدفاع
القوى” المستجدة “المؤثرة في صناعة القرار

ثالثاً: السياسة الصينية الخارجية
استراتيجية الصين الخارجية
نصّ رسمي صيني قدّم سياسة الصين الخارجية
من ينفذ السياسة الخارجية للصين
الجيش الصيني له علاقات نديّة
الأداء الصيني الخارجي
ـ المنطقة العربية
ـ تأثيرات الربيع العربي على سياسيات الصين الخارجية
ـ التواجد الصيني في قارّة أفريقيا
ـ الدخول إلى أفريقيا
ـ الصين تستورد حاجاتها النفطية من أفريقيا
ـ السّمات الست في سياسة الخارجية الصينية
ـ علاقة الصين بالولايات المتحدة الأمريكية
ملفات التنافر السياسي بين البلدين
الملف الإقتصادي
تايوان والعلاقات مع أمريكا
ـ إستخدام القوة الصينية
ـ الصين تنخرط دولياً
ـ حل الخلافات الحدودية
ـ الاتفاقيات أمنية
ـ تطبيق قرارات مجلس الأمن
ـ التسلح
القوة الناعمة
الخاتمة : 

 

مقدمة
يجمع الباحثون في السياسات الخارجية لدولة الصين الشعبية أنّها لا تزال في طور بنائي بطيء لأسباب ذاتية تتعلق بتضارب مراكز القوى والنفوذ وضخامة المتطلبات وأولويات التوجهات وعلى رأسها الإقتصادية، وأخرى مردها إلى فقدان الشخصية الصينية الكاريزميّة التي تفرض سطوتها في المجال العالمي. ورغم التطور العسكري والتكنولوجي والنفوذ العالمي ضمن تحالفات إقليمية (دول البريكس وشنغهاي وأبيك …)، فإنّ دورها الدولي وخاصّة في مجلس الأمن يلعب دور التابع، ولم تسجل الصين في تاريخها أي استعمال للفيتو ابتداءً، وهي تحافظ على علاقات إيجابية مع جميع الأطراف كي لا تخسر أي نقاط إيجابية في تغلغلها الإقتصادي والسياسي والإجتماعي، ففي عز احتدام الصراع بين العرب وإسرائيل حافظت على العلاقة مع طرفي الصراع، وشاركت في قوات حفظ السلام، وابتعدت عن الصدامات المسلحة، وعالجت قضاياها الحدودية والسيادية وأنهتها بتوافق مع جيرانها ميانمار والنيبال ومنغوليا وأفغانستان على التوالي ووقعت معاهدات الحدود معها، كما وقعت مع باكستان معاهدة الحدود بين منطقة شينجيانغ الصينية والمنطقة التي تسيطر باكستان بشكل فعلي على شؤونها الدفاعية. وحلت مشكلة الجنسية المزدوجة للجاليات الصينية في اندونيسيا. ورغم أنّ هذا التوافق جاء بسبب تنازلات الصين الحدودية، فقد تمتعت مناطق الحدود الصينية والتي كانت مصدر اندلاع الحروب الكبرى مع الصين بحالة أمنية لم تشهدها من قبل.
وفي البحث عن هوية صانع القرار السياسي الصيني نجد أنّها تقلّبت بين من أمسك بالقرار الصيني منفرداً لضخامة زعامته (ماو تسي تونغ) أو لحيازته السلطات الثلاث بيده (رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ورئاسة الدولة ورئاسة اللجنة العسكرية)، وبين القيادة الجماعية الممثلة باللجنة الدائمة للمكتب السياسي أو “السبعة الكبار”، وعلى الهامش مجموعات قيادية صغيرة لمعالجة الأزمات الطارئة. وفي البحث أيضاً تساؤل هل كان الفكر الشيوعي معتقداً أيديولوجياً أصيلاً عند مؤسسي الجمهورية الصينية أم أنّه استخدم لمصلحة تأسيس الجمهورية الإشتراكية ذات الخصائص الصينية، وبهذا نفهم الإفتراق الذي كان حاصلاً مع الإتحاد السوفياتي آنذاك…
وتتعامل الصين مع عدد لا مثيل له من اللاعبين الخارجيين الذين يحاولون التأثير على تطورها وموقعها عبر استعمال طرق يعتبرها النظام خطيرة كونها تهدد صموده، فعلى الحدود الشاسعة، تتاخم الصين 14 دولة متفاوتة الكِبَر والأهمية، وباستثناء روسيا، لا يوجد دولة محاطة بهذا العدد من الدول المجاورة التي تشمل خمسة بلدان كانت الصين قد خاضت الحروب ضدها خلال السبعين سنة الماضية (الهند، اليابان، روسيا، كوريا الجنوبية، فيتنام)، بالإضافة إلى دول تحكمها أنظمة غير مستقرة. ولا تعتبر أي دولة من تلك المجاورة للصين أن مصالحها الوطنية المحورية تتماشى مع مصالح بكين.
كما يوجد بمحيط الصين ستّ مناطق جيوسياسية مختلفة: شمال شرق آسيا، أوقيانيا، المنطقة البرية من جنوب شرق آسيا، المنطقة البحرية من جنوب شرق آسيا، جنوب آسيا، آسيا الوسطى، وتطرح كل منطقة من هذه المناطق مشاكل دبلوماسية وأمنية معقدة.
وإذا جاز لنا التحدث عن ضعف وجود الصين في الفضاء الدولي، يحق لنا البحث عن أسباب نجاحها في إخافة القوى الدولية الكبرى وعلى رأسها القوة الأكبر في العالم الولايات المتحدة، خاصة في المجال الإقتصادي وفتح الأسواق الجديدة، مع ملاحظة دبلوماسية وسلوكيات عمدت فيها الصين إلى اللجوء للقوة، وهنا يحضر التساؤل ما إذا كانت المفاوضات الجارية مع حلف الناتو ستجعل الصين عضواً فيه مع ما يستتبع ذلك من تناقض صارخ مع سياساتها الأساسية …
عموماً، كان لإصدار الحكومة الصينية عام 1954 مع حكومتي الهند وميانمار (بورما سابقاً) كلٌ على حِدَة بياناً مشتركاً لتحديد مبادئ الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي وعدم الإعتداء وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي كمبادئ أساسية لإرساء العلاقات بين الجانبين، أثرٌ بالغ في ميلاد المبادئ الخمسة للتعايش السلمي والتي شكلت وأصبحت تدريجياً هي المبادئ التي تحكم العلاقات الدولية في المجالين السياسي والاقتصادي وغيرهما.

يقع هذا البحث عن الصين وسياساتها الخارجية في عدة أقسام، هي: تعريف بالصين الشعبية، النظام السياسي الصيني وآليات صنع القرار، السياسة الصينية الخارجية، القوة الناعمة للصين، وخاتمة.
أولاً : تعريف بجمهورية الصين الشعبية:

الصين وتعرف رسمياً باسم جمهورية الصين الشعبية تأسست سنة 1949؛ هي الدولة الأكثر سكاناً في العالم مع أكثر من 1.338 مليار نسمة. تقع في شرق آسيا ويحكمها الحزب الشيوعي الصيني في ظل نظام الحزب الواحد. تتألف الصين من أكثر من 22 مقاطعة وخمس مناطق ذاتية الحكم وأربع بلديات تدار مباشرة (بكين وتيانجين وشانغهاي وتشونغتشينغ) واثنتان من مناطق عالية الحكم الذاتي هما هونغ كونغ وماكاو. عاصمة البلاد هي مدينة بكين. تمتد البلاد على مساحة 9.6 مليون كيلومتر مربع (3.7 مليون ميل مربع).
منذ إدخال إصلاحات اقتصادية قائمة على نظام السوق في عام 1978 أصبحت الصين أسرع اقتصادات العالم نمواً حيث أصبحت أكبر دولة مصدرة في العالم وثاني أكبر مستورد للبضائع. ويُعَد الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي وتعادل القوة الشرائية.

الصين عضو دائم في مجلس الأمن للأمم المتحدة. كما أنها أيضاً عضو في منظمات متعددة الأطراف بما في ذلك منظمة التجارة العالمية، والأبيك APEC (منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا-المحيط الهادئ)، وبريك PREC (مجموعة تضم الصين، البرازيل، روسيا والهند)، ومنظمة شانغهاي للتعاون (روسيا، الصين، قيرغيزستان، كازخستان، أوزبكستان وتاجيكستان)، ومجموعة العشرين (الأرجنتين، استراليا، البرازيل، كندا، الصين، فرنسا، المانيا، الهند، اندونيسيا، ايطاليا، اليابان، المكسيك، روسيا، المملكة العربية السعودية، جنوب أفريقيا، جنوب كوريا، تركيا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي هو العضو العشرين المكمل للمجموعة).
تمتلك الصين ترسانة نووية معترف بها وجيشها هو الأكبر في العالم في الخدمة مع ثاني أكبر ميزانية دفاع.
ركزت الصين على التجارة الخارجية بوصفها وسيلة رئيسية للنمو، الأمر الذي أدى إلى إنشاء مناطق اقتصادية خاصة أولا في شينتشين (بالقرب من هونغ كونغ) ثم في غيرها من المدن الصينية. جرت أيضاً إعادة هيكلة الشركات غير الكفؤة المملوكة للدولة من خلال إدخال النظام الغربي في الإدارة بينما أغلقت الشركات غير المربحة.
يرجع النمو السريع في الاقتصاد والصناعة في الصين الشعبية إلى السياسة التي اتبعها دينج شياو بينج حيث بدأ في أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في إرسال البعثات إلى البلاد الغربية لتعلم الهندسة والاقتصاد وطرق الإدارة الحديثة بغرض التطوير الاقتصادي في البلاد. واعتمد على الـ “تكنوقراطيين” في حل مشاكل الصين الشعبية وتطويرها وتشغيل الصينيين، فاستطاعوا حل مشاكل الصناعة والتطوير العملي والانتقال من مجتمع زراعي بحت إلى مجتمع صناعي. وبعد عام 1985 أصبح التكنوقراطيون أكثرية في المجلس المركزي وهو أعلى مجلس نابع من الحزب الشيوعي.
جمهورية الصين الشعبية هي رابع دولة في العالم من حيث عدد السياح بنحو 50.9 مليون سائح دولي عام 2009. هي ثاني قوة تجارية في العالم خلف الولايات المتحدة حيث تبلغ تجارتها الدولية 2.21$ ترليون. يبلغ احتياطي البلاد من النقد الأجنبي 2.4$ ترليون، مما يضعها في المرتبة الأولى عالمياً في هذا المجال. تمتلك جمهورية الصين الشعبية ما يقدر بنحو 1.6 ترليون دولار من سندات الضمان الأمريكية. تعتبر جمهورية الصين الشعبية أكبر ممتلك أجنبي للدين العام الأمريكي، إذ تستحوذ على 801.5$ مليار من سندات الخزينة. تصنف البلاد ثالثة من حيث حجم الاستثمار الأجنبي المباشر فيها، حيث جذبت 92.4$ مليار دولار في عام 2008 وحده، كما أنها تستثمر بصورة متزايدة في الخارج بمبلغ إجمالي قدره 52.2 مليار دولار في عام 2008 وحده لتصبح سادس أكبر مستثمر خارجي في العالم.
على الرغم من أن الشعب الصيني فقير وفقاً للمعايير العالمية فإن النمو السريع لاقتصاد البلاد تمكّن من نشل مئات الملايين من الناس وأخرجهم من حالة الفقر منذ عام 1978. اليوم يعيش حوالي 10% من سكان الصين (مقابل 64% في 1978) تحت خط الفقر (يصل تعادل القدرة الشرائية الخاص بهؤلاء الناس إلى دولار واحد في النهار)، في حين ارتفع متوسط العمر المتوقع بشكل كبير إلى 73 سنة. أكثر من 93% من السكان يعرفون القراءة والكتابة، مقابل 20% في عام 1950. كما انخفضت البطالة في المناطق الحضرية إلى 4% بحلول نهاية عام 2007 (1).

ومقابل هذه الصورة الوردية، نجد بالمقارنة مع اقتصاديات دولة توازي الصين هي الولايات المتحدة الأمريكية أنّ هناك جوانب ضعف في الاقتصاد الصيني الداخلي، حيث لا يزيد متوسط الدخل عن ربع متوسط الدخل في الولايات المتحدة، ولا يتعدّى الحد الأدنى للأجور ثلث نظيره في الولايات المتحدة، ولا تنفق الصين إلا 10 بالمائة من إنفاق الولايات المتحدة على البحوث والتنمية، ذلك في الوقت الذي لا تتعدى نسبة الباحثين والعلماء الصينيين الذين لديهم القدرة على التنافس عالمياً عشر نسبتهم في الولايات المتحدة.
يُضاف إلى هذه الجوانب العامل الإداري، حيث أنّ الصين في حاجة ماسة إلى إعادة هيكلة النظام المصرفي وتحسين أوجه الإنفاق وردم الهوة في مستويات الدخل بين المناطق الريفية والمدن. وفي الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المواطن الصيني، نجد حوالي 140 مليون صيني وهو ما يعادل 15% من الأيدي العاملة هم عمال تراحيل ليس لهم مقر إقامة ثابت. ومع وجود استثمارات ورؤوس أموال ضخمة في البلاد لكن في ذات الوقت هناك ما يزيد على 400 مليون شخص يعيشون على أقل من دولارين في اليوم.
ناهيك عن الفقر والأوضاع السيئة للخدمات الصحية وانتشار مرض الايدز والسارس وعدم توفر الخدمات الأساسية والتعليم للمواطن خاصة في المناطق الريفية، ويضاف إلى كل ذلك مناخ القهر السياسي وانتفاء حرية التعبير (2).

ويتساءل أحد المختصين فيقول : لماذا نصر على القول أن الصين ما زالت دولة نامية؟ وخصوصاً بعدما تجاوزت الصين مكانة اليابان من حيث الناتج المحلي الإجمالي لتكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم. من المعروف أن الناتج المحلي الإجمالي مجرد مؤشر واحد من بين المؤشرات الاقتصادية الكثيرة في قياس القوة الاقتصادية، وليس المقياس أو الدليل الوحيد على الملامح الحقيقية لاقتصاد ما. وهناك إجماع في أوساط العلوم الاقتصادية في العالم على أن النصيب الفردي للناتج المحلي الإجمالي يعتبر من المؤشرات الأدق والأكثر موضوعية في قياس القوة الاقتصادية، فنجد أن هذا الرقم في الصين مجرد 3800 دولار أمريكي. وإنه في المرتبة الـ 105 في العالم حسب ترتيب البنك الدولي، وهو ما بعد كثير من الدول الأفريقية أو أمريكا اللاتينية، ناهيك عن الولايات المتحدة أو اليابان.

وما زال يعيش 150 مليون صيني على أقل من دولار أمريكي واحد في اليوم، أي تحت خط الفقر المُدقع حسب معايير الأمم المتحدة. إلى جانب هذه الأرقام، فالمسألة الأعمق التي تستحق مزيداً من التأمل هي كون ونمط نمو اقتصاد الصين، سواء في جودة معيشة الشعب، أو في مجالات العلوم والتكنولوجيا وحماية البيئة وغيرها. على سبيل المثال، رغم أن الصين أكبر دولة مصدرة في العالم، غير أن القوام الرئيسي الذي تعتمد عليه الصادرات الصينية هو قطاع التصنيع، بمعنى أنّ المنظومة الصناعية الصينية في مُجملها تفتقر إلى القدرة الإبداعية والتكنولوجيا ذات الملكية الفكرية الوطنية والماركات ذات القدرة التنافسية العالمية. زد على ذلك، ما زالت عملية التنمية في الصين تعاني من عدم توازن بين المناطق الجهوية المختلفة، وبين الأرياف والمدن.
وفي المناطق الوسطى أو الغربية هناك الأرياف الشاسعة والمتخلفة، وحتى المدن في هذه المناطق تعاني من مشاكل تخلّف البنية التحتية وتدني مستوى الدخل للمتوسط. وتصل نسبة سكان الأرياف إلى أكثر من 30 في المائة في الصين، بينما تكون هذه النسبة حوالي 10 في المائة في الدول المتقدمة.

وعندما نتكلم عن الحقيقة الواقعة في الصين، لا بد أن نتذكر دائماً بأن الصين أكبر دولة من حيث عدد السكان، طبعاً لا ننكر أن هذا يوفر لها موارد بشرية هائلة، لكنه أيضاً يشكل عبئاً ثقيلاً على أكتافها في طريق تحقيق التنمية. ويكفي أن نذكر رقماً واحداً لتوضيح خطورة عبء السكان في الصين، فحسب الإحصائيات الرسمية، يبلغ عدد الخريجين الجامعيين كل عام في الصين حوالي 6 مليون شخص، ونتوقع تجاوز العام الجاري هذا الرقم. فليس من الصعب أن نتصور أن الحكومة الصينية تواجه كم من الضغوط والتحديات في إيجاد فرص عمل كافية ومناسبة لهؤلاء الشباب. هذه هي الحقيقة . (3)

ثانياً: النظام السياسي الصيني وآليات صنع القرار
باتت الصين باعتبارها دولة كبرى وقوة صاعدة مطالبة باتخاذ القرارات وتفعيل دورها في قضايا جديدة لم تكن في صلب اهتمام صانع القرار الصيني كالبيئة والتغيرات المناخية وأمن الطاقة ونزع التسلح وحفظ السلام، فوجدت نفسها بحاجة إلى جهاز أكبر وفهم أوسع للتطورات السياسية والاقتصادية على المسرح الدولي؛ ما أدى إلى اتساع رقعة الهيئات والمنظمات المعنية بصناعة القرار وتشعبها. وهو الأمر الذي قاد إلى تطور عملية صناعة القرار وابتعادها التدريجي عن المركزية المطلقة واقترابها التدريجي والبطيء من صيغة أكثر مؤسساتية لكنها لا تزال غير واضحة وخاضعة للتغيير ولم يتم صقلها وبلورتها وصياغتها بعد، باعتبار أن عملية التحول في الصين لم تستكمل كل فصولها.
وهناك اتجاه لدى الزعماء الصينيين يحول دون تبلور دورها سريعاً وتشكيل ثقل ونفوذ في المجتمع الدولي، ويتمثل بأنّه ” لا تزال السياسة الخارجية للصين تختص بالأهداف المحلية لرؤسائها: والمعروفة بالتقوية والإصلاح والتأكيد على الإبقاء على نظام حكم لينين في فترة التحول”. وحتى مع زيادة تفعيل دبلوماسية الدولة فإن الوضع الداخلي لم يتخذ شكلاً ثابتاً بعد، حيث يتصارع زعماؤها مع التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تصاحب التحول .(4)

فلسفة قديمة في الحكم تلاقت مع الفكر الماركسي
من جهة أخرى يرى باحثون آخرون أنّ أيدلوجية الحزب الشيوعي لم تكن هي الوحيدة المؤسسة لجمهورية الصين الشعبية، بل هناك حيثيات وأفكار خاصّة واستخدامات كان لها اسهامات في نشؤ نظام الجمهورية الصينية، وكل فترة يتبنّى الحزب الشيوعي الحاكم سلسلة تغيرات وإجراءات تصب في مصلحته مستمدة من آليات رأسمالية …
إنّ فهم السياسة الخارجية الصينية يتطلب الذهاب إلى ما هو أبعد من تحليل النظرية الماركسية – اللينينية، التي كان لها تأثير ضئيل على سياسة الصين الخارجية، إن قُورِن بتأثيرها على سياسة الاتحاد السوفيتي الخارجية، ولا يُعَد النسق العَقَدِي الذي يجسد سياسة الصين الخارجية محصَّلة للأيديولوجية الشيوعية فقط، وإنما للقوى التاريخية أيضاً، والأهم من ذلك لمعتقدات ماوتسي تونج، الذي رأس الحزب الشيوعي الصيني ما يقرب من 41 عاماً قبل وفاته في عام 1976م.
لم يكن تحوُّل الصين إلى دولة شيوعية في عام 1949م يُعْزَى في الواقع إلى انتشار المبادئ الماركسية – اللينينية؛ فقد كان نجاح الثورة الشيوعية في الصين راجعاً إلى الوعد بالإصلاح الزراعي، وعجز وفساد نظام تشيانج كاي تشك، ويرى البعض أن ماو وصل إلى الحكم نتيجة “شن حرب قومية”؛ حيث كان “ماو” قوميّاً قبل أن يكون شيوعيّاً، وكانت الصين أكثر أهمية بالنسبة إليه من الثورة العالمية . (5)

وبدراسة عدد من قرارات السياسة الخارجية الصينية يظهر أنّ تلك القرارات لم تُبْنَ على أساس أيديولوجي، وبالتالي يجب اعتبار الأيديولوجية عاملاً مساعداً فقط في عملية صنع السياسة الخارجية الصينية . (6)

والأيديولوجية الماركسية الصينية لم تكن مُرشِداً للعمل؛ لأنه وجد أن هناك انقساماً دائماً بين صانعي القرار حول جميع قرارات السياسة الخارجية المهمة منذ عام 1949م، والواقع أن المذهب الماركسي الصيني – كأي مذهب آخر – قد تبدَّل لمواكبة الأوضاع الدولية المتغيرة.
وحتى هذا الولاء القولي الصيني للأيديولوجية الماركسية تضاءل بمرور الزمن؛ ففي مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني عام 1973م، قدَّمت الصين نفسها على أنها حامية مصالح الدول الصغيرة والمتوسطة، وقائدة للعالَم الثالث، الذي ادَّعت الانتماء إليه بدلاً من العالَم الشيوعي، وأظهر تحليل مضمون الموضوعات الأيديولوجية في جريدة الشعب اليومية انخفاضاً حادّاً في استخدام الصيغ الأيديولوجية؛ لذا فالإشارة إلى الشيوعية – التي حققت 109 – 115 نقطة في عام 1972 – 1973م على التوالي، انخفضت إلى 16 نقطة فقط في السنوات اللاحقة، كذلك فقد انخفضت الإشارة إلى الإمبريالية، والعنصرية، والاستعمار، إلى النصف بين عامي 1972 و1974م . (7)
كذلك بدأ رفاق الرئيس المقربون خلال الستينيات في التركيز بدرجة أكبر على فكرة ماوتسي تونج، والإقلال من الحديث عن الماركسية، ولم يعد المصدر الرئيس المحدد للسياسة مرتكِزاً على تعاليم ماركس وإنجلز ولينين، ولكن على “الكِتَاب الأحمر الصغير” للرئيس ماو؛ ولذلك اتهم الاتحاد السوفيتي جمهورية الصين الشعبية بأنها معادية للماركسية.
ويبدو أن للقيم الكونفوشية التقليدية المستوى نفسَه من الأهمية، إن لم تكن أكثر أهمية من الماركسية في التأثير على سلوك الصين الخارجي، ويلاحظ أن هناك توافقاً بين الكونفوشيّة والماركسية؛ لأن كليهما يؤكد على دور التناقضات، فالماركسية بمفهومها عن الفكرة ونقيضها، منسجمة مع استعداد الصينيين لتقبُّل المتضادات؛ فالصينيون يؤيدون النزعة السلمية الكونفوشية من ناحية، ومن ناحية أخرى يحترمون التقاليد الحربية في الصين القديمة، التي استمرت في الفترة من عام 403 حتى 221 قبل الميلاد.
وتُعَدُّ السلطة هي الركيزةَ الأساسية في الفكر الكونفوشي، وقد ساعد احترام الصينيين التقليدي للسلطة على وضع ماوتسي تونج في مركز الصدارة خلال فترة طويلة من حياته. ولم يتوان ماو في استغلال تلك التقاليد لتدعيم حكمه، وقد أكد ماو أن مشكلة (الرئيس الروسي نيكيتا) خروشوف، التي تسببت في تنحيتِه عن السلطة، كانت فشله في إقامة “عبادة الفرد”.
من جهة أخرى، وفي محاولتها بناء اقتصادها؛ عارضَتْ الصين، حتى وقت قريب، التكنولوجيا الأجنبية، أو الدعم الاقتصادي الخارجي، على الرغم من أنه قد يساعدها في اكتشاف موارد حيوية كالبترول، وقد امتنعت جمهورية الصين الشعبية عن قَبول ما هو أقل من الاعتراف التام بها حكومةً للصين بأسرها، مع سحب الاعتراف من تايوان، كما أكدت أهميتها كعضو رئيسي في النظام الدولي عام 1971م، بالحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، ولكن الولايات المتحدة لم تعترف بالصين الشعبية اعترافاً دبلومآسيا كاملاً إلا بعد مرور ثماني سنوات على ذلك التاريخ . (8)

اعتماد سياسة الإصلاح وإظهار صورة حسنة عن الصين
احتلّ ماوتسي تونغ مكانة “الأب الإله” ثم جاء بعد ذلك حكم دينغ ليفتح آفاقاً جديدة حيث توطدت روابط الصين بالمجتمع الدولي ولكن ظلت القرارات النهائية تتصف بالمركزية الشديدة. وعلى الرغم من ذلك فقد أصبحت عملية اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الآن تتميز بالمؤسسيّة واللامركزية ولم تعد أيضاً تعتمد بشكل كبير على الصفة الفردية لأحد القادة.
ومن أحد محاور التغير في الصين إتاحة فرصة أكبر للدور الذي تلعبه هيئات الإدارة الحكومية المتناظرة والمختصة بقضايا السياسة الرئيسية والمعروفة باسم المجموعات القيادية الصغيرة. كما قامت بكين في أواخر عام 2000 بتأسيس مجموعة قيادية جديدة للأمن القومي. كما تشكل هذه الهيئات الصورة العامة للنظام السياسي وأيضاً فإنّ من شأنها تقييد السلطة التي يستقل بها فرد أو حزب.
عملت الصين أيضاً على تنويع مصادر التحليلات السياسية التي تصل إليها من داخل الحكومة أو من خارجها. فعلى سبيل المثال فإن القسم الجديد للتخطيط المتطور لسياسة وزارة الخارجية يلعب الآن دوراً بارزاً كأحد مصادر الفكر السياسي الداخلية. ومن ناحية أخرى، فقد بدأت الحكومة في تعيين متخصصين من خارج الحكومة للاستعانة بهم كمستشارين للقضايا الفنية مثل تلك التي تتعلق بعدم انتشار الأسلحة المحظورة والدفاع الصاروخي. هذا ويشارك عدد كبير من الدارسين والمحللين السياسيين الصينيين بصورة منتظمة في مجموعات الدراسة الداخلية وكتابة التقديرات إلى جانب تصميم بعض المختصرات السياسية حيث يقوم هؤلاء الدارسون والمحللون السياسيون بكثير من الدراسات والزيارات للخارج للقاء بنظائرهم من الخبراء الدوليين، بالإضافة إلى أنهم يلفتون أنظار الزعماء الصينيين إلى الاتجاهات الدولية السائدة ويطرحونها عليهم في قالب من الخيارات السياسية.
وهناك أيضاً عامل آخر كانت له بصمة واضحة في تطوير عملية صنع القرار في السياسة الخارجية للصين وهو توسيع رقعة المناقشة العامة لتشمل الشؤون العالمية. فلم يكن هناك أية مناقشات مفتوحة تتناول المشكلات الحساسة مثل حظر الأسلحة أو الدفاع الصاروخي في خلال العشر سنوات الماضية، ولكن في الوقت الراهن يستطيع النقّاد أن يتناولوا كل تلك القضايا بالدراسة في آرائهم ولقاءاتهم التلفزيونية إلى جانب مؤلفاتهم بغرض تفعيل وهيكلة الدبلوماسية الصينية. وفي الوقت نفسه فقد بدأت فئة من الصينيين تضم مسؤولي الإعلام والمتحدثين الرسميين للحزب الشيوعي والصحف اليومية الشعبية تجري مباحثات باستخدام أسلوب المائدة المستديرة بالاستعانة بالإدارة الصريحة للمحللين الجدد حتى إن بعض الصحف وخاصة “الهوانكي شيباو” (أوقات عالمية) والـ “نانفانج زومو” (نهاية الأسبوع الجنوبي) قد نشرت بعض الآراء المطالبة بإيجاد بدائل لسياسة الحزب الرسمية مثل تلك التي تتعلق بكوريا الشمالية.

أما عن الأسلوب الذي يتّبعه الساسة في تنفيذ الدبلوماسية الصينية المتطورة بشكل كبير، فقد تميّز بالبراعة والفطنة وهو ما أثمرته نتائج التدريب المناضل الذي بدأته وزارة الخارجية منذ أكثر من عشرين عاماً مع بدء فترة الإصلاح حيث قضى الدبلوماسيون الصينيون وقتاً طويلاً في دراسة العالم الخارجي من المتحدثين لغة أو أكثر من اللغات الأجنبية والحاصلين على درجات وشهادات علمية من جامعات أوروبا وأمريكا. كما عملت أيضاً على تعزيز فكرة تجنيد المؤهلات المتوسطة المحوّلة من الولايات الأخرى من أجل زيادة خبراتها في شتى المجالات . (9)

انفتاح على الإعلام
صحب تلك التغييرات في الواقع حملة صينية جديدة لتعميم وتعزيز السياسة الخارجية للدولة. ففي خلال العقود الماضية كانت المناظرات والتلخيصات يتم إحالتها إلى الصحف اليومية والتقارير الإخبارية والمطبوعات التي تصدرها وزارة الخارجية ثم تغيّر الوضع مؤخراً حيث أدركت الصين أهمية طرح وجهة نظرها للعالم الخارجي من أجل تحسين صورتها بين الدول. وطبقاً لذلك، فقد بدأت الصين في منتصف التسعينيات في إصدار ما يسمّى بـ “الأوراق البيضاء” الحكومية المتعلقة بالموضوعات الجدليّة للسياسة الخارجية من أجل التعزيز والدفاع عن آرائها، ومن هذا المنطلق، أصدرت الصين أكثر من ثلاثين وثيقة تتناول مجموعة متنوعة من القضايا الحساسة كتلك التي تتعلق بتنظيم عدد السكان وحقوق الإنسان إلى جانب قضية تايوان والتيبت وأيضاً قضية الدفاع الوطني.

وقامت بكين باستخدام الإنترنت كإحدى وسائل الاتصال بالعالم الخارجي على صفحات موقع مركز المعلومات الخاص بمجلس الدولة (www.china-org.cn) كما تقدم وزارة الشؤون الخارجية على موقعهــــا (www.fmprc.gov.cn) معلومات تتضمّن وصفاً تفصيلياً لموقفها حيال القضايا الإقليمية وعرض تفصيلي للمؤتمرات الصحفية والمحادثات الهامة. وتعتبر تلك الوثائق مدخلاً للوصول إلى الفكر السياسي الصيني وهو الأمر الذي كان مستحيلاً أثناء فترة حكم ماو أو دينغ.
وإلى جانب تلك التغييرات الداخلية فقد تبنت الصين طريقة أكثر ارتقاءً في التعامل مع مجموعات الصحافة الدولية. ففي عام 1999 افتتحت وزارة الخارجية مركزاً إعلامياً دولياً جديداً لعقد المؤتمرات الصحفية نصف الإسبوعية والتي يتم ترجمتها فورياً بالإضافة إلى أنها تغطي مساحة مناسبة لطرح الأسئلة الجريئة والإجابات الحقيقية حتى وإن كانت تتعلق بالتغييرات الطفيفة التي طرأت على سياساتها المعلنة. كما دعا كبار مسؤولي وزارة الخارجية الآف الصحفيين لعرض موجز للخلفية السياسية غير المعلنة من قبل نشر وثائق السياسات الكبرى أو عقب اجتماع القمم الثنائية مثل زيارة يانج زيمن لكراوفورد، تكساس في تشرين اول عام 2002. حيث تمثل تلك الخطوات انحرافاً مذهلاً لسلوك دولة اعتادت أن تضع شؤونها الخارجية تحت السرية التامة. وأخيراً، بدأ زعماء الصين أيضاً في تعزيز سياساتهم من خلال زياراتهم المتكررة للخارج. ففي خلال فترة التسعينيات سافر كل من جيانج زيمين ولي بينغ وزو رونجي بشكل متكرر إلى معظم قارات العالم خاصة دول آسيا. وقام الأعضاء الجدد للجنة الدائمة للمكتب السياسي بما يزيد عن أربعين زيارة للخارج في مدة تصل إلى أربع سنوات فقط. وعلى النقيض فلم يترك ماو الصين سوى مرتين فقط طيلة حياته (وهما المرتان اللتان زار فيهما الاتحاد السوفيتي) ومثله في ذلك دينغ الذي لم يسافر للخارج كرئيس للصين سوى مرات قليلة . (10)

قبول صيني بمبدأ تعدد الأقطاب ومشاركة في المسؤوليات
ويمثل حاصل تلك التغييرات في مضمون وسمات وتنفيذ سياسة الصين الخارجية خلال العشر سنوات الماضية طفرة تطويرية هامة طرأت على الطريقة الانطوائية والرجعية التي اعتادت الصين العمل بها فيما بين فترة الثمانينيات وأوائل التسعينيات. ومنذ أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 بدأت المؤلفات الاستراتيجية الصينية تعكس تحولاً حاسماً في وجهات النظر المتعلقة بالنظام الدولي والدور الذي تلعبه الصين نحوه.
ومن أحد أكبر المقومات النهائية للفكر الجديد بالصين هو قبولها مؤخراً اعتبار العالم في الوقت الحالي آحادي القطبية واعتبار أمريكا الكفّة الراجحة التي سيستمر وجودها إلى عقود قادمة. على الرغم من أنّ الزعماء الصينيين ساندوا مبدأ تعدد الأقطاب كتيار مناسب لكل العصور (وأدانوا في المقابل مبدأ آحادية القطب)، ويعترف المحلّلون الصينيون في الوقت الراهن بأنّ دولتهم لا ولن تستطيع في أي وقت مجابهة أمريكا كقوة مسيطرة على العالم برمته في الوقت الراهن، مع أن تلك الديناميكية لم تصبح مؤكدة بعد داخل آسيا. كما قام أحد خبراء السياسة الخارجية الصينية بنشر مقال مؤخراً يميز فيه بين “القوة المهيمنة” و “السلوك المهيمن”، كما اقترح أنّ الصين في إمكانها أن تفضّل “القوة المهيمنة” كحل مناسب عن “السلوك المهيمن”، وأضاف قائلاً إنّ:” تحقيق الصين للسلام والتنمية جنباً إلى جنب مع الأهداف الاقتصادية المرجوة يمكن أن يظل منتعشاً في العالم آحادي القطب وهذا هو الوضع الآن”. والأمر الذي لم يدركه الصينيون حتى الآن هو أنّ الاقتصاد الصيني قد أفاد بصورة هائلة من التفوق العسكري الأمريكي والمجهودات التي بذلتها أمريكا من أجل الحفاظ على الاستقرار في المنطقة الآسيوية خلال العشرين سنة الماضية . (11)
ويعد تأكيد الصين على إقامة علاقات دولية قوية ووضعها على قمة هرم أولوياتها السياسية الخارجية امتداداً طبيعياً لذلك التيار الفكري الحديث. كما يرى الاستراتيجيون الصينيون أن تحقيق مصالحهم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقوى العظمى بينما تكاد لا تتعلق بشؤون الدول النامية. ويعبّر ذلك التغيير وحده عن الطفرة الانتقالية المذهلة التي شهدتها الصين خلال فترة الستعينيات عندما كان بعض الصينيين ينكرون حقها في الدخول في نطاقات العولمة والدول العظمى والمؤتمرات التعددية. ولكن اليوم أصبح المسؤولون الصينيون يعبرون بصورة واضحة عن حاجة بلادهم إلى المشاركة في المسؤوليات العالمية شأنها في ذلك شأن غيرها من الدول العظمى. وانعكاساً لتلك التغيرات فقد أصبح الرئيس هيو جينتاو أول رئيس صيني يحضر اجتماعات مجموعة أكبر ثماني دول صناعية في العالم /G – 8/،ـ، (12)

غياب التنسيق
وعلى الرغم من كل التطورات التي طرأت على عملية صناعة القرار في الصين وخروجها من قبضة الفرد إلى قيادة جماعية ودخول لاعبين جدد عليها، إلا أنها لا تزال تعاني الكثير من العقبات والتحديات نتيجة لغياب الشفافية والرقابة البرلمانية وعدم وجود إعلام حر وتفشّي الفساد والمحسوبية والتملق، كما أن دور الحزب لا يزال متداخلاً بل مهيمناً على دور الدولة. كما يعتبر التناقض بين الدوائر المختلفة نتيجة تضارب المصالح وغياب التنسيق بينها من أهم العقبات والتحديات التي تواجه عملية صناعة القرار في الصين. ولقد تنبهت القيادة لهذه الثغرة وحاولت سدها من خلال تكليف مستشار مجلس الدولة داي بينغ غو بمهمة التنسيق بين مختلف الجهات، لكن ذلك ظل منحصراً في قضايا بعينها ولم يصبح بعد آلية متكاملة، ولعل من أبرز التناقضات القائمة التناقض بين السياسي والتجاري أو بين العسكري والسياسي والتجاري والعسكري.
ومن الأمثلة على تلك التناقضات قرار الجيش منع حاملة الطائرات الأميركية كيتي هوك من الرسو في ميناء هونغ كونغ قبيل أعياد الميلاد عام 2007 احتجاجاً على مبيعات الأسلحة الأميركية لتايوان، وبعد جدل محرج بين مسؤولي الجهاز الدبلوماسي ومسؤولي الجهاز العسكري الصينيين، سُمح أخيراً لحاملة الطائرات بالرسو. ومثال آخر هو سعي الحكومة والدبلوماسية الصينية إلى زيادة عدد القوات الصينية المشاركة في قوات حفظ السلام الدولية وأحياناً يتم ذلك دون التنسيق أو استشارة العسكريين كما حدث عندما وافقت الصين عام 2006 على إيفاد ألف جندي إلى لبنان لكن الجيش لم يرسل سوى 350 جندياً ما سبّب إحراجاً للدبلوماسية الصينية. ناهيك عن صفقات ومبيعات السلاح التي يجريها الجيش أو الشركات التابعة له إلى بعض مناطق النزاع أو الحروب الأهلية دون معرفة الجهات الدبلوماسية . (13)

توزيع القوى في النظام السياسي الصيني
تتميز التجربة الصينية في عملية صناعة القرار بأنها جاءت استجابة لتطورات موضوعية فرضتها الظروف المستجدة وليست ناتجة عن خطط علمية مدروسة؛ فعلى الصعيد الفردي لا يزال رئيس الجمهورية إذا أمسك بالمناصب الثلاث معاً يكون هو الأقوى، أي رئاسة الحزب الشيوعي واللجنة العسكرية المركزية إضافة إلى رئاسة الدولة. ولا تزال بالمقابل القيادة الجماعية هي الأكثر نجاعة ونجاحاً في الصين، والذي أكثر ما تتمثل فيه اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، وهي تضم السبعة الكبار الأكثر نفوذاً على الإطلاق. كما برزت جهات أخرى إلى جانب هذه القوى التقليدية الممسكة بزمام القرار الصيني كوزارة الأمن التي تجاوزت الزيادة في ميزانيتها المالية ميزانية الجيش، بسبب المخاوف من وصول عدوى الربيع العربي إلى المدن الصينية، في حين أن الجيش لا يزال يحظى بنسبة تقارب 20% في اللجنة المركزية للحزب، ونسبة 10% في البرلمان وهي نسب جيدة. ويحظى أيضاً بنفوذ قوي خارجياً بسبب أنشطته الخارجية كمبيعات الأسلحة أو التعاون مع الجيوش الأخرى.
عموماً، يتولى الأمين العام للحزب أيضاً منصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة اللجنة العسكرية المركزية (صاحبة النفوذ القوي جداً)، ويليه في الأهمية رئيس البرلمان ثم رئيس الوزراء ثم رئيس المجلس الاستشاري ثم رئيس جهاز الدعاية والانضباط ومكافحة الفساد ثم نائب رئيس الجمهورية ثم رئيس لجنة الشؤون السياسية والقانونية للحزب.
ويعقد المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني مرة كل خمسة أعوام وهو الجهة المعنية بتحديد السياسات التي تسير عليها الحكومة بمختلف هيئاتها وأجهزتها التنفيذية وحتى التشريعية والقضائية، فيما يجتمع المكتب السياسي للحزب -وعدد أعضاءه 21 عضواً- مرة في الشهر. كما تعقد اللجنة المركزية للحزب -وعدد أعضائها 376 عضواً- اجتماعاً موسعاً مرة واحدة أو أكثر كل عام لمتابعة عمل الدوائر المعنية أو لاتخاذ قرارات جديدة وفق التطورات والمستجدات. وبالنسبة للسياسة التكتيكية اليومية سواء الخاصة بالوضع الداخلي أو بالتطورات على الساحة الدولية وعلاقات الصين الخارجية فإنها موكلة إلى الجهات التنفيذية المعنية كل بما يخصه . (14)

القوى “التقليدية” الرئيسة “صانعة القرار”
من أهم ما ميّز الصين أنها كانت دائماً دولة منفردة وذات خصوصية يصعب عليها أن تهضم أية ثقافات واردة عليها إلا بعد “تصيينها” وطبعها بثقافتها. وكان القرار دائماً بيد فرد (الإمبراطور) أو مجموعة صغيرة من الأفراد، يُتخذ خلف أبواب موصدة ومن وراء أسوار عالية (المدينة المحرمة). وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 حافظت الصين على هذا “الموروث الثقافي” في صناعة واتخاذ القرار.

1ـ دور الفرد (الزعيم)
كانت “السلطة تنبع من فوهة البندقية” وفق التعبير المشهور لزعيم الصين ومؤسسها ماو تسي تونغ، لكن ذلك كان في مرحلة الثورة أما بعد بناء الدولة فقد عاد وأقرّ بأن “الحزب هو من يقود الجيش ولا يمكن للجيش أن يقود الحزب”، ومنذ ذلك الحين لا يزال الحزب الشيوعي الصيني هو الحاكم الفعلي الوحيد في البلاد بهيمنته على الحكومة والجيش والمجتمع معاً وعلى كل مفاصل الحياة في الدولة. وظلت عملية صناعة واتخاذ القرار مرتبطة بشخصية الزعيم الفرد صاحب القول الفصل في كل صغيرة وكبيرة طوال حكم الزعيم الراحل ماو تسي تونغ، ولم يكن لمعارضة أو فرد نقض قرارات الزعيم في أي موقع كان حتى ولو كان في أعلى الهيئات القيادية للحزب بما فيها الدائرة الضيقة المعنية بطبخ القرار وصناعته، وكان أقصى ما يمكن أن يفعله رافض القرار أو غير الموافق عليه هو الاكتفاء بالصمت. كما حدث عندما اتخذ “ماو” قراره بالانخراط في الحرب الكورية ضد الولايات المتحدة عام 1950 بموافقة أقلية بسيطة من أعضاء المكتب السياسي واكتفاء الآخرين بالصمت.
وبرحيل “ماو” عام 1976 وبعد أن مرت الصين بفترة عصيبة من الاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وبسلسلة من الانتكاسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية -كان أبرزها السنوات العشر لما عُرف باسم “الثورة البروليتارية الثقافية العظمى (1965-1975)، وحكم ما عُرف باسم “عصابة الأربعة” بقيادة جيانغ تشينغ زوجة ماو، وكذلك “القفزة الكبرى إلى الأمام”- طرأت تطورات هامة وجذرية على هيكلية الحزب؛ فقد تبنى المؤتمر العام الثاني عشر عام 1978 ما عُرف بسياسة الإصلاح والانفتاح ورفع شعار “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”. لكن ذلك لم يؤثر على طبيعة اتخاذ القرار التي ظلت تتسم بالفردية وتخضع لقبضة رجل الصين القوي في ذلك الحين “دينغ شياو بينغ” الذي أُعيد له الاعتبار بعد أن كان قد جُرّد من كافة مناصبه القيادية الحزبية والحكومية ثلاث مرات نتيجة بوحه بنظريته المعروفة “لون القط لا يهم، سواء أكان أبيض أم أسود، القط الجيد هو القادر على الإمساك بالفأر”. ولعل قراره الفردي الكبير بتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة عام 1978 بالرغم من الجدل القائم آنذاك في أوساط قادة الحزب والجيش خير مثال على ذلك.
وهنا لا بد من التذكير بأن النفوذ الواسع الذي كان يتمتع به “دينغ شياو بينغ” لم يتأتّ له من منصبه الحكومي فقد كان أعلى منصب قيادي شغله هو نائب رئيس الوزراء، لكن نفوذه الحقيقي استمده من كاريزمته الشخصية ومن تاريخه النضالي ومن ترؤسه للجنة العسكرية المركزية -صاحبة النفوذ القوي حتى الآن- وهذا ما يفسر استمراره في التمسك برئاستها لعدة سنوات بعد انسحابه من المشهد السياسي.
لم ينسحب “دينغ شياو بينغ” من المشهد القيادي في البلاد عام 1993 إلا بعد أن حدد اتجاه الحزب والدولة لعدة سنوات قادمة؛ فعلى صعيد القضايا الدولية مثلاً لخص السلوك الصيني بثمان وعشرين كلمة صينية فقط لا تزال حتى الآن تعتبر الأساس والفكر الهادي لأي تحرك أو سلوك صيني تجاه القضايا الدولية، وهي: “الترقب الهاديء، التمترس بثبات، المعالجة المتزنة، التربص للفرص، البراعة في البلادة والاختباء، تجنب القيادة أو التحالفات، وإنجاز ما يمكن إنجازه وترحيل الخلافات” . (15)

2ـ قيادة جماعية “اللجنة الدائمة للمكتب السياسي”
على الرغم من أن “جيانغ زيمين” عاد ليمسك بزمام قيادة أعلى ثلاثة مناصب قيادية لأول مرة منذ رحيل ماو تسي تونغ؛ وهي رئاسة الحزب والدولة واللجنة العسكرية المركزية إلا أن عملية صناعة القرار شهدت تحولاً واضحاً بانتقالها من قبضة الفرد إلى يد قيادة جماعية ممثلة بأعضاء اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب وعددها 9 أعضاء (تم تقليصها إلى سبعة أعضاء خلال المؤتمر العام الثامن عشر في تشرين الثاني 2012). ولكن ظلت عملية صناعة القرار تتسم بالمركزية والذكورية حيث لم تستطع أية امرأة دخول الحلقة الضيقة للجنة الدائمة للمكتب السياسي منذ تأسيسها.
بعد عقود على تبني نظرية “القيادة الجماعية” عادت حالة من الجدل لتطل من جديد في المجتمع الصيني وطالبت بعض النخب الاجتماعية والأكاديمية في البلاد بضرورة توفر قيادة كاريزمية صينية تنتزع لنفسها صلاحيات أوسع، ولكن ليس على غرار القيادات الصينية السابقة بل على غرار فلاديمير بوتين في روسيا ورجب طيب أردوغان في تركيا. إلا أنه عندما توفرت صفات الكاريزما القيادية والنفوذ والطموح والالتفاف الجماهيري في شخصية عضو المكتب السياسي السابق بو شي لاي أُطيح به في فضيحة فساد وحُكم عليه بالمؤبد؛ ما يشير إلى أن الظروف لم تنضج بعد أو أن المزاج القيادي الصيني لا يزال غير راغب في تطبيق مثل هذه التجارب ولا يزال يفضل خيار “القيادة الجماعية”.
جاء المؤتمر العام الخامس عشر للحزب عام 1997 ليقر سلسلة تغييرات جذرية جديدة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي تمثلت بتنازل جزئي عن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج إلى ملكية المجتمع لتلك الوسائل، وتخلي الدولة عن نظام التأمين الاجتماعي وفتح المجال أمام الملكية الخاصة للمواطنين. بالإضافة إلى تغيير سياسي ينفتح فيه الحزب على الأحزاب الحاكمة في الدول الأخرى بغض النظر عن عقيدتها بعد أن كان ذلك مقتصراً على التعامل مع الأحزاب الشيوعية فقط. وترك ذلك أثراً على طبيعة عملية صناعة القرار داخل الحزب نفسه لكن دون أن يؤثر على مركزية دور الحزب في اتخاذ القرار. فمهما اتسعت دائرة الجهات المؤثرة أو المشاركة في طبخ وصياغة القرار فإن الكلمة الفصل في النهاية وإن كانت قد خرجت من قبضة الفرد إلى يد قيادة جماعية إلا أنها لا تزال بيد الحزب وبالتحديد بيد هيئته القيادية العليا المكونة من سبعة أشخاص . (16)

3ـ دور الرئيس
لا بد أن رأس الدولة في الصين يستشعر ويعاني من محدودية صلاحياته؛ حيث سعى الرئيس السابق خوجين تاو على سبيل المثال ونجح عام 2004 بإجراء تعديل على المادة 81 في الدستور لتتضمن جملة “رئيس الجمهورية يدير شؤون البلاد” إضافة إلى النص السابق للمادة التي تقول: “رئيس الجمهورية يستقبل ضيوف الدولة”؛ ما يكشف بوضوح شعور الرئيس بأن سلطاته محدودة ومقيدة في ظل احتفاظ سلفه جيانغ زيمين برئاسة اللجنة المركزية العسكرية والتدخل من خلالها في صلاحيات الرئيس بإدارة شؤون البلاد. وهذا ما يفسر أيضاً نجاح الرئيس الحالي شي جينبينغ في عدم تكرار خطأ سلفه بإصراره على استلام مناصبه الثلاثة دفعة واحدة: “رئاسة الحزب والجمهورية واللجنة العسكرية” دون السماح لخوجين تاو بالاحتفاظ بأي منها.
وسعى الرئيس الأسبق جيانغ زيمين كما سعى خلفه لاحقاً خوجين تاو إلى توسيع رقعة نفوذهما في صناعة القرار عبر اقتراح تشكيل “مجلس الأمن القومي” يرأسه الرئيس لكن جهود كليهما باءت بالفشل، ويكمن السبب وراء ذلك، في خشية مراكز القوى من جمع كل القرارات في قبضة رجل واحد . (17)
4ـ دور الوزارات والأمن والدفاع
هناك وزارات جديدة أصبحت من اللاعبين الجدد على حلبة صناعة القرار لاسيما وزارة الأمن التي تعاظم دورها منذ الاستعداد لاستضافة دورة بكين للألعاب الأولمبية عام 2008؛ حيث برزت الهواجس الأمنية لضمان نجاحها فتم اللجوء إلى قوى الأمن للاضطلاع بهذه المهمة، كما عزز من شأن هذه الوزارة اندلاع أحداث العنف في إقليمي التبت وشينجيانغ (تركستان الشرقية) وصولاً إلى الربيع العربي وخشية القيادة الصينية من انتقال عدواه إلى شوارع وميادين المدن الصينية. كل تلك الأحداث أدّت إلى اعتماد الحكومة والحزب على دور قوى الأمن للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي؛ الأمر الذي أدى إلى تضخم هذه الأجهزة وزيادة نفوذها وحصولها على امتيازات ومصالح ورفع ميزانياتها المالية لتتجاوز بكثير ميزانيات الجيش. وبات من الطبيعي لأجهزة الأمن أن تسعى للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها المكتسبة بالدفع نحو دخول الحلقة الضيقة لصناعة القرار . (18)

5 ـ القوى “المستجدة” المؤثرة في صناعة القرار
استُعيض عن “مجلس الأمن القومي” بما يُسمى “لجان العمل القيادية المصغرة” التي يختلف أعضاؤها وتختلف رئاستها بتنوع مهامها، وباتت تلعب دوراً مهماً في عملية صناعة وصياغة القرار. ومن هذه اللجان القيادية المصغرة نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
• المجموعة القيادية المصغرة للشؤون الخارجية: وكان يرأسها سابقاً رأس الدولة، وتراجع دورها لاحقاً وأصبح ثانوياً، وأُنيطت رئاستها برئيس الوزراء.
• المجموعة القيادية المصغرة لشؤون الأمن القومي: برزت الحاجة إليها في ظل الفشل بتأسيس مجلس الأمن القومي، وبعد أزمة الصواريخ مع تايوان عام 1996، وقصف الناتو للسفارة الصينية في بلغراد عام 1999. والجدير بالذكر أن أسماء أعضاء هذه المجموعة غير معلن.
• المجموعة القيادية المصغرة لإدارة الأزمات المفاجئة: شُكّلت أعقاب حادث تصادم الطائرتين الصينية والأميركية في بحر الصين الجنوبي عام 2001.
وهناك أيضاً المجموعة القيادية المصغّرة لشؤون تايوان، بالإضافة إلى عدة مجموعات قيادية ومجالس أخرى فرضتها الظروف الموضوعية والتطورات مثل اللجنة القيادية المصغرة للمال والاقتصاد، واللجنة القيادية المصغرة للطاقة، واللجنة القيادية المصغرة للبيئة والتغيرات المناخية، والمجلس الوطني الأعلى للتنمية… وغيرها . (19)

ثالثاً: السياسة الصينية الخارجية
يرى باحثون أمريكيون أنّ هناك دلائل على أن الصين كانت حريصة منذ فترة على تنمية علاقتها الإقليمية والدولية وأن لديها خطة إستراتيجية طويلة الأمد لتلعب دوراً مركزياً في عالم العولمة. كان الدافع وراء تلك الخطة سعي بكين إلى خلق بيئة إقليمية ودولية تسهل لها تفعيل ونمو قدراتها الاقتصادية من جهة والحفاظ عل سيادة واستقلال وضعها السياسي من جهة أخرى. كما كان حرص الصين على البحث عن الموارد الطبيعة خاصة مصادر الطاقة لتلبية احتياجات القطاع الصناعي دافعاً مهماً أيضاً في تشكيل تحالفات الصين ورسم سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة وهذا ما يفسر مواقف الصين من دول مثل السودان وإيران وبورما ودول أخرى لا تحظى بقبولٍ في العالم الغربي.
ويتنبأ باحثون أمريكيون بإطار جديد لمستقبل العلاقات الأمريكية الصينية، فالصين كما يرونها تزداد يوماً بعد يوم تعقيداً وتناقضاً، والصورة التاريخية النمطية عن الأمة الصينية ذات الثقافة والتكوين السياسي الواحد باتت من الماضي. ويؤكدون أنّ العلاقة بين البلدين متشابكة بدرجة تجعل من العداء بينهما أمراً مستبعداً، وإن كان ذلك لا يعني وجود اختلافات حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية . (20)

وبعد أن نجحت الصين في تجاوز المقولات الأيديولوجية المتشددة، وتبنت مقولات الانفتاح السياسي والاقتصادي، والإصلاح الإداري، ومحاربة الفساد والإفساد، واحترام الثقافات المختلفة، ومبادئ المساواة وتكافؤ الفرص، والتواصل مع الآخر، وتبادل الخبرات، وغيرها.. بات نموذج التنمية الصينية في متناول الباحثين، بعد أن أظهر صدقية عالية في حل مشكلات الصين الداخلية والحفاظ على نسب نمو عالية، وبناء مجتمع المعرفة، ونشر العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة، لمواجهة تحديات العولمة.

توصيف مكثّف لاستراتيجية الصين الخارجية، ومن أبرز نقاطها:
أولاً: إنّ صعود الصين في المرحلة الراهنة قام على تعظيم الإنتاج الاقتصادي، دون السعي إلى نشر الإيديولوجيا السياسية الصينية أو استعمار شعوب أخرى. ويلعب الحزب الشيوعي الذي يزيد تعداده على ثمانين مليون عضو، الدور المركزي في حماية وحدة الصين الجغرافية والقومية، وهو نموذج يصعب تصوره خارج إطار دولة قوية مترامية الأطراف، تبلغ مساحتها تسعة ملايين وستمائة مليون كيلومتر مربع، ولديها كثافة سكانية باتت تقارب المليار وثلاثمائة وخمسين مليون صيني، موزعين على ست وخمسين قومية.

ثانياً: أعلنت الصين مراراً رفضها للحلول العسكرية في زمن العولمة وتداخل المصالح بين الدول على المستوى الكوني، وطمأنت العالم إلى أنها لن تستخدم النمو الاقتصادي لتحقيق أهداف عسكرية توسعيّة والسيطرة على الدول الأخرى، بل لتعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية مع جميع الدول والشعوب، بهدف تحقيق المنفعة المتبادلة للجانبين. ونجحت فعلاً في فتح آفاق جديدة مع جميع دول العالم، لضمان نموها الاقتصادي في الداخل وبالتعاون مع جميع دول العالم.

ثالثاً: تكرر الصين في وثائقها الرسمية مفاهيم الحل السلمي، والسلام العالمي، والاستقرار الداخلي، والعيش المشترك، والمنفعة المتبادلة، والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة. وتخلت عن استعمال المصطلحات الغربية التي تشير إلى الهيمنة، والتسلط، والاستعمار الجديد، والإمبريالية، وغيرها. وبشرت بمرحلة جديدة في تاريخ الصين والعالم، تنبني على تحقيق الانسجام بين مكونات الشعب الصيني الداخلية، وضمان المصلحة المشتركة للشعب الصيني مع مصالح الشعوب الأخرى، ورفض كل أشكال الاستغلال والتبعية والاستيلاب.
وترفض الحلول العسكرية، وسباق التسلح، وتوازن الرعب بين قوى عسكرية متناحرة تهدد السلام العالمي. وتشدد على بناء الثقة بين قوى دولية مختلفة، لتتعايش معا بسلام في عالم متعدد الأقطاب يسعى لإقامة عولمة أكثر إنسانية.

رابعاً: تدعو الصين إلى بذل جهود دولية مشتركة لمواجهة تحديات العولمة التي تعيش اليوم أزمات عالمية في مجالات عدة، منها قضايا البيئة، والتنمية، والتصحر، والاحتباس الحراري، ونقص الغذاء، ومواجهة كوارث الطبيعة، والخلل الحاد على مستوى توزيع الدخل، والفقر، والإرهاب، والأمراض المستعصية والسريعة الانتقال، والتوترات الأمنية في مناطق عدة من العالم خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
وتطالب بتضافر الجهود العالمية المشتركة لمواجهة تلك التحديات، وفق برامج علمية مدروسة تعدها الأمم المتحدة، وتستخدم فيها التكنولوجيا الحديثة والمتطورة جداً، لحل تلك المشكلات ومنع تحولها إلى أزمات مزمنة تصعب مواجهتها محلياً، خاصة مشكلات الإرهاب الدولي، والتمييز العنصري، والتطهير العرقي، والنزاعات الطائفية الدموية التي اتخذت منحى خطيراً يهدد بإبادة أقليات بأكملها، في ظروف العجز الدولي عن مواجهة الإرهاب والتعصب الديني.

خامسا: ما زالت الصين تصنف نفسها دولة نامية كبيرة، تمتلك قدرات اقتصادية وعسكرية تؤهلها للعب دور مركزي في النظام العالمي الجديد، لكنها ترفض استخدام قواها الذاتية لفرض هيمنتها على الدول الأخرى، أو للسيطرة على قرارات المنظمات الدولية على غرار ما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية. وتطالب الصين بدعم وتطوير منظمة الأمم المتحدة وباقي المنظمات الدولية، لكي تحافظ على استقلاليتها وحيادها التام، بحيث لا تفقد مصداقيتها حين تكيل بمكيالين في ظل هيمنة قطب أوحد. وتعلق آمالاً كبيرة على تطوير المنظمات الدولية وإعطائها الصلاحيات التامة لحل المشكلات الدولية بالطرق السلمية، ورفض الحلول العسكرية التي تهدد السلام العالمي (21).

نصّ رسمي صيني قدّم سياسة الصين الخارجية بشكل مفصّل كالتالي:
تنتهج الصين بدأب وثبات سياسة خارجية سلمية مستقلة، والهدف الاساسي لهذه السياسة هو حماية استقلال الصين و سيادتها وسلامة آراضيها. وفيما يلي اهم ملامح هذه السياسة:
أ- ظلت الصين تنتهج مبدأ الاستقلال والتمسك بزمام المبادرة. وتحدد موقفها وسياستها في جميع الشؤون الدولية انطلاقاً من المصالح الاساسية للشعب الصيني وشعوب العالم والتمييز بين الصواب والخطأ، ولا تخضع لأي ضغوط خارجية. ان الصين لا تتحالف مع اية دولة عظمى او أي كتلة دول، ولا تسعى لإقامة حلف عسكري، ولا تشترك في سباق التسلح ولا تمارس التوسع العسكري.
ب- تثابر الصين على معارضة الهيمنة وصيانة السلام العالمي، وترى أنّ أيّ دولة سواء كانت كبيرة أم صغيرة، قوية أم ضعيفة، غنية أم فقيرة، تعتبر عضواً من أعضاء المجتمع الدولي على قدر المساواة، ويجب ان تحل جميع النزاعات والخلافات الناشئة بين البلدان بطريقة سلمية عبر التشاو وليس باللجوء الى القوة أو التهديد باستخدام القوة، ولا يسمح بالتدخل في الشؤون الداخلية للغير بأي حجّة، ولن تفرض الصين نظامها الاجتماعي وايديولوجيتها السياسية على الآخرين، وفي نفس الوقت لن تسمح لأيّ دولة بان تفرض نظامها الاجتماعي وايديولوجيتها السياسية عليها. تعمل الصين بنشاط من أجل بناء نظام دولي اقتصادي وسياسي جديد عادل ومعقول، وترى الصين أنّ النظام الجديد يجب عليه ان يجسد مطالب تطور التاريخ وتقدم العصر وأن يعكس رغبات شعوب مختلف دول العالم ومصالحها المشتركة. ويجب أن تكون المبادئ الخمسة للتعايش السلمي والمبادئ الأخرى المعترف بها للعلاقات الدولية أساساً لبناء النظام الدولي السياسي والاقتصادي الجديد.
ج- ترغب الصين في إقامة وتطوير علاقات الصداقة والتعاون مع جميع البلدان على أساس المبادئ الخمسة المتمثلة في الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة الاراضي وعدم الاعتداء على الغير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير والمساواة والتعايش السلمي (…).
إنّ الصين بصفتها دولة دائمة العضوية في مجلس الامن الدولي، تشترك بنشاط في إيجاد حلول سياسية لقضايا إقليمية ساخنة. وقد أوفدت الصين عسكريّيها للاشتراك في بعثات حفظ السلام الدولية التي تشرف عليها الامم المتحدة، وتؤيد الصين إصلاح الامم المتحدة وتدعمها مع غيرها من الهيئات المتعددة الاطراف لمواصلة لعب دورها الهام في معالجة الشؤون الدولية، وتعارض الصين بحزم جميع النشاطات الارهابية بمختلف أشكالها وتساهم مساهمة هامّة في النضال الدولي لمكافحة الارهاب. تعمل الصين بجهد لدفع السيطرة على التسلح الدولي ونزع السلاح وحظر الانتشار. وحتّى الآن، قد انضمت الصين الى جميع المعاهدات الدولية بشأن السيطرة على التسلح الدولي وحظر الانتشار. وفي مجال حظر الانتشار، ظلّت الصين تلتزم وتنفذ بصورة صارمة تعهداتها الدولية وتبذل جهداً في بناء بنية قانونية لإدارة حظر الانتشار فيها، وقد أقامت نظاماً متكاملاً أسآسيا للتحكم في حظر الانتشار. ظلت حكومة الصين تهتم اهتماماً بالغاً بحقوق الانسان وبذلت جهوداً متواصلة في هذا المجال وقد اشتركت الصين في ثماني عشرة معاهدة حول حقوق الانسان بما فيها (المعاهدة الدولية حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، كما وقّعت على المعاهدة الدولية حول الحقوق المدنية والسياسية. إنّ الصين ترغب في تعزيز التعاون مع المجتمع الدولي للعمل معاً لمعالجة القضايا العالمية التي تواجه التنمية البشرية كتفاقم وتدهور البيئة الحيوية ونقص الموارد الطبيعية والفقر والبطالة وتضخم عدد السكان وانتشار الامراض والمخدرات وانتشار النشاطات الاجرامية الدولية وغيرها . (22)
من ينفذ السياسة الخارجية للصين
إنّ السياسة الخارجية لأي بلد تعمل على تنفيذها الأجهزة التي تناط بها عملية الإتصال الخارجي وصوغ علاقات الدولة بمحيطها الإقليمي والدولي، وعادة ما يكون رئيس الدولة هو الممثل الأعلى لبلده اتجاه الخارج، ويليه وزير الخارجية والسفراء ومبعوثي البلد، وبالنظر إلى الصين سوف نجد أنّ تعزيز سلطة رأس الدولة يعتبر خطوة ضرورية للقوى الكبرى التي تطمح بأن يكون لها نفوذ على الصعيد الدولي؛ وفي هذا الإطار فإن سلطة رأس الدولة في الصين لا تزال بعيدة جداً عن مقارنتها بنظيراتها من رؤساء القوى الكبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وبريطانيا.
من جهة أخرى، لعبت وزارة التجارة الصينية دوراً أكبر في عملية صناعة القرار على صعيد السياسة الخارجية بشكل تجاوز بكثير دور وزارة الخارجية، وبالتحديد منذ عام 1993 بعدما أصبحت سياسة الصين الخارجية في كثير من الأحيان اقتصادية بحتة؛ فوزارة التجارة هي التي تولت مهمة التفاوض لانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية وهي التي ترسم سياسة الصين الخارجية تجاه بعض المناطق التي توليها الصين أهمية في مجال تقديم المساعدات أو الاستثمارات مثل أفريقيا.
ويحظى الجيش أيضاً بنفوذ قوي خارجياً؛ حيث نجح في إقامة شبكة علاقات خارجية واسعة مع جيوش دول أخرى سواء من خلال مبيعات وصفقات السلاح التي يجريها أو من خلال انخراط الصين السريع والمتزايد في قوات حفظ السلام الدولية، وكذلك من خلال المشاركة بالمناورات العسكرية المشتركة التي يجريها مع جيوش دول أخرى . (23)

الجيش الصيني له علاقات نديّة
وبنى الجيش الصيني علاقات نديّة مع الولايات المتحدة، كما أنّ الإدارة الأمريكية تنظر لعلاقاتها العسكرية مع الصين من منظور التكافؤ والإحترام.
ففي لقاء جمع نائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية الصينية شيوي تساي هو مع نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي توم دونيلون، قال شيوي إنّ:” الصين تولي أهمية كبيرة للعلاقات العسكرية بين الصين والولايات المتحدة وتأمل في الحفاظ على الحوار والتبادلات مع الولايات المتحدة لتحسين التفاهم المتبادل وتعميق الثقة”. وأضاف أنّ الخبرة على مدار الثلاثة عقود الماضية أظهرت أنّ قيام البلدين باحترام المصالح الرئيسية لبعضهما البعض وتعزيز الثقة المتبادلة وتعزيز المصالح المشتركة والتعامل مع النزاعات بشكل ملائم هو مفتاح التنمية الصحية والمستقرة للعلاقات العسكرية بين الصين والولايات المتحدة.
وقال دونيلون إن الولايات المتحدة والصين:” بحاجة لمزيد من الحوار لتحسين الثقة المتبادلة وأنّ البلدين لا بد أن يقوما بحل النزاعات والمشكلات في سياق تعزيز العلاقات الايجابية والتعاونية والشاملة بين الولايات المتحدة والصين” . (24)

ـ الأداء الصيني الخارجي
بعيداً، عن النظريات والمفاهيم التي تستند إليها الدبلوماسية الصينية في سياستها الخارجية ومدى مطابقتها لقواعد العيش بسلام، سوف نستعرض بعضاً من الأداء الصيني الخارجي اتجاه القضايا الدولية، ونرى بهذا السلوك التنافس على الأسواق والتغلغل التجاري والإقتصادي والترويج بالحرب الناعمة والمغريات التي تقدم دون شروط، وكل ذلك دون تقديم العامل الأيديولوجي الشيوعي …

المنطقة العربية
لعل الاهتمام الصيني بالمنطقة العربية يخضع لاعتبارات عديدة غير ان الصين تعي أن التشرذم الحاصل فيها، يحد من أن ترقى علاقاتها مع دول العالم العربي إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية المصيرية التي تطمح إليه كما تحاول من خلال منظمة دول الآسيان (Asean) ومنظمة شنغهاي. وهي ترغب في التعامل مع الدول العربية كوحدة إقليمية في زمن التجمعات الإقليمية الكبرى، أو حتى كقطب له سياسة خارجية يجمعها حد أدنى.
إنّ الأسباب التي تحكمت في الحضور الصيني في الشرق الأوسط سابقاً لم تكن توجهها في الخمسينيات اهتمامات اقتصادية كما هو الحال اليوم، بل كانت ايديولوجية محضة، وظلت تعاني من العزلة المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي على حد سواء. فلا الدول العربية القريبة من الولايات المتحدة تريد إقامة علاقات معها ولا الدول القريبة من الاتحاد السوفياتي أو التنظيمات الشيوعية العربية تريد ذلك، ولاسيما أن الصين كانت لا تزال تنوء تحت تخلف اقتصادي وتعاني من تراجع معدل نموها بشكل خطير بسبب تداعيات حالة الفوضى السياسية والاقتصادية التي خلفتها الثورة الثقافية.
ومن الطريف أن نذكر أن الدولة العبرية كانت أول بلد في منطقة الشرق الأوسط يعترف بالجمهورية الصينية الشعبية في كانون الثاني/يناير 1950، بحيث استمرت الجامعة العربية على النقيض من ذلك في إقامة علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان، غير أن اندلاع الحرب الكورية وانحياز «إسرائيل» إلى السياسة الأميركية، شكل حاجزاً قوياً في وجه التقارب الصيني الصهيوني طيلة أربعين سنة.
ومهما يكن من أمر هذه العلاقات الدبلوماسية بالمنطقة العربية وبالرغم من مقعدها الدائم في مجلس الأمن، لم تستطع الصين ضمان موقع قدم بالغ التأثير جيوسيآسيا أو استراتيجياً في العالم، بل لم تكن قادرة أن تؤثر على توازنات المنطقة العربية لا السياسية منها ولا الاستراتيجية، لأن فعلها الدبلوماسي والسياسي كان محدود الأثر والفعالية بفعل ضعف قدراتها الاقتصادية والمالية بالقياس إلى قدرات الولايات المتحدة الأميركية من جهة وخفوت وضعف دورها الايديولوجي بالمقارنة مع نفوذ وإمكانات الاتحاد السوفياتي من جهة اخرى.

ما يبرر وجود هذه السياسة الصينية الحذرة، في الساحة الإقليمية رغبتها في أن تستفيد اقتصادياً وليس العكس. فالعلاقات الصينية الاقتصادية لا تخدم هدفاً سيآسيا بعينه أكثر من أنها تسعى وراء ما يسند نموها وتقدمها ويحقق الرخاء لها. إذ وعت بكين أن التأثير الايديولوجي والرمزي والثقافي يظل ضعيفاً إذا كان مجرداً من القوة الاقتصادية والتكنولوجية. لذلك تبحث اليوم بكل ما أوتيت لتقوية نهوضها الاقتصادي. لكن من دون أن تتطلع في الأمد القصير أن تلعب دور أي وسيط سياسي في حل مشاكل الشرق الأوسط. فهي في الوقت الحاضر مكتفية بمساندة الجهود للحفاظ على استقرار المنطقة، ولو أنها لوحت أكثر من مرة برفضها الهيمنة الأميركية على الفضاء العربي. عملياً، تنادي الصين بالنسبة للملفات المطروحة بحدة في المنطقة العربية بضرورة استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين و«إسرائيل» منعاً لاستفحال الوضع، كما أنها تربط هذه المفاوضات بضرورة احترام قرارات الأمم المتحدة، وخاصة مبدأ الأرض مقابل السلام. كما أنها تطالب الولايات المتحدة الأميركية بتبني مقاربة عادلة وغير منحازة للصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» والعدول عن الدعم غير المحدود والمطلق للدولة العبرية. أما على مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع «إسرائيل» فهي تخضع بدورها للتطورات ولما يحدث في العلاقات «الإسرائيلية» – العربية. علاوة على وجود كثير من الاعتبارات التجارية والتكنولوجية في الميزان. في حين تحاول من خلال دعمها للتطورات الفلسطينية الحفاظ على سمعتها داخل العالم العربي، فقد تبنت إعلان برلين 25 آذار/مارس 1999، الذي يعترف بحق تقرير مصير الشعب الفلسطيني، وقامت بمساندة خارطة الطريق التي كانت من اقتراح الرباعي – الاتحاد الأوروبي، روسيا، الأمم المتحدة، الولايات المتحدة الأميركية – غير أنها لم ترد المشاركة فيه.
ومهما يكن من ألغاز سياسة الصين الخارجية، يبقى أن الخطاب السياسي الذي تقدمه بكين عن قضايا المنطقة يمنحها فرصة للضغط على الولايات المتحدة الأميركية وانتقاد تصرفاتها في الشرق الأوسط. وقد بادرت الصين لأول مرة إلى تطوير شكل هذا التعاون من ميدان العلاقات الثنائية إلى تعاون على مستوى المؤسسات الدولية، من ذلك ما حدث من تعاون وثيق بين الصين وكل دول الشرق الأوسط على مستوى لجنة الأمم المتحدة المكلفة بحقوق الإنسان. لكن هذا التقارب لا يمكن فهمه إطلاقاً أنه يخضع لتقاسم مشترك للقيم، بقدر ما اقتضته مصلحة دولية ظرفية شابتها محاولة استغلال أميركي وأوروبي لوضع حقوق الإنسان في كل من الصين واغلب البلدان العربية. غير أنّ هناك العديد من القضايا والرؤى المشتركة التي من شأنها أن تشكل منطلق تعاون حقيقي بين الصين والدول العربية. أهمها ما يتعلق بمساندة الصين للفلسطينيين وسوريا ولبنان لاسترجاع أراضيهم المحتلة، طالما استمرت الدول العربية، على وجه الخصوص، في مواصلة دعمها للصين في مطالبتها بإرجاع تايوان إلى حظيرة الوطن الأم. كما أنّ هناك فرصة كبيرة للاستفادة من التجربة الصينية في التنمية والتقدم التكنولوجي إذا أخذ العالم العربي على عاتقه عدم الدخول في أية لعبة استراتيجية ضد الأمن القومي الصيني وحاول تأمين ما تحتاجه الصين من طاقة نظير استفادته من تطورها التقني والعلمي . (25)

تأثيرات الربيع العربي على سيآسيات الصين الخارجية
ويرى باحثون آخرون أنّ الصين تبنّت مؤخراً عدداً من السياسات التي أثارت استياء معظم أنحاء المنطقة ودفعت ثمن ذلك في مستوى شعبيتها:
“لقد ضخّت البلاد المليارات من الدولارات في ليبيا عبر عقود البترول في عهد القذافي، ورفضت مساندة الحملة للإطاحة به. وبالتالي نأت عنها الحكومة الانتقالية فيما بعد القذافي ومعظم الشعب الليبي.
وأصبحت الأغلبية السنيّة المأزومة في سوريا تشعر بالكراهية تجاه الصين؛ نظراً لأنها تقف إلى جانب نظام بشار الأسد وسط الحرب الأهلية الدموية المستمرة.
وفي مصر، يلقي بعضٌ من نخبة القطاع الخاص باللوم على شركائهم الصينيين في إعادة جانب كبير من الأرباح من المشروعات التي تقام على أراضيهم إلى الصين، وأنّ القدر المتبقي للاقتصاد المحلي لا يمثل مكاسب عادلة، وذلك وفقاً لما يقوله جون الترمان مدير برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن. وفي سبتمبر تعرضت الصين لأول هجمة إرهابية ضد واحدة من سفاراتها في الشرق الأوسط عندما جرى إلقاء قذيفة هاون على سفارتها في دمشق انتقاماً من دعم بكين للأسد” . (26)

ومهما يكن من أمر ، فإنّ الصين تنظر على المدى الطويل في علاقاتها مع المنطقة العربية، وقد بادر الوزير الصيني الجديد للخارجية وانغ يي منذ أشهر إلى زيارة الجزائر وتحدث في مؤتمر صحفي عقده مع نظيره الجزائري رمضان العمامرة، ولخّص سياسة الدبلوماسية الصينية بالتأكيد أنّ بلاده تسعى إلى تعزيز العلاقات من منظور استراتيجي وطويل المدى. ولخّص هذه السياسة التي تأتي بعد الثورات العربية بأربع “تأييدات”: أولاً، تأييد الدول العربية بثبات في سلوك الطريق الذي اختارته بنفسها؛ ثانياً، تأييد الدول العربية في حل القضايا الساخنة بالوسائل السياسية؛ ثالثاً، تأييد الدول العربية في التعاون وتحقيق التنمية المشتركة مع الصين؛ رابعاً، تأييد الدول العربية في حماية حقوقها ومصالحها الشرعية.
وأضاف وانغ يي أن الصين ترغب في تعزيز التعاون العملي مع البلدان العربية في شتى المجالات، بما يعود على الشعوب العربية بمزيد من المنافع التي ستثمر عن إنجازات هذا التعاون؛ وتعارض أي عمل يضر بكرامة الأمة العربية بحجة حماية حقوق الإنسان أو مكافحة الإرهاب؛ وترغب في تعزيز التنسيق والتعاون مع الجانب العربي بشأن القضايا الهامة، للحفاظ بشكل أفضل على مصالح الجانبين الصيني والعربي وسائر الدول النامية.
وأشار وانغ يي إلى أهمية التنمية والاستقرار والتضامن من أجل صيانة المصالح الأساسية وطويلة المدى للدول العربية، وأن الصين ستقف إلى جانب الدول العربية في عمليات تنميتها وضمان استقرارها وتضامنها .
وفي دراسة للباحث الصيني “لي وي تيان” تحليل للسياسة الخارجية لبكين تجاه الشرق الأوسط بعد الثورات ، والتي قدمها تيان في مؤتمر نظمه معهد شنغهاي خلال العام 2012، حول “التحولات السياسية والدبلوماسية في منطقة الشرق الأوسط”، يرى أنّ الدبلوماسية الصينية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط ستقوم في إطار التعاون مع جميع الفاعلين الجدد، بما يحقق المصالح المتبادلة بين مختلف الأطراف الفاعلة في المنطقة والصين، مع البحث عن آليات أخرى للتعاون مع البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية في المنطقة.
وستتخذ الصين، وفقاً لرؤية تيان، عدة آليات للدفاع عن مصالحها في منطقة الشرق الأوسط، بعد نجاح ثورات الربيع العربي، وهي كالآتي: أولاً، الأخذ بزمام المبادرة، فالصين أضحت في حاجة ملحة لاستكمال التحول من قوة إقليمية آسيوية إلى قوة عالمية، مما يستلزم القيام بتعديل السياسات وبناء توجه وخطاب صيني جديد، خاصة في التعامل مع بلدان المرحلة الانتقالية في منطقة الشرق الأوسط، بحيث يخرج من نطاق السلبية، التي كانت مبدأ صينياً ثابتاً لفترة طويلة في التعامل مع سياق الهيمنة الغربية(…).
ثانياً: القوة الصينية الناعمة، وهنا يأتي دور وسائل الإعلام والنواحي الثقافية وغيرها (…).
ثالثاً: التكيف مع التغيير وتحسين السياسات (…).
ورابعاً: انتهاز الفرصة لتوسيع مجال الاستثمارات (…).

التواجد الصيني في قارّة أفريقيا
من المدهش أنّ تتجاهل الصين أوضاع البلاد العربية وشمال أفريقيا التي ضربتها “عواصف الربيع الرملية”، وتطرح مبادرتين كبيرتين من شأنهما إثارة حفيظة الدول الغربية مخافة حلول الصين محلها كراعٍ بديل عن الدول الغربية التي رعت لعشرات السنين أنظمة الفساد والقمع…
فخلال زيارتيه إلى كل من كازاخستان وإندونسيا في أيلول وتشرين أول 2013، دعا الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ، كل على حدة، لتطوير “حزام اقتصادي على طول طريق الحرير” القديم، و”طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين.” وهما مبادرتين تمت كتابتهما في وثائق الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الثامنة عشرة للحزب الشيوعي الصيني، واجتماع دبلوماسية الجوار، ومؤتمر العمل الاقتصادي المركزي، كما حظيتا بترحيب حماسي في داخل الصين وخارجها.
وأشارت السفارة الصينية في مصر في منشور لها عن المبادرتين على موقعها الإلكتروني الرسمي أنّ “العمل معاً من أجل مبادرتي “الحزام” و”الطريق” يتفق مع حاجة الصين إلى التنمية والتعاون مع العالم الخارجي”، وأنّه خلال “التحول، نوجه أنظارنا إلى الاتجاه الغربي ونرى سوقا كبيرة في القارة الأوراسية. إنها منطقة شاسعة تتطلب منا جهوداً نشيطة لاستكشاف وتنمية المناطق الحدودية من أجل بناء ممر اقتصادي عبر البلاد. وفي نفس الوقت، ينبغي لمناطق شرقي الصين أن تبني على قوتها الحالية وأن تنفتح أكثر على الخارج، وأن توسع تنفيذ مناطق التجارة الحرة مستهدفة الدول المجاورة، وأن تعمق منظومة التعاون البحري مع الدول المعنية. إن “الحزام”و”الطريق”، من خلال تغطيتهما للعديد من المقاطعات والمناطق في وسط الصين ومناطقها الغربية ومناطقها الشرقية الساحلية، ولكونهما يتفقان مع استراتيجية التنمية الإقليمية للبلاد، واستراتيجية التحول الحضري الجديدة واستراتيجية الانفتاح، سوف تصبحان دافعاً كبيراً لتشكيل انفتاح متعدد الاتجاهات للصين”. وأنّ ذلك يمثّل نقطة بارزة لدبلوماسية الصين في المرحلة الجديدة، وبخاصة دبلوماسية الجوار التي تحتل المكانة الرئيسية في الدبلوماسية الشاملة للصين وباعتبارها أولوية دبلوماسية (27)

أمّا السفير الصيني في مصر، فكان أكثر وضوحاً وشرحاً لأهداف المبادرتين، ورأى في مقال له في جريدة الأهرام المصرية أنّ المنطقة العربية، وفي القلب منها مصر، “تمثل نقطة التقاء «الحزام» و«الطريق» في الاتجاه الغربي، وهي تربط القارتين الآسيوية والأفريقية ولا يفصلها عن أوروبا إلا البحر الأبيض المتوسط، ولها نفوذ واسع في الشرق الأوسط وأفريقيا، وتمتع بموقع جغرافي متميز في العالم العربي، كما أنها تعمل على تنمية مشروع قناة السويس، لذلك فإن مصر بوابة مهمة وجسر مهم لتعاون الصين مع الخارج. أما الصين فهي شريك تجاري يمكن أن تعتمد مصر عليه، فالصين لديها قدرات استثمارية قوية وتفوق تكنولوجي، فمن الممكن أن تتقاسم الصين مع مصر تجاربها الناجحة في الإصلاح والانفتاح والتنمية الاقتصادية” (28).

الدخول إلى أفريقيا
إنّ العلاقات الاقتصادية الحديثة العهد بين بكين وأفريقيا، كما التواجد الصيني المكّثف في أفريقيا، أمران يشكلان مصدر خوف بالنسبة للمصالح الغربية من جهة، وللسياسة الأفريقية -العالمية بشكل عام من جهة ثانية. بات الغرب يشعر بالخوف من الصين كقوة ناشئة في العالم، خاصة في أفريقيا، فلم يخف تخمينه بأنها “تخطط لاستعمار أفريقيا”.
إن قصة الوجود الصيني في أفريقيا، ليست فقط مجرد القصة القديمة إيّاها المتمثلة في نهب خيرات أفريقيا واستغلالها من قبل دولة أجنبية، تسمح به قّلة من السياسيين والنافذين الأفارقة الذين يحصلون بالمقابل على ما يؤمّن راحتهم ورفاهيتهم على حساب الشعب الأفريقي، بل إنها قصة يكتنفها التعقيد، لإنّ الصين قامت، إلى جانب الاهتمام الخاص بمصالح هؤلاء النافذين، بتقديم خدمات عامة، كبناء العديد من المستشفيات والمدارس ومّد العديد من شبكات المواصلات بين المدينة والريف، مما أنعش الحياة الأفريقية في المناطق النائية.
إنّ سرعة وتيرة التغير في العلاقات الصينية- الأفريقية أثارت جدلاً كبيراً في دوائر صنع القرار وبين صفوف الأكاديميين في أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة أخيراً. وتستند تحليلات كثيرة متوافرة حول دور بكين الجديد في القارة إلى ثلاثة آراء فكرية متناقضة يمكن تلخيصها في كون الصين «شريكاً في التنمية» أو «منافساً اقتصادياً» أو «بلداً مستعمراً». يعتبر التأويل الأول أنّ تَغَلْغُل الصين في أفريقيا جزء من التزام استراتيجي طويل المدى تجاه القارة، التزام تدفعه حاجتها الاقتصادية الخاصة؛ والتزام لنقل تجربتها التنموية إلى القارة ورغبة منها لبناء شراكات تعاونية فاعلة عبر العالم النامي. أما التأويل الثاني (الصين منافس اقتصادي) فيرى أنّ الصين معنية في عملية قصيرة المدى «بالاستحواذ على الثروات»، وأنها تشبه نظراءها الغربيين في كونها لا تهتم كثيراً للحاجات والهموم المحلية سواء أكانت تنموية، بيئية أو في ما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان. وباقترانها مع وسائل صينية ضرورية للتصنيع والتجارة، توحي هذه المقاربة بأن مكاسب التنمية الأفريقية تواجه تحدياً إن لم نقل تقويضاً بسبب قدرة الصين التنافسية.
ويؤكد التأويل الثالث (الصين بلد مستعمر) أنّ ارتباط الصين بأفريقيا جزء من استراتيجية طويلة المدى هدفها إزاحة توجهات القارة التقليدية نحو الغرب من خلال إحداث شراكات مع النخب الأفريقية تحت مسمى التضامن مع الجنوب. من هذه الناحية تسفر هذه العملية بالنهاية عن نوع من السيطرة السياسية على الأقاليم الأفريقية .

ولأن الصين وأفريقيا تشتركان في تاريخ من الاستغلال من جانب الإمبرياليين، وكونهما ضحية الحروب الأهلية الممولة من الخارج وتتعرضان للمشاريع الاشتراكية الكارثية باسم المثالية، فإن للمنطقتين تجارب قد تشكل أساساً قوياً للشراكة. وسواء سيكون دور الصين المعزز في أفريقيا بمثابة الحافز لقوة خارجية تسعى إلى تحقيق مصالح ذاتية ضيقة، فهذا أمر لم يتأكد بعد. وإذا كانت الصين قادرة على تكييف نفسها مع المشاغل الأفريقية، بينما تسعى إلى أهدافها الأوسع الخاصة على مستوى القارة، فإن وجودها سيظل موضع ترحيب من الأفارقة. وعلى أي حال، الأفارقة وعلى خلاف الماضي هم من سيحدد طبيعة تغلغل الصين وعمقها في الشؤون الأفريقية.
إنّ تركيز الصين المتجدد على أفريقيا يُعتبر، علاوة على قدرتها على القيام بتغلغل كبير داخل القارة في هذه الفترة القصيرة، بادرة مهمة تنذر بتغيير في النظام الدولي. وبالنسبة إلى المنْذَرِين في الغرب، تَواجُد الصين إشارة أخرى على إضعاف الهيمنة الغربية على الساحة العالمية. فمبارزة الأشباح بشأن قضية دارفور بين بكين وواشنطن، على رغم تجذرها في الديناميكيات المحلية في أزمة السودان تحمل في طياتها أبعاد التنافس العالمي على النفوذ والنفاد إلى موارد الطاقة الحيوية. فالصعوبة التي تواجهها الحكومات الغربية وقطاع الأعمال والمنظمات غير الحكومية في منافسة دبلوماسية الصين «اللامشروطة»، لا سيما على أرض غير مؤكدة لديمقراطيات متماسكة جزئياً، ناهيك عن الديكتاتوريات الصريحة، تبدو أنها توحي بأن هذا النهج الغربي تجاه الشراكة الأفريقية مصيره الفشل، أو أن الضغط على متابعة مصالحه التجارية، خصوصاً شراء موارد الطاقة، سيجعل الغرب يتخلى بهدوء كبير عن مضامين أجندته لإعادة الهيكلة في القارة.
وقد ظهرت أفريقيا بشكل بارز في الدوائر الدبلوماسية الصينية، واستفادت مما لا يقل عن خمس زيارات مهمة من طرف القادة الصينيين بين عامي 2005 و2007، وفي قمة رؤساء الدول والحكومات التي انعقدت في بكين في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2006 . (29)
ومن أحد أهم الأسباب التي تسهّل للصين نفاذها في القارة السمراء، هو كونهما بلدين قد استعمرا، من قبل دول امبريالية، وقد أدركت الأمتين الصينية والأفريقية دورهما الوطني تجاه قوميّاتهم.

الصين تتغلغل في أفريقيا
عندما لملمت بعض الدول الغربية أوراقها من أفريقيا كانت الصين ترسل خبراءها لتستطلع أوجه التعاون الاستثماري مع الأفارقة، ونجحت إلى حد كبير فيما أخفق فيه الآخرون. وحالما كانت الاستراتيجية الفرنسية بحاجة للترقيع، والأمريكية معطلة نوعاً ما في أفريقيا، كانت بكين تضع لمساتها الأخيرة على استراتيجيتها الطموحة في أفريقيا. فالصين لم تنتظر كثيراً لتقرأ نتائج حروب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق، وكانت الأكثر ارتياحاً للتراجع النسبي لاهتمام الفرنسيين بمستعمراتها السابقة التي سرقت الولايات المتحدة الأمريكية منها بعضها، إثر سياسة رعناء اختطتها فرنسا خلال العقدين الماضيين. فالدول التقليدية لم تفق بعد من هول صدمتها، فالهنود والكوريون والماليزيون أيضاً على الطريق . (30)
يتوسع نطاق التعاون الصيني الأفريقي، حيث يتوطد التعاون المشترك في المجالات التقليدية بما فيه المجالات الثقافية والصحية والتعليمية وغيرها، في الوقت الذي أدخلت فيه مقومات جديدة لإثراء هيكل التعاون الصيني الأفريقي تتمثل في قطاعات العلوم والتكنولوجيا والمالية والسياحة والطيران وحماية البيئة والطاقة الجديدة. لقد أقامت البنوك الصينية الرئيسية فروعها في عدة أقاليم إفريقية لتقدم خدمات مالية لمؤسسات الجانبين. وهناك المشاركة الصينية في بنك التنمية الأفريقي وبنك التنمية لغربي أفريقيا، والتي تساهم في جهود مكافحة الفقر وتحقيق التنمية في أفريقيا. وفي المقابل، قد فتحت 6 بنوك من 5 دول إفريقية فروعاً أو مكاتب في الصين. أما في مجال السياحة، فأصبحت 28 دولة أو منطقة إفريقية مقاصد سياحية للمواطنين الصينيين حتى نهاية عام 2009 وما زال هذا العدد في التزايد. في مجال النقل الجوي، أبرمت الصين اتفاقية النقل الجوي مع 15 دولة إفريقية حتى نهاية عام 2009، وهناك خطوط جوية مباشرة متزايدة تربط بين المدن الصينية والأفريقية.
لقد وضع تأسيس منتدى التعاون الصيني ـ الأفريقي في عام 2000 علاقاتهما الاقتصادية والتجارية على مسار سريع، ونمت التجارة الثنائية من 10.6 مليار دولار أمريكي في عام 2000 إلى 160 مليار دولار في عام 2011. وأعلنت وزارة التجارة الصينية أنّ الصين أصبحت أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وفي الوقت نفسه، أصبحت أفريقيا أحد أكبر مقاصد الاستثمار بالنسبة للصين، إذ تضخ حالياً ما يزيد على ألفي شركة صينية استثمارات في القارة. وتجاوزت قيمة الاستثمارات المجمعة من الصين 40 مليار دولار. وعلاوة على ذلك، سهلت الصين على نحو أكبر دخول السلع الأفريقية إلى سوقها. وخلال قمة مجموعة العشرين التي أقيمت في مدينة كان في نوفمبر/ تشرين ثاني 2011، قال الرئيس الصيني ”هو جين تاو” أنّ الصين ستلغي 97 في المائة من بنود التعريفة على الصادرات الواردة إليها من الدول الأقل نمواً والتي تربط بها علاقات دبلوماسية.
واستوردت الصين منتجات إفريقية قيمتها 1.32 مليار دولار بموجب شروط إلغاء التعريفة الجمركية خلال الفترة من 2005 حتى حزيران 2010، وفقاً لكتاب أبيض أصدرته الحكومة حول التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين وأفريقيا في عام 2010. وبالإضافة إلى هذا، تقوم الصين حالياً ببناء مناطق تعاون اقتصادي وتجاري في زامبيا وموريشيوس ونيجيريا ومصر وأثيوبيا تشمل إنشاء بنية تحتية تقدر قيمتها بـ 250 مليون دولار. وبمجرد الانتهاء من تشييدها، ستساعد مناطق التعاون هذه البلدان المضيفة على جذب الاستثمارات الأجنبية، وخلق فرص عمل، وتحسين البنية التحتية المحلية ومناخ الاستثمار.
وبالرغم أنه يصعب تحديد هذه النتائج بصفة نهائية لاعتبار أن الحراك الصيني لم يزل في بدايته، وأن الخبراء يتوقعون نمواً هائلاً للعلاقة الصينية الأفريقية، فإنّه من الممكن تحديد ملامح تلك السياسة في كونها قد تمكنت من تحقيق جملة من المكتسبات الاقتصادية، والحضور الدولي كقوة دولية قادرة على التأثير على بعد عشرات الكيلومترات، والتعامل الندّي مع قارة كاملة على أرضية التفوق العددي الصيني عليها بما يزيد عن الثلث (يبلغ عدد سكان قارة أفريقيا 850 مليون نسمة، فيما يجاوز سكان الصين 1300 مليون نسمة) . (31)

ومن بين أهم مكتسبات الصين من توسيع علاقاتها الأفريقية:
1 ـ رفع سقف استثماراتها الأفريقية لمستويات قياسية في فترات زمنية محدودة: فعلى الصعيد النفطي تدرك بكين أنها تعتمد ـ كغيرها ـ على نفط الشرق الأوسط الذي تحفه الصراعات، وتقع معظم أوراق اللعبة فيه في يد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أوصلت حجم تعاملاتها النفطية مع أفريقيا إلى استيراد ثلث احتياجاتها منها، لا سيما من نيجيريا وأنغولا والسودان.
وقد أضحت أنغولا أكبر مصدر للنفط للصين، حيث تشحن إليها 522 ألف برميل يومياً، وقد أقرضت الصين أنغولا قرضاً قيمته 4 مليارات دولار، يستحق السداد من النفط المصدر إلى الصين، وقد تخطت أنغولا السعودية في تصدير النفط إلى الصين، كما أن الصين حصلت على حصة تبلغ 45 في المائة في حقل نفطي رئيسي في نيجيريا (المنتج الأول للنفط في أفريقيا). وقد تمكنت مؤسسة النفط الصينية من شراء 40 في المائة من أسهم شركة النيل الأعظم النفطية في السودان، والتي تضخ 300 ألف برميل يومياً، وقامت شركة أخرى بمد خط أنابيب إلى البحر الأحمر لتسهيل نقله إلى الصين، وقد حصلت بكين على حق التنقيب في أربعة مواقع أخرى من بينها كينيا، وتشارك شركات النفط الصينية بـ 20 دولة إفريقية، وعلى امتداد السنوات الخمس الماضية أنفقت هذه الشركات 15 مليار دولار على شراء حقول النفط والشركات المحلية.

2 ـ اقتناص فرص الاستثمار في بعض البلدان ذات النفوذ الأنغلوساكسوني: كالسودان الذي نقبت شركات أمريكية عن النفط فيها، ثم استخرجته الصين مستغلة العقوبات التي وقعتها الولايات المتحدة على السودان إبان حكم الرئيس الأمريكي ”بيل كلينتون”.
وإذ تعتبر الولايات المتحدة السودان مرتكزاً لاستراتيجيتها القادمة في أفريقيا، فإن الصين قد أوجدت لها نفوذاً هائلاً هناك يغل من يد الولايات المتحدة حتى فرنسا، لا سيما مع رغبة الولايات المتحدة في التدخل المباشر في دارفور، والاستثمار في بلدان خارج السيطرتين الفرنسية والأمريكية نوعاً ما كأنغولا، والامتداد في البلدان الاستراتيجية للولايات المتحدة لجنوب أفريقيا ونيجيريا، أو الفرنسية كإثيوبيا وبعض بلدان خليج غينيا كالغابون وغيرها.
3 ـ توفير أسواق جديدة للسلاح الصيني: (بعقد صفقات لتصدير الأسلحة للعديد من دول القارة، وفي مقدمتها إريتريا وإثيوبيا ومالي وأنغولا وموزمبيق، بلغت قيمتها نحو عشرة بلايين دولار خلال السنوات الخمس الماضية)، والمنتجات الصينية عموماً، والتي نجحت في إغراق السوق الأفريقي بها .(32)

السّمات الست في سياسة الخارجية الصينية
وأيضاً في المجال الأفريقي، نرى بصمات التوجه الصيني نحو منابع المواد الخام، فلم يكد يمضِ على خلق كيان جنوب السودان سنة حتّى زارها وزير الخارجية يانغ جيتشي في آب 2011، ونادى بالسّمات الست للدبلوماسية الصينية ، وهي أولاً، تلتزم الصين دائماً بمبدأ استقلالية السياسة الخارجية.
ثانياً، تعارض الصين نزعة الهيمنة وتسعى إلى حفظ السلام العالمي.
ثالثاً، تعمل الصين بنشاط على إقامة نظام سياسي واقتصادي دولي جديد عادل ومنصف.
رابعاً، تحرص الصين على إقامة وتطوير علاقات الصداقة والتعاون مع جميع البلدان على أساس المبادئ الخمسة المتمثلة في الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي وعدم الاعتداء وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي.
خامساً، تنتهج الصين سياسة الانفتاح الشامل الأبعاد على الخارج، وتستعد لإجراء التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والفني والتواصل العلمي والثقافي على نطاق واسع مع بلدان ومناطق العالم على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة، لتدعيم الرخاء المشترك.
سادساً، تشارك الصين مشاركة فعالة في نشاطات دبلوماسية متعددة الأطراف، وتعد قوة ثابتة لحفظ السلام والاستقرار على المستويين الدولي والإقليمي.

علاقة الصين بالولايات المتحدة الأمريكية
وفي أقصى الغرب، القارة الأمريكية وعلى رأس دولها الولايات المتحدة، نجد علاقة ما بين دولة عظمى وأخرى تسعى إلى لعب دور عالمي خاصة في ظل تراجع الدور الأمريكي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وبدء تحول النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب، وهنا توجد مخاوف أمريكية وخاصة لدى صناع السياسة الأمريكية من تنامي القوة الصينية، ويعتبر ملف العلاقات مع الصين بجميع أبعاده- بلا شك- أحد أولويات السياسة الخارجية الأمريكية.
وتعود العلاقات الحديثة بين الولايات المتحدة والصين إلى عام 1972 عندما زار الرئيس الأمريكي نيكسون الصين، وأصدرا بيان شنغهاي والذي بموجبه تم إنهاء حالة المقاطعة بين الجانبين في ظل حالة الصراع واحتدام الحرب الباردة التي كانت تسود النظام الدولي . (33)

ملفات التنافر السياسي بين البلدين
يعتبر ملف “الكوريتين” من أبرز القضايا الخلافية بين الدولتين والتي تعود بجذورها إلى خمسينات القرن الماضي ، وتبرز المخاوف الصينية في الوقت الحاضر بسبب تبني الرئيس الأمريكي باراك أوباما مبدأ جديد في السياسة الخارجية الأمريكية والذي يتمثل “بالتوجه شرقاً بهدف إعادة بناء القوة والنفوذ الأمريكيين في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي”، حيث تمثل هذه السياسة تهديداً للمصالح والنفوذ الإقليمي للصين في تلك المنطقة. ويعتبر ملف حقوق الإنسان في الصين أيضاً إحدى القضايا الخلافية بين البلدين، حيث ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن هناك انتهاكات لحقوق الإنسان في الصين التي ترفض الدعوات الأمريكية لاحترام حقوق الإنسان، وتعتبر هذا الملف شأن داخلي وأنّ لكل دولة خصوصيتها ورؤيتها المختلفة بما يتعلق بحقوق الإنسان. وكذلك يعتبر الملف التايواني من القضايا الخلافية بين الدولتين، حيث تعتبر تايوان حجر عثرة أمام محاولة أي تقدم متين بين البلدين، فمجرد إثارة القضية تعني تأزم العلاقة بينهما، ورغم الاتفاق بين البلدين حول المسألة التايوانية في السبعينات الا ان الولايات المتحدة حرصت على تعزيز علاقتها مع تايوان من خلال إبرام العديد من الاتفاقيات في مختلف المجالات كان آخرها “اتفاقية التعاون العسكري”، وهو ما اثار غضب الصين وأعلنت تعليق علاقتها العسكرية مع واشنطن. وبرزت منطقة الشرق الأوسط محوراً جديداً للخلافات بين البلدين وخاصة الملف السوري والذي أظهر خلافاً عميقاً بين البلدين، حيث عرقلت روسيا والصين اتخاذ أي قرارات لإدانة نظام بشار الأسد أو فرض أي عقوبات فاعلة عليه. وبشكل عام يمكن أن نلحظ عدد القضايا الخلافية بين الدولتين والتي تعطي مؤشرات على حالة من الصراع في العلاقة فيما بينهم أو درجة من التنافر السياسي بين البلدين . (34)

الملف الإقتصادي الصيني الأمريكي
لكن من ناحية أخرى، يعتبر الملف الاقتصادي أحد أهم محاور العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وتشهد العلاقات الاقتصادية والتجارية تطوراً مستقراً، حيث تعتبر الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول للصين وبحسب بعض الإحصاءات فقد “بلغت الصادرات الصينية للولايات المتحدة 21% من إجمالي الصادرات الصينية، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بينهما إلى ما يزيد عن خمسمائة مليار دولار أمريكي عام 2012. وتعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على الصين في تصريف سندات الخزانة الأمريكية، حيث تعتبر الصين أكبر مستثمر في هذه السندات. وبالرغم من ذلك تظهر بعض القضايا الخلافية بين البلدين تتعلق بالسياسات النقدية الصينية وانخفاض سعر العملة الصينية مقابل الدولار، واحتجاج الصين على بعض السياسات الاقتصادية الحمائيّة ضد الواردات الأمريكية من الصين، وغيرها…
إنّ الملف الاقتصادي يعطي بعداً جديداً في تقييمنا للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، فبالرغم من التناقضات في العديد من الملفات وحالة التنافر السياسي في الكثير من القضايا، إلا ان البلدين يتبعان منهج براغماتي يقوم على الواقعية ويتناسى المبادئ، ويركز على المنفعة والمصالح المتبادلة في إدارة العلاقة فيما بينهم. وعلى أي حال، تنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين بقلق وتزداد مخاوف واشنطن بشكل مستمر، نظراً للنمو الاقتصادي الكبير الذي تشهده الصين، ونظرا لزيادة قوتها العسكرية حيث يرى عدد من الخبراء أنّ الفجوة بين البلدين تتضاءل بمعدلات سريعة، وهذا يشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة الأمريكية. وهنا لا بد من أن نشير الى وجود تيار قوي داخل النخبة المجتمعية الأمريكية ترى في الصين عدواً قائماً أو قادماً، وأنّ “السياسة الأمريكية في صيغتها الحالية هي سياسة عبثية ستجعل من الصين أقوى وستصبح أكبر تهديد للدور الأمريكي في آسيا والعالم”. ونظراً لتزايد الدور الصيني في العالم وبشكل خاص تزايد مكانته الإقليمية، فقد انتهج الرئيس أوباما سياسة جديدة تهدف إلى العودة إلى آسيا من خلال تعزيز التواجد الأمريكي في المنطقة ولاسيما من خلال الاتفاقيات والتحالفات الأمنية، خاصة مع اليابان، وتايوان وكوريا الجنوبية .. و اتّباع سياسة “الاحتواء” والعمل على تطويق الصين . (35)

وتنظر الصين الى هذا التحرك الأمريكي بريبة وشك، ويرى عدد من المسؤوليين الصينيين “أنّ هنالك محاولات أمريكية لزرع بذور التفتيت داخل الصين، وأنّ الضغط الأمريكي في قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات الدينية ما هي الا غطاء وتكتيك مرحلي تخفي فيه أمريكا دوافعها الحقيقية التي تتلخص في تقسيم الصين وتدمير استقراره ودوره العالمي. وتتحرك الصين باتجاه مضاد لهذه التحركات الأمريكية من خلال زيادة تفاعلها مع الدول المجاورة لها وعلى رأسها “دول مجموعة شنغهاي” والتي تضم الصين وروسيا وكزاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، والتي تهدف الى تعزيز التعاون الاقتصادي بين هذه الدول وتحقيق الأمن والاستقرار في آسيا الوسطى. وكذلك زيادة التنسيق والتعاون التجاري والسياسي والثقافي بين دول مجموعة بريكس والتي تأسست عام 2011 وتضم بعضويتها خمس دول من ذوات الاقتصاديات الناشئة هي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.

إنّ هذه التناقضات أو الخلافات لن تصل الى درجة التصادم العنيف أو العسكري نظراً لما تمتلكه الدولتين من إمكانيات وقدرات هائلة يمكن أن تلحق بهما خسائر فادحة في حال المواجهة. أما بما يتعلق يالتعاون الاقتصادي، فعلى الرغم من بروز عدد من القضايا الخلافية بين البلدين في المجال الاقتصادي، الا انه من المتوقع استمرار ازدياد حجم التعاون الاقتصادي فيما بينهم نظراً لوجود نوع من الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة فيما بينهما، وخاصّة أنّ الادارة الامريكية والصينية تتبع نهج براغماتي يركز على المنفعة والمصالح المتبادلة بين البلدين. ويذلك نصل الى نتيجة مفادها: أن مستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين سيكون مزيج من الصراع والتعاون في نفس الوقت، علماً أنّ هذا الصراع لن يصل بأي حال من الاحوال الى المواجهة العسكرية رغم التناقضات والقضايا الخلافية بين البلدين، أما التعاون سيقتصر على القضايا الاقتصادية حيث أنه من المتوقع استمرار تطور العلاقات الاقتصادية بينهما مع إمكانية إيجاد حلول للقضايا الاقتصادية الخلافية بين الجانبين . (36)

وكان الرئيس الصيني هو جين تاو دعا الصين والولايات المتحدة للنظر للعلاقات بينهما من منظور عالمي واستراتيجي. وأضاف “هو” خلال اجتماعه مع كلٍّ من لورانس سمرز رئيس مجلس الاقتصاد الوطني للرئيس الأمريكي باراك اوباما وتوم دونيلون نائب مستشار الأمن القومي، وهما من كبار المسؤولين الأمريكيين، أنّ العلاقات الصينية الأمريكية التي تتميز بأنّها إيجابية وتعاونية وشاملة أصبحت أهم من ذي قبل حيث لا زال العالم يواجه انتعاشاً اقتصاديّاً غير ثابت والعديد من التحديات البارزة. وقال هو:” لا بدّ أن تبذل الصين والولايات المتحدة جهوداً مستمرة لتحسين الحوار والتعاون وزيادة المصالح المشتركة والتعامل بشكل ملائم مع المشكلات التي تطرأ على العلاقات الثنائية”.
وقال سمرز ودونيلون إنّ الرئيس اوباما يقدّر العلاقات مع الصين وأنّه ملتزم بتعزيز العلاقات الأمريكية الصينية الايجابية والتعاونية والشاملة. وذكر كليهما أنّ الولايات المتحدة والصين دولتان مؤثرتان وتعاونهما في مصلحتهما وفي نفس الوقت يدفع الاستقرار والرخاء في العالم. وأضاف المسؤولان أنّ الولايات المتحدة تأمل في تعزيز الحوار والتعاون مع الصين والتعامل مع النزاعات بطريق عملي من أجل تحقيق تقدم جديد في العلاقات الأمريكية الصينية . (37)

تايوان مصدر اضطراب لعلاقات الصين مع أمريكا
بشأن الطريقة التي تتبعها بكين في تناول قضية تايوان فإن التحدي الأمني الكبير إلى جانب معظم القضايا المصيرية المتعلقة بالسياسة الخارجية للصين يكشف عن مستوى عالٍ من الإدراك والثقة بالنفس. فمنذ فترة التسعينيات حتى بداية عام 2001 باتت السياسات التي تحكم العلاقات المتبادلة يشوبها القلق والتوتر. وترجع تلك المخاوف إلى إمكانية تسلل الفكر الاستقلالي الذي تدعو إليه تايوان والتي قامت بطرح بعض القضايا الدبلوماسية، مثل بعض العلاقات التي تربطها بدول العالم الثالث، في قالب آحادي القطب. وفي ردها على تايوان قامت الصين باستخدام الأسلوب الجبري المكثف في منع ذلك الفكر الاستقلالي بشكل يفوق ما تقوم به من تشجيع إعادة توحيد البلاد والتخفيف من حدة الاضطرابات. كما وجه ساسة الصين معارضتهم الشديدة تجاه أي محاولة لتوطيد الروابط العسكرية بين أمريكا وتايوان وظلت الجزيرة مصدر اضطراب العلاقات بين أمريكا والصين.
ومع ذلك فقد ثبت أنّ الطريقة التي تتبعها الصين كانت إحدى معوقات نجاحها. فمثلاً بعض الاختبارات الصاروخية العدوانية التي أجرتها في عام 1995، ومرة أخرى في عام 1996 بهدف تهديد قادة تايوان وأمريكا، فقد حقق ذلك نتيجة عسكية حيث أرسلت الولايات المتحدة اثنين من حاملات الطائرات إلى الخط الدفاعي لتايوان كما سعت إلى فوز الرئيس لي تنج هو في الاستطلاعات،

ووقعت بكين في خطأ مماثل عام 2000 حين فتحت الصين صفحة بيضاء لتجديد العلاقات مع تايوان مع الأخذ في الاعتبار أنّ تأجيل المفاوضات المتبادلة الخاصة بقضية الجزيرة إلى أجل غير مسمى قد يسبب لجوء الصين إلى استخدام وسائل العنف والتي تضطرها إلى استخدام القوة العسكرية كما أنه من المنظور أيضاً أن ترنو الصين إلى وضع إطار زمني (وإن لم يكن محدوداً) لإعادة الوحدة من جديد. وجاءت النتيجة في غير صالحها فقد رشحت تايوان في انتخاباتها الرئاسية ولأول مرة رئيساً من حزب المعارضة مؤيداً لمبادئ الاستقلال.
وأخيراً يبدو أن الصين قد استوعبت الدرس خلال العامين الماضيين وأحلت أسس الصبر والاعتدال محل المشاحنات والتخطيطات العدائية حيث امتنعت عن إكمال مخططاتها المتعلقة بمسألة إعادة الوحدة كما هدأت من حدة تهديداتها بالقوة العسكرية. وبدلاً من ذلك فإنها توجه اهتمامها حالياً إلى استخدام مغريات الفرص الاقتصادية مع تايوان. (إلى جانب استخدامها إلى وسائل العنف بصورة شديدة الحدة) وعلاوة على ذلك فلم يعد قادة الصين حجر عثرة في طريق تحسين العلاقات العسكرية بين أمريكا وتايوان. في الحقيقة لم يعد كبار ساسة الصين يذكرون الموضوع في كل مرة يجتمعون فيها ونظراؤهم الأمريكيون.
ومن جانب آخر فإن هذا لا يعني بدوره أنّ بكين قررت التنازل عن نواياها في ضم الجزيرة حيث أدى أسلوب البطش الذي اتبعته الصين مؤخراً في تعاملها مع أزمة سارس في تايوان إلى جانب ما بذلته دائبة من أجل استبعاد تايوان من عضوية منظمة الصحة العالمية، أدى إلى خلق موجة من الشك حول عمق التحول. ولكن بالنظر إلى الصورة العامة أو الغالبة فإن المخططات الصينية قد شهدت تغيراً على الأقل في الوقت الحالي. فقد صحب تدمير روابط التبادل الاقتصادي والمشكلات المالية الحالية لتايوان زيادة ثقة الزعماء الصينيين بأنفسهم حيث يرون الوقت في صالحهم وأن نفوذهم في تايوان في نمو مستمر، ولكن لا تزال تلك الثقة هشة متزعزعة حتى الآن ومما ساعد على ذلك هو ما قامت به أمريكا من تبني سياسات من شأنها تهدئة وردع كل من بكين وتايبييه . (38)

إستخدام القوة الصينية
مع ازدياد حدة الأزمة النووية لكوريا الشمالية خلال الصيف الحالي اتجهت الأنظار نحو أعدائها في أمريكا وبيونج يانج كما كان دور بكين كطرف ثالث يحظى باهتمام غير كبير رغم أنه على مستوى عالٍ من الأهمية. وبعد مرور فترة طويلة من الصمت الذي التزمته الصين فقد تدخلت بجرأة شديدة في النزاع عن طريق تعطيلها لشحنات البترول إلى كوريا الشمالية وإرسالها مبعوثين رفيعي المستوى إلى بيونج يانج بالإضافة إلى تحويل قواتها إلى الحدود الصينية الكورية وتنظيمها لسلسلة من المباحثات الثلاثية في بكين في نيسان الماضي. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف الصين عن ممارستها للضغط حيث قامت أيضاً خلال الصيف الحالي باحتجاز سفينة ملاحية لكوريا الشمالية نتيجة لبعض الخلافات التجارية بينهما تلاه العديد من الزيارات التي قام بها نائب وزير الخارجية الصينية ديابينجو بين واشنطن وبيونج يانج في محاولة منه التأكيد على سلسلة جديدة من المباحثات.
وبصفة عامة فإن تلك المبادرات تسير في اتجاه مناف تماماً لتيار السلبية وعدم التحمل لأعباء المسؤولية الذي كانت تتبعه الصين تجاه القضية النووية الكورية منذ عقد مضى. بالإضافة إلى أنّ تلك المبادرات أيضاً تعد طفرة تحول هائلة في حد ذاتها على الرغم من أن الصين لا زالت في الطريق لتحقيقها وذلك باعتبار الصين لاعباً له دور فعال في ميدان الصراع الدولي في الوقت الراهن.
ففي خلال السنوات الأخيرة بدأت الصين تتخذ خطوات توصف بأنها أقل مواجهة وأكثر حضوراً وثقة بالنفس ولكنها في بعض الأحيان تبدو أكثر بنائيةً إزاء الشؤون الإقليمية والعالمية. وعلى العكس مما كان معروفاً خلال العقد الماضي فإنّ الصين باعتبارها أكبر دول العالم سكاناً تقوم الآن بتطبيق نظام دولي جديد حيث تبنّت كوكبة كبيرة من المؤسسات والمبادئ والمعايير الدولية الراهنة من أجل تعزيز مصالحها الدولية حتى أنّها سعت من أجل إضافة بعض الملامح التطويرية لهذا النظام ولكن بصورة محدودة . (39)

الصين تنخرط دولياً
منذ أوائل التسعينيات بدأت سلسلة جديدة من التحولات من خلال الحملة التي قامت بها بكين من أجل توثيق الروابط الثنائية. كما قامت الصين أيضاً فيما بين عام 1988 وعام 1994 بتطبيع أو تأسيس العلاقات الدبلوماسية التي تربطها بثماني عشرة دولة، بالإضافة إلى علاقاتها بالاتحاد السوفيتي السابق. وطبقاً لما تقدم فقد تلا ذلك خلال فترة التسعينيات تأسيس مستويات عديدة من المشاركة من أجل تسهيل سبل التعاون الاقتصادي والأمني وتحقيق التوازن مع النظام المتبع في الولايات المتحدة والخاص بالتحالفات الإقليمية. وقد بلغت منجزات تلك العملية أوجها حين وقعت كلٍ من الصين وروسيا على معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي في عام 2001.
وأثناء تلك الفترة بدأت بكين أيضاً في التخلي عن موقفها المتشدد في رفض المؤسسات متعددة الأطراف والتي أثارت مخاوف دينغ حيث أنها يمكن أن تمثل إحدى الوسائل التي تفيد أو تعاقب الصين. بالإضافة إلى ذلك فقد أدرك زعماء الصين أن تلك المنظمات يمكنها إتاحة الفرصة للدولة لتعزيز مصالحها التجارية والأمنية إلى جانب تقييد الوجود الأمريكي. وبناءً على ذلك فقد شرعت الصين منذ النصف الثاني من التسعينيات في الانضمام إلى رابطة الأمم الآسيوية الجنوبية (الآسيان). تلاه في عام 1995 ما قامت به بكين من عقد اجتماعات سنوية مع كبار العاملين بالرابطة، بعدها أسهمت الصين في عمل الآليات الخاصة بسلسلة من الاجتماعات السنوية التي تضم الدول العشرة الأعضاء بالرابطة إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية (آلية الآسيان + 3) ثم لحقها بعد ذلك آليات العمل الخاصة بالاجتماعات السنوية التي تعقدها الرابطة مع الصين وعادة ما يرأسها رئيس وزراء الصين كما زادت الصين أيضاً من عمق مشاركتها في اجتماع التعاون الاقتصادي الباسيفكي الآسيوي، وذلك باستضافتها لاجتماع القادة التاسع في شنغهاي عام 2001.
وفي الوقت نفسه وفي آسيا الوسطى لعبت الصين دوراً قيادياً في تأسيس المجموعة الأولى متعددة الأطراف في المنطقة والمعروفة باسم منظمة شنغهاي للتعاون. وتعمل هذه المنظمة الآن على تأكيد تيار التعاون المناهض للإرهاب وآخر يشجع التجارة الإقليمية المتعثرة وسحب الجيوش من منطقة الحدود.
كما اتجهت اهتمامات الصين أيضاً إلى تحسين صلاتها بأوروبا، ففي عام 1996 كانت الصين تعتبر عضواً غير أساسي للاجتماعات الأوروبية الآسيوية والتي كانت تعقد قمتها نصف السنوية بحضور رؤساء الدول واجتماعات أخرى سنوية بحضور الوزراء. وبعد مرور عامين بدأت الصين والاتحاد الأوروبي جولة محادثات سياسية سنوية. ومن المثير للدهشة أن امتدت الروابط الصينية ولأول مرة إلى حلف الناتو وذلك خلال العام الماضي. وربما يبدو الطلب المقدم من قبل الصين من أجل بدء سلسلة جديدة من المحادثات ولكنه أيضاً يشير إلى انحراف ملحوظ عن الاتجاه التقليدي في بكين والذي يوجه انتقاداته إلى التحالفات التي ترأسها الولايات المتحدة. ولا يجب تفسير ذلك التلميح بشكل خاطئ حيث أنّ ذلك اعتناق للصين لأحد مبادئ الأمن الجماعي حيث يمكن أن يستخدم في التحذير من الخلافات التي تنشب داخل الحلف والاستفادة منها خاصة بالنظر إلى تدخل حلف الناتو في آسيا الوسطى . (40)
حل الخلافات الحدودية
في خلال فترة التسعينيات تقدمت الصين لحل مجموعة من الخلافات الإقليمية والتي أسفرت عن حدوث بعض الاضطرابات في العلاقات بينها وبين دول الجوار. فمنذ عام 1991 قامت الصين بتسوية النزاعات المتعلقة بمسألة الحدود مع كل من كازاخستان وقرغيزستان ولاوس وروسيا إلى جانب طاجيكستان وفيتنام إلا أنّها كثيراً ما كانت تفض تلك النزاعات دون أن يعود عليها ذلك أي نفع. في الواقع فإننا نجد الصين في معظم تلك الاتفاقيات قد حصلت على 50% فقط من الإقليم المتنازع عليه أو أقل. فعلى سبيل المثال عند فض النزاع القائم بخصوص جبال “البامير” والتي ورثتها طاجاكستان من الاتحاد السوفيتي فقد قبلت الصين بالحصول على 1.000م2 فقط من مساحة تبلغ 28.000 متراً مربعاً.
كما شمل التحسن أيضاً علاقاتها مع الهند والتي تعتبر أحد أعدائها منذ زمن بعيد ويرجع السبب في ذلك إلى اندلاع الحرب بين البلدين عام 1926 بخصوص مسألة الحدود. وعلى الرغم من أنّ الطرفين ظلا عاجزين عن تسوية الخلافات بينهما بصورة رسمية إلا أن الخلافات الخاصة بمشكلة الحدود شهدت هدوءاً ملحوظاً وذلك بفضل اتفاقيات بناء الثقة وتخفيض عدد الجيوش الموقعة في فترة التسعينيات. كما تمّ التوصل إلى اتفاقيات مماثلة مع كل من روسيا ودول آسيا الوسطى، وبناء على ذلك فإن مناطق الحدود الصينية ـ وهي مصدر اندلاع الحروب الكبرى داخل الصين ـ تتمتع الآن بحالة أمنية لم تشهدها من قبل.
علاوة على ذلك، فقد تبنت بكين أسلوباً يتميز بأنه أكثر براجماتية في تدبرها لأمور الخلافات الإقليمية الملاحية مثل النزاعات التي نشبت بسبب جزر براسيل وسبراتلي وسنكالو. وعلى الرغم من تمسكها بمطالبها في تلك الجزر، إلا أنّ الصين فضلت تسوية النزاع بسبل سلمية استناداً إلى قواعد القانون الدولي. وبعد مرور أربع سنوات من المفاوضات وقعت كل من الصين ورابطة الأمم الآسيوية الجنوبية على بيان ميثاق أخلاقي في عام 2002 يمكّن الطرفين من تدبر الأمور. ومن المذهل أن الوثيقة الأخيرة قد تضمنت معظم المشروعات التمهيدية التي سعت الرابطة لتحقيقها إلى جانب القليل من التخطيطات التي طرحتها الصين . (41)

الاتفاقيات أمنية
وربما يكون من الأكثر عجباً أن بدأت الصين بالفعل في تعزيز مبادراتها في القضايا الأمنية في الاجتماعات التي تلعب فيها الولايات المتحدة دوراً قيادياً. وقد طالبت الصين أيضاً خلال القمة التي عقدتها الرابطة عام 2003 بتأسيس آليات أمنية جديدة. وتحت شعار المنتدى الإقليمي لرابطة دول جنوب آسيا وآليات المنظمة للمباحثات الأمنية، قام وزير خارجية الصين لي زيا وزنج بالمطالبة بعقد مؤتمر من أجل زيادة الاتصال بين القوات العسكرية الآسيوية. وتمثل تلك الشواهد انحرافاً لا يمكن إغفاله عن الوضع الذي كان سائداً في الصين خلال العقد الماضي عندما قررت الإحجام عن أيّة مباحثات أمنية مع الرابطة الآسيوية وبالذات مع القوات العسكرية . (42)
تطبيق قرارات مجلس الأمن
على الرغم من أنها كانت تحجم حتى منتصف التسعينيات تقريباً عن تطبيق قرارات مجلس الأمن والتي نص عليها في البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة والتي تجيز استعمال القوة بسبب معارضتها لتآكل السيادة التي تحملها ثنايا هذه القرارات، زادت الصين من حجم علاقاتها بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وأخذت بكين تستند مؤخراً إلى تلك المعايير، ففي تشرين الثاني من عام 2002 على سبيل المثال قامت بالتصويت لقرار رقم 1441 الخاص بالتفتيش الرسمي على الأسلحة المحظورة بالعراق، ويعتبر ذلك السلوك تعبيراً عن تطبيق الصين لمبادئ البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي قلما دعمته الصين منذ التحاقها بالمنظمة في عام 1971 . (43)

التسلّح
في معظم الثمانينيات تناولت بكين موضوعات ضبط التسلح ومنع الانتشار النووي على أنها ضمن مسؤوليات الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كما اعتبرتها أيضاً محاولات لتقييد نفوذها. ومن هذا المنطلق نجد أنها على النقيض صدقت على العديد من الاتفاقيات الكبرى المتعلقة بضبط التسلح والحد من الانتشار النووي ومن ضمنها معاهدة حظر الأسلحة النووية واتفاقية حظر الأسلحة الكيمائية. كما وافقت أيضاً على الالتزام بالمبادئ الأساسية لنظام الحكم الخاص بالتحكم التكنولوجي الصاروخي، هذا إلى جانب توقيعها على معاهدة تحريم إجراء الاختبارات النووية الشاملة في عام 1996 في الوقت الذي لا زالت فيه الصــين في حاجـــــة إلى إجراء اختبارات أساسية وتطويرية والتي تتعلـــق بشكل كبير ومباشـــر بمجهوداتها المبذولة من أجل تطوير رؤوسها النووية.

وعلى الرغم من أنّ هناك بعض الشركات الصينية التي ما زالت تمد يد العون مزدوج الغرض إلى القليل من الدول مثل (باكستان وإيران) إلا أنّ مدى وحجم تكرار تصديرها لمقومات الأسلحة الحساسة نجده الآن يتخذ المنحنى الهابط إلى أن ينتهى تماماً. وفي النصف الثاني من فترة التسعينيات بدأت الحكومة الصينية إلى إضفاء الصبغة المؤسسية على عهودها بحظر السلاح النووي وذلك بإصدار أمراً بالتحكم في الصادرات وقد استمر ذلك الاتجاه حتى السنوات الأخيرة. وبالإضافة إلى ذلك فقد عمل توحد فئات المجتمع الصيني من المسؤولين والعلماء وقادة الجيش إلى جانب الكوادر الذين يعملون في مجالات ضبط التسلح والبحث في حظر الانتشار النووي وصناع السياسة، عمل على إشعار كبار الزعماء بأهمية هذه القضايا بالنسبة للسياسة الخارجية العامة للبلاد والأمن القومي .(44)

القوة الناعمة
لقد استطاعت الصين في السنوات الأخيرة أن تستفيد من عثرات الإدارات الأمريكية، بدءا برد الفعل البطيء حيال الأزمة المالية الآسيوية في عهد الرئيس كلينتون، وصولاً إلى قصر نظر إدارة الرئيس بوش في مواجهة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
وانعكس ذلك في اتّباع الصين لسياسة القوة الناعمة، واستخدامها الإقناع بدلا من الإكراه، وتعظيم قدرتها على جذب الآخرين عبر وسائل عديدة، ثقافية ودبلوماسية واقتصادية، فضلا عن المشاركة في المنظمات المتعدية الجنسيات.
وعندما أطلق الكاتب الأمريكي “جوزيف ناي” مفهوم القوة الناعمة، فقد استخدم مفهوماً أكثر تحديداً، مستبعداً الدبلوماسية الرسمية والاستثمار، وسائر أشكال التأثير التقليدية مثل القوة العسكرية، إلا أنّ الصين وجيرانها أوجدوا فكرة أوسع للقوة الناعمة في الإطار الآسيوي يشمل جميع المجالات -باستثناء المسائل الأمنية- بما فيها الاستثمار والمساعدات.
فالقوة الناعمة “العليا” تشتمل مفهوماً يخص النخب، بينما المفهوم “الأدنى” أو القوة الناعمة “المنخفضة” تتناول القاعدة الجماهيرية الأوسع، وهو ما عملت بكين على تعزيزه من أجل تعظيم تأثرها بمنطقة جنوب شرق آسيا.
ورغم أنّ هذه القوة أوجدت إيجابيات كبيرة في العلاقات الصينية الآسيوية وخاصة جيرانها الأقرب، إلا أنّ القِيَم والنماذج التي وضعتها الصين لجنوب شرق آسيا أو للدول النامية الأخرى يمكن أن تكون كارثية على الديمقراطية والحكم الرشيد والمجتمعات المدنية الضعيفة، والأكثر من ذلك، تبدو الصين وكأنها تستخدم قوتها الناعمة لكي تدفع اليابان وتايوان وحتى الولايات المتحدة بعيداً عن التأثير الإقليمي.
مارست الصين حتى وقت قريب قوة ناعمة محدودة، حيث كانت تتبع سياسة خارجية دفاعية، ويفتقر الرأي العام إلى الثقة في إمكانية أن ترسم الصين سياستها كقوة عظمى، إذ رأى ثلث المستطلع آرائهم في استطلاع أجرته مجموعة “هورزون” البحثية عام 1995 أنّ الولايات المتحدة هي أكبر قوة عالمية، بينما رأى 13% أنّ الصين هي القوة الأكثر نفوذاً، لكنّ هذه النسبة ارتفعت إلى 40% في استطلاع أجرته نفس المجموعة بعد عام، ثم جاء عام 1997 ليكون علامة بارزة لظهور القوة الناعمة الصينية حينما رفضت تقليل قيمة عملتها على خلفية الأزمة المالية في أسواق آسيا.
ومنذ ذلك التاريخ (1997) بدأت الصين تستخدم بعض تطبيقات القوة الناعمة، حيث دشنت ما عرف باسم (إستراتيجية “توزيع المكاسب “win –win strategy”) في سياستها الخارجية، وأعلنت أنها ترغب عبر ذلك إلى الاستماع للدول الأخرى بمنطقة جنوب شرقي آسيا، واتخذت مبادرات حقيقية بالتوقيع على اتفاقية “صداقة” مع دول شرق آسيا، كما ألزمت نفسها بالعمل على إيجاد طريقة للتعامل المرن في منطقة بحر الصين الجنوبي. وبينما رأت واشنطن أنّ تلك الإستراتيجية لا تحترم السيادة وتتخذ منحى عقابياً تجاه منطقة جنوب شرق آسيا، إلا أنه من الناحية الواقعية لم توقع الولايات المتحدة اتفاقية للصداقة ولم تلغِ العديد من العقوبات على منطقة جنوب شرق آسيا.
وتشمل عناصر الإستراتيجية الصينية بعض المكونات الأخرى أبرزها التركيز على الدول ذات العلاقة المضطربة مع الولايات المتحدة مثل الفلبين وكمبوديا، فقد عززت الصين علاقاتها مع رئيس الوزراء الكمبودي “هون شين” بالتزامن مع تدهور علاقاته مع واشنطن، وتتبع الصين أمراً مشابهاً خارج آسيا مثل علاقتها بالسودان وفنزويلا وأوزبكستان. لقد عملت الصين ولا تزال على الدفع بقوتها المرنة في جنوب شرقي آسيا، إذ يفوق الدعم الذي تقدمه بكين إلى الفلبين أربع أضعاف حجم المساعدة الأمريكية لها في 2003، وتفوق نظيرتها الأمريكية في “لاوس” بثلاثة أضعاف في عام 2002، وتساوت المساعدة الصينية مع الأمريكية لدولة أندونيسيا، لكنها تفوقت عليها في تنوعها وتشعب اتجاهاتها.
ويمكن القول أنّه منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي كان لبكين مساعدات أفضل تبتعد عن الأهداف السياسية، وتشمل تشجيع الشركات الصينية للاستثمار في الخارج، ودعم الفاعلين السياسيين، وتقليل المخاوف من نمو الاقتصاد الصيني، فقد استخدمت المساعدات الصينية المقدمة إلى تايلاند لجذب السياسيين التايلانديين للدراسة في الصين، كما اشترت الصين منتجات لإرضاء المزارعين التايلانديين الذين أعربوا عن قلقهم من تأثير التجارة مع الصين، وهو ما بدا أنموذجاً واضحاً في توظيف القوة الناعمة “المنخفضة”، فقد نجحت الصين في تغيير موقف قادة المنطقة منذ خمس سنوات، فلم يألوا جهداً في إزالة الآثار السلبية للتجارة مع الصين ومنح رجال الأعمال الصينيين والنخب الثقافية وصناع القرار فرصة الدخول للمنطقة إثر تحفظ النخب الأمريكية.
وإذا أسفر النفوذ الصيني عن تقويض الديمقراطية في المنطقة أو حماية البيئة والحكم الرشيد، فيمكنه تدمير المبادرات الأمريكية، ويدعم القادة المعارضين للديمقراطية والذين سعت أمريكا لعزلهم مثل سان شيوي في بورما.
من هنا يجب أن تهتم الولايات المتحدة بأن الصين يمكنها استخدام نفوذها وقوتها المرنة بالمنطقة لدفع دولها إلى اتخاذ خيارات أكثر وضوحاً حيال التقارب مع القوى الخارجية، ولكي تحمي مصالحها الأساسية. ومن ثم على الولايات المتحدة أن تتخذ سياسة محددة ومركزة تتفهم كيفية تصاعد القوة الناعمة الصينية، فكما كان لأمريكا خلال الحرب الباردة دبلوماسياً على الأقل في كل سفارة يقوم بدراسة ما كان يفعله السوفييت على الأرض في تلك الدولة، فإنه يجب العودة لذلك مجدداً لشرح علاقات الولايات المتحدة الثنائية مع الصين . (45)
الخاتمة
منذ بداية مرحلة الانفتاح والإصلاح عام 1978، تبنت الصين استراتيجية جديدة تقوم على تعظيم القوة الناعمة لتطوير الإنتاج والقوى المنتجة، والدعوة إلى حل سلمي للمشكلات الإقليمية والدولية في عصر العولمة، لأن حرباً عالمية تدمر الكرة الأرضية بمن عليها.
ومن خلال زيادة الإنتاج وارتفاع نِسَب النمو السنوي ما بين 7-10% لسنوات طويلة متتالية، احتلت الصين المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي منذ عام 2011، ثم أشارت تقارير علمية إلى أنها باتت القوة الاقتصادية الأولى في مطلع 2014.

وتخوفت دول إقليمية كثيرة، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية، من صعود الصين الاقتصادي والعسكري. فعملت القيادة الصينية على طمأنة دول الجوار والعالم كله، وأكّدت أنّ صعود الصين الاقتصادي لن يشكل تهديداً لأي دولة في العالم، كما أنّ قواها العسكرية المتنامية هي للدفاع عن حدود الصين المعترف بها دولياً، وعن مصالح الشعب الصيني الأساسية، وبالتالي لن تستخدم إلا تحت راية الأمم المتحدة، ولضمان السلم العالمي.

وقدّمت الأنتلجنسيا الصينية سياسة القوة الناعمة في زمن الانفتاح والإصلاح، على أنها تتناقض جذرياً مع استراتيجيات الدول الاستعمارية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فقد استعمرت تلك الدول غالبية الشعوب، ومنها الصين والهند ودول عدة أخرى في جنوب وشرق آسيا، فخضعت شعوبها للاحتلال الغربي في القرن التاسع عشر، ثم للإمبريالية اليابانية في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، واحتلت ألمانيا مساحات واسعة من أوروبا في مرحلة صعود النازية، وهيمن الاتحاد السوفيتي على غالبية دول القوقاز وأوروبا الشرقية. وفي المقابل، لم تستعمر الصين أي دولة في تاريخها الحديث والمعاصر.
هوامش:

1ـ البوابة الإلكترونية لوزارة التعليم العالي السعودية (بتصرف).
2ـ موقع تقرير واشنطن الإلكتروني 7/5/2006، كتاب: ماذا يحتاج العالم ليعرف عن القوة العظمى المرتقبة، تأليف مجموعة من الخبراء والباحثين الأمريكيين في الشأن الصيني، الناشر 2006 PublicAffairs New York ‏
3ـ موقع بانوراما الشرق الاوسط ـ إنترنت، مصطفى قطبي، الصين في إفريقيا… استثمار أم استعمار؟ الخميس 18 تشرين اول 2012
4ـ مركز الجزيرة للدراسات عزت شحرور ، مختص بشؤون الصين والكوريتين ، الأربعاء 13 تشرين ثاني 2013 (بتصرف)
5ـ نماذج السياسة الخارجية .. النسق العقدي الصيني، أـ د. محمد أحمد علي مفتي 15/2/2014
Robert G. Wesson, Why Marxixm? (New York: Basic Books, 1976), p. 107
رابط الموضوع على الإنترنت: http://www.alukah.net/culture/0/66542/#ixzz30wZiDiLI

6ـ نماذج السياسة الخارجية .. النسق العقدي الصيني، أـ د. محمد أحمد علي مفتي 15/2/2014
(Donald S. Zagoria, “Ideology and Chinese Foreign Policy/* in George Schwab, ed., (Ideology and Foreign Policy (New York; Cyrco Press, 1978), p. 116.
رابط الموضوع على الإنترنت: http://www.alukah.net/culture/0/66542/#ixzz30wZiDiLI

7ـ نفس المصدر نقلاً عن:
(Davis B. Bobrow, Steve Chan, and John A. Kxingen, Understanding Foreign Policy (Decisions (New York: Free Press, 1979), pp. 168-69.

8ـ جريدة الأهرام المصرية، كتاب دبلوماسية الصين الجديدة (China’s New Diplomacy)
للمؤلفان : Evan S. Medeiros and M. Taylor Fravel إعداد: شيماء عاطف الحلواني (بتصرف)
9ـ مدونة محمد عبد الفتاح الحمراوي على الإنترنت، السياسة الخارجية الصينية، الاثنين 15 أيلول 2008
10ـ مدونة محمد عبد الفتاح الحمراوي على الإنترنت، السياسة الخارجية الصينية، الاثنين 15 أيلول 2008
11ـ مركز الجزيرة للدراسات عزت شحرور ، مختص بشؤون الصين والكوريتين ، الأربعاء 13 تشرين ثاني 2013
12ـ مركز الجزيرة للدراسات عزت شحرور ، مختص بشؤون الصين والكوريتين ، الأربعاء 13 تشرين ثاني 2013
13ـ مركز الجزيرة للدراسات عزت شحرور ، مختص بشؤون الصين والكوريتين ، الأربعاء 13 تشرين ثاني 2013
14ـ مركز الجزيرة للدراسات عزت شحرور ، مختص بشؤون الصين والكوريتين ، الأربعاء 13 تشرين ثاني 2013
15ـ نفس المصدر
16ـ مركز الجزيرة للدراسات عزت شحرور ، مختص بشؤون الصين والكوريتين ، الأربعاء 13 تشرين ثاني 2013
17ـ نفس المصدر
18ـ موقع تقرير واشنطن الإلكتروني 7/5/2006، كتاب: ماذا يحتاج العالم ليعرف عن القوة العظمى المرتقبة، تأليف مجموعة من الخبراء والباحثين الأمريكيين في الشأن الصيني، الناشر 2006 PublicAffairs New York
19ـ صحيفة البيان الإماراتية، ركائز السياسة الصينية في عصر العولمة، مسعود ضاهر 19/2/2014‏
20ـ مدونة محمد عبد الفتاح الحمراوى على الإنترنت، السياسة الخارجية الصينية، 15 أيلول 2008
مقتبس من : China Internet Information Center. All Rights Reserved
21ـ مركز الجزيرة للدراسات عزت شحرور ، مختص بشؤون الصين والكوريتين ، الأربعاء 13 تشرين الثاني 2013
22ـ صحيفة الشعب الصينية 8/9/2010
23ـ معين أحمد محمود مقالة بعنوان “الصين والعالم العربي”، مجلة الرأي الآخر العدد 46 تموز 2010
24ـ جريدة الشرق الأوسط، القوة الناعمة: استراتيجية الصين للتواصل مع الشعوب العربية، جوزيف براودي، السبت 15 آذار 2014
25ـ تلفزيون الصين باللغة العربية CCTV.com 23-12-2013
26ـ مؤسسة الأهرام دورية السياسية الدولية، التوجهات الصينية تجاه الشرق الأوسط بعد الثورات، د.نادية حلمي متخصصة في الشؤون الصينية.
27ـ السفارة الصينية في مصر، طريق الحرير.. من الماضي إلى المستقبل 18/3/2014
28 ـ الأهرام 6/5/2014 مقالة لـ سونغ آيقوه (السفير الصيني لدى مصر ومندوب الصين لدى الجامعة العربية) بعنوان طريق الحرير والصداقة بين بكين والقاهرة.
29ـ كتاب “الصين في أفريقيا: شريك أم منافس؟” تأليف كريس ألدن، ترجمة عثمان المتلوثي، موقع محيط الإلكتروني 26/10/2009
30ـ كتاب “الصين في أفريقيا: شريك أم منافس؟” تأليف كريس ألدن، ترجمة عثمان المتلوثي، موقع محيط الإلكتروني 26/10/2009
31ـ الصين في إفريقيا… استثمار أم استعمار؟ مصطفى قطبي، بانوراما الشرق الاوسط الخميس, 18 تشرين أول 2012
32ـ الصين في إفريقيا… استثمار أم استعمار؟ مصطفى قطبي، بانوراما الشرق الاوسط الخميس , 18 تشرين أول 2012
33ـ الصين في إفريقيا… استثمار أم استعمار؟ مصطفى قطبي، بانوراما الشرق الاوسط الخميس , 18 تشرين أول 2012
34ـ وزارة الخارجية الصينية، السمات الست الرئيسية لسياسة الصين الخارجية / صحيفة الشعب اليومية 10/8/2011
35ـ الحوار المتمدن، قراءة في مستقبل العلاقات الصينية – الأمريكية، بيدر التل 4/9/2013
36ـ الحوار المتمدن، قراءة في مستقبل العلاقات الصينية – الأمريكية، بيدر التل 4/9/2013
37ـ المصدر نفسه
38ـ الحوار المتمدن، قراءة في مستقبل العلاقات الصينية – الأمريكية، بيدر التل 4/9/2013
39ـ صحيفة الشعب الصينية، الرئيس الصيني: لابد أن تنظر الصين والولايات المتحدة العلاقات الثنائية من منظور استراتيجي 8/9/2010 Arabic. News. Cn
40ـ الأهرام، كتاب: دبلوماسية الصين الجديدة (China’s New Diplomacy) للمؤلّفان S. Medeiros and M. Taylor Fravel
إعداد: شيماء عاطف الحلوانى
41ـ نفس المصدر
42ـ الأهرام، كتاب: دبلوماسية الصين الجديدة (China’s New Diplomacy) للمؤلّفان S. Medeiros and M. Taylor Fravel
إعداد: شيماء عاطف الحلوانى
43ـ الأهرام، كتاب: دبلوماسية الصين الجديدة (China’s New Diplomacy) للمؤلّفان S. Medeiros and M. Taylor Fravel
إعداد: شيماء عاطف الحلوانى.
44ـ الأهرام، كتاب: دبلوماسية الصين الجديدة (China’s New Diplomacy) للمؤلّفان S. Medeiros and M. Taylor Fravel
إعداد: شيماء عاطف الحلوانى.نفس المصدر
45ـ مدونة محمد عبد الفتاح الحمراوي على الإنترنت، السياسة الخارجية الصينية، 15 أيلول 2008

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.