موقع متخصص بالشؤون الصينية

صلاح منتصر يكتب : الصين بين المعجزة والأسطورة

0


بوابة الأهرام المصرية:
هناك مدن مهما تباعدت فترات زيارتك لها لا تجد فيها عند أي زيارة تغييرا يذكر, وأي منطقة تقصدها تعرف الطريق إلي شوارعها ومحالها بسهولة كأنك كنت فيها ولم تنقطع عنها, وهناك مدن تتوه في كل مرة تزورها بسبب ما أصابها من تغيير إما إلي الأسوأ وإما إلي الأفضل. ولو أخذت نماذج لهذه المدن لوضعت لندن وباريس وجنيف وفيينا وغيرها كثير من المدن الأوروبية التي تغيب عنها عشرات السنين وتعود إليها ولا تشعر بأي تغيير . بينما الذي يسكن القاهرة ـ وكثيرا ماحدث لي ذلك ـ أقف حائرا عندما أعود لزيارة حي من الأحياء وأعجب كيف تغيرت معالمه إلي الأسوأ وازداد ازدحاما ووصل إلي الحالة التي وصل إليها؟.. بكين عاصمة الصين من المدن التي تتغير بسرعة ولكن إلي الأحسن بشكل واضح.

هنا تشتري الساعة الرولكس بعشرين دولارا
اللغة الصينية لا تعرف الحروف الأبجدية وإنما بها 50 ألف كلمة
وبكين ليست أول عاصمة للصين فقد سبقتها مدن أخري اختارتها الأسر الإمبراطورية لتكون العاصمة .. كما سبق أن حملت بكين نفسها أكثر من اسم أشهرها ‘ يانجينج ‘ , إلا أنه منذ الثورة الشعبية وإعلان زعيمها ماوتسي تونج قيام جمهورية الصين الشعبية في أول أكتوير 1949 أصبحت ‘ بكين ‘ بهذا الاسم العاصمة الرسمية .
وقد بقيت بكين محافظة علي بيوتها وأحيائها القديمة ومناطقها الفقيرة التي تعتبر مناطق عشوائية وشوارع مختنقة شاهدتها خلال زيارتي الأولي لها عام 1966 حتي إلي وفاة ماوتسي تونج عام 1976 . إلا أنه منذ بدأت سياسة الانفتاح وتحول الصين من الشيوعية الكلاسيكية التي كانت تحكمها إلي ‘ الشيوعية نيولوك ‘ أو الاشتراكية علي الطريقة الصينية كما يسمون نظامهم , امتدت يد التجديد إلي بكين وبقوة .
ولم يتم التحديث بترميم المناطق المتهالكة وإنما بإزالتها وإعادة البناء فيها علي أساس تخطيط جديد يحاول الحفاظ علي ملامحها القديمة . ولذلك فمن يزر بكين يجد رائحة التاريخ في بعض مبانيها الجديدة إلي جانب المباني الحديثة والطرقات العصرية المتقاطعة والمواصلات العامة الجديدة والمولات التجارية العصرية التي تعرض إنتاج الشركات العالمية وهي شركات تنتج سلعها داخل الصين بمواصفات وتكنولوجيا هذه الشركات ولكن بأيد صينية .
وفي عام 1966 لم يكن هناك غير فندق واحد أربع نجوم هو الذي يمكن أن يقيم فيه الزائر الأجنبي , واليوم في عام 2012 يوجد في بكين 71 فندقا من درجات مختلفة وبأسعار تبدأ من مائتي دولار للفرد في الليلة إلي عشرين دولارا , إلي جانب الأسواق العصرية الحديثة سواء في بكين أو شنجهاي التي فيها أرقي وأغلي الموضات مع الأسواق الصينية التقليدية وهي عبارة عن صفوف من المحلات المتجاورة والمتشابهة في المساحة وتشغل ثلاثة أو أربعة طوابق .

زيارة إلي السوق الصينية
زيارة هذه الأسواق تجربة فريدة لايمكن أن ينساها من يمر بها . فما يكاد الزائر يضع قدمه في السوق خاصة إذا كان أجنبيا وليس له سابق معرفة حتي يفاجأ بالهجوم الذي يتعرض له من بائعي هذه المحال والتي تصل إلي حد الجذب بالأيدي ودفع الزائر إلي دخول محل البائع .. ويكتشف الزائر أنه محاصر بقوة وأن الفتاة الصينية أكثر شراسة في جذب ذراع الزبون من زميلها الشاب . لكن هذا الجذب والشد يخضع لقاعدة لاحظتها وهي التزام كل بائع شابا أو فتاة بالمنطقة الخاصة بمحله , فإذا تجاوزها الزبون انتقل إلي اختصاص باعة المحل المجاور . والغريب أنه ليس هناك بائع يفهم من هروب الزبون المستمر من الباعة الذين سبقوه أنه لايريد الشراء , فالصيني لاييأس وإلحاحه لايتوقف وصبره غير طبيعي , وبالنسبة لي فقد كانت زيارة هذه الأسواق في بدايتها تجربة جديدة مسلية إلا أنها بعد دقائق أصبحت مزعجة لدرجة أنني لم استطع الاستجابة لشد بائعة من كم الجاكيت والمغامرة بدخول أي محل إلا عندما صحبني الأستاذ كامل عواد الذي كان في ذلك الوقت ـ عام 2008 ـ يتولي عمل المستشار التجاري لمصر في مدينة شنجهاي وهي لا تختلف عن أسواق بكين . وعن طريقه اكتشفت بعض أسرار هذه المحال بعد أن سهل عليه من خبرته وبعض الكلمات الصينية التي يعرفها أن يقترب من حياتهم , فما زالت اللغة الإنجليزية خارج الفنادق و في التاكسيات وبعض المحال مشكلة المشاكل في الصين . ولذلك يتعين ألا يغادر الزائر الفندق المقيم فيه حتي لو كان مع مجموعة من الأفراد بدون أن يكون مسلحا باسم الفندق مكتوبا باللغة الصينية ودليل توزعه الفنادق مسجل فيه بعض الكلمات المتداولة باللغتين الصينية والإنجليزية . وأرجوك لاتعتمد علي أنك تعرف اسم الفندق الذي غادرته فكثير من الفنادق تختلف طريقة نطقها بالصينية عن الاسم المكتوب وما إن تنطق اسمه لسائق التاكسي حتي تكتشف جهله بما تقول ويجري حوار طويل فيه كثير من إشارات الخرس لأن الأسماء بالصينية مختلفة عن الإنجليزية .
واللغة الصينية مثل اليابانية تكتب من اليسار إلي اليمين , وأيضا من أعلي إلي أسفل ولذلك تجد لافتات المحال أفقية ورأسية . لكن اللغة الصينية لاتحتوي علي الحروف الأبجدية التي تتكون منها معظم اللغات , وبدلا من الحروف الأبجدية تتكون اللغة الصينية من كلمات يبلغ عددها 50 ألف كلمة . وتزداد قدرة الشخص علي القراءة بحسب عدد الكلمات التي يحفظها لكنهم يقولون إن من يستطيع حفظ ستة آلاف كلمة يستطيع قراءة الصحيفة !
ولذلك كان من بين استعدادات الصينيين للدورة الأوليمبية عام 2008 تدريب عدد كبير من سائقي التاكسيات خصوصا في بكين علي أهم اللغات المستخدمة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية واليابانية . وقد تم تمييز اللغة التي يعرفها كل سائق بلون الطلاء الذي طليت به سيارته في إشارة للراكب إلي السائق الذي يتكلم اللغة التي يعرفها ويستدل عليها من لون التاكسي , وهي جميعها تاكسيات نظيفة ومكيفة وتعمل بالعداد .

هنا فن المساومة الحقيقي
ومع أن هناك زبائن تهوي الفصال والمساومة ومنهم زوجة صديق تعشق هذه العادة التي تجعلها لاتستريح ولا تنعم بأي شيء تشتريه إلا إذا فاصلت البائع و هدت حيله , إلا أن هذه السيدة ــ وكانت ضمن مجموعتنا ــ أعلنت إقرارها بهزيمتها أمام البائع الصيني الذي بالفعل لا أظن أن هناك من ينافسه في الفصال ! والغريب أن هذه العادة ــ عادة المساومة ــ تعتبر جديدة علي الصينيين , ففي صين ‘ ماوتسي تونج ‘ كان سعر كل سلعة محددا مكتوبا علي السلعة في جميع المحال التي كلها ملك للدولة .. وبالتالي كان جميع الباعة موظفين لدي الدولة , ولكن بعد الانفتاح ومنذ صين ‘ دينج هسياو بنج ‘ عادت الملكية الخاصة وأصبح الباعة يتنافسون لزيادة دخولهم , واصبح الصيني يلاحق الزبون ليس فقط في داخل الصين وإنما أيضا خارج الصين .. فلم يكتف الصينيون بعرض سلعهم داخل الصين بل حملوها إلي أصغر قرية في صعيد مصر وإلي آلاف الشقق التي راحوا يطرقون أبوابها في القاهرة والمدن المختلفة بصورة أثارت خوف الكثيرين مما جعلهم يلجأون إلي الشرطة لحمايتهم من هؤلاء الباعة ويطلبون إلي البوابين منع دخولهم العمارات .. ومع ذلك كان الصينيون هم الذين ساعدوا سكان غزة في أزماتهم المختلفة التي مروا بها ولم يتوقف الصينيون عن تزويد الفلسطينيين بالسلع الصينية ماداموا يدفعون الثمن .
صحبني المستشار التجاري المصري إلي أحد المحال التي تبيع المحافظ الجلد المقلدة التي تحمل أسماء كل الماركات الشهيرة : كارتييه ومونت بلانك ودانهل وغيرها .. وسألنا عن السعر فقال له البائع : 300 يوان ( في عام 2008 كان الدولار يساوي 7.5 يوان واليوم يساوي 6.25 يوان ) . وقبل أن أنطق بكلمة وجدت مرافقي المستشار التجاري يقول له :25 يوان ! ووجدت نفسي بحركة لاشعورية أنسحب من داخل المحل إلي قرب الباب استعدادا للهروب علي أساس أن الرد الطبيعي للبائع هو أن يحتد علينا وقد يشتمنا بالصيني ليفك عن نفسه علي أساس أننا نسخر منه .. لم يفعل البائع ــ علي كل حال ــ شيئا مما توقعته وإنما وجدته يقول لصاحبي بهدوء بالغ : لالالا أنت تريد أن تقتلني .. ادفع 200 قال صاحبي بإصرار : 25 ! قال البائع 180 .. واستمرت المساومة بين صاحبي والبائع لتنتهي إلي 30 يوانا بدلا من 300 يوان واتفقا أن يضع البائع كل محفظة في علبة تحمل نفس ماركتها .

الرولكس بعشرين دولارا
ونتيجة لعملية التقليد والتزوير التي يصطدم بها الزائر كثيرا في أسواق الصين اصبح السؤال في عقل كل مشتر هو : هل هذه السلعة التي يشتريها حقيقية بنفس ماركتها التي تحملها أم أنها سلعة مزيفة ومقلدة متقنة التقليد ؟
كل ماتفكر فيه من ماركات وأسماء سوف تجده مقلدا ببراعة .. صحبني المستشار التجاري المصري في جولة في أحد المجمعات التجارية الحديثة ولكن بالطريقة الصينية التقليدية التي تتلاصق فيها المحال الموزعة علي ثلاثة طوابق .. وبعد أن مررت بمفاجأة الصراخ علينا من الباعة والجذب من الفتيات وقطع الطريق أمامنا من الباعة الشبان أخذني المستشار التجاري إلي محل كان يعرفه . وقد لاحظت أن جميع المحال تبدو متشابهة ليس فقط من حيث الشكل بل من حيث معروضاتها الصينية أيضا .. وهي بذلك تشبه محال السعودية خاصة المحال المتلاصقة علي سور البقيع في ‘ المدينة المنورة ‘ فجميعها بنسبة 99 % تبيع نفس السلع نفس المنتجات وقد يكون الخلاف في عدم وجود بعض الألوان أو المقاسات لدي البعض ووجوده لدي البعض الآخر ..
كان المستشار المصري كما قلت خبيرا وقد كشف لي أن في كل محل نمر عليه يوجد بداخله ‘ باب سري ‘ في الجدار يؤدي إلي مخزن صغير يحوي المنتجات المقلدة خاصة الساعات من أشهر الماركات اعتبارا من الرولكس إلي الكارتييه والأوميجا واللونجين وبسعر يتراوح بين عشرة وثلاثين دولارا .. يعني بمنتهي البساطة يمكنك شراء رولكس مقلدة بعشرين دولارا .. ومن حيث الشكل فالساعة تبدو مبهرة أما مع الاستعمال فإنها لاتستحق بالفعل أكثر من ذلك الثمن فبعد أسابيع قليلة ستعرف أنك خسرت ثمنها .
وقد كانت هذه الساعات المقلدة كما عرفت معروضة من قبل علنا علي أبواب المحلات وفي الشارع , ولكن بعد انضمام الصين إلي منظمة التجارة العالمية في عام 2001 فقد خضعت لقانون حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وأصبحت تحاول ولو من الناحية الشكلية مطاردتها , ومن ثم راح الباعة في الصين يمتنعون عن عرض بضاعتهم المقلدة علنا وابتدعوا فكرة المخازن السرية التي يدخل فيها الزبون ليختار الساعات التي يريدها .. وهذه المخازن والطريقة التي يتم بها بيع هذه المنتجات المقلدة ليست سرا علي الشركات العالمية التي تقلد منتجاتها , ولذلك تتعرض الصين لضغوط شديدة تطالبها بالقضاء علي عمليات التقليد والقرصنة الواسعة التي جعلت اسطوانة ( سي دي ) أحدث فيلم أنتجته هوليوود مطروحا للبيع في نفس الأسبوع مسجلا تسجيلا جيدا وبسعر دولار واحد !

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.