موقع متخصص بالشؤون الصينية

ماذا يحدث في الصين؟

0


صحيفة الاقتصادية السعودية:
أ.د. محمد إبراهيم السقا*:
تشير التقارير الاقتصادية الواردة عن الصين إلى استمرار تراجع النمو الصيني على نحو مقلق، فعلى مدى عام ونصف حتى اليوم والنمو يتراجع بشكل مستمر على غير العادة، حيث بلغ معدلات منخفضة حاليا تصل إلى نحو 7.6 في المائة، وهو، على ارتفاعه، يعد من أقل معدلات النمو التي حققتها الصين منذ فترة طويلة. لسوء الحظ فإن توقعات النمو لهذا العام تشير إلى أن النمو المحقق ربما يكون الأقل منذ 1999. ذلك أن المصانع الصينية تعمل حاليا بأبطأ معدل لها منذ أكثر من ثلاث سنوات، حيث تراجع نمو الإنتاج الصناعي في الصين إلى 8.9 في المائة في العام الماضي بسبب تباطؤ الطلبيات الجديدة، من ناحية أخرى فإن مسوحات مديري المشتريات تشير إلى تصاعد القلق حول مستقبل النمو في القطاع، مما يوحي بأن الصناع ربما يضطرون إلى خفض المخزون لديهم بصورة أكبر قبل أن يبدأوا خطط الإنتاج الجديد مرة أخرى مما يوحي بالمزيد من تراجع النمو. أكثر من ذلك تتراجع اليوم ثقة قطاع الأعمال الصيني على نحو كبير، وهناك مخاوف من استمرار النمو منخفضا، ولذلك أصبح الطلب على الائتمان منخفضا جدا على الرغم من تخفيض معدلات الفائدة، فقد قام البنك المركزي الصيني بخفض معدلات الفائدة مرتين منذ حزيران (يونيو) الماضي، كما قام بخفض معدل الاحتياطي القانوني بنصف في المائة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي للمساعدة على زيادة الإقراض الجديد.

تراجع النمو الصيني كان حصيلة عدة عوامل، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي ومنها ما هو هيكلي. داخليا اتخذت الصين مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى الضغط على التضخم الذي صاحب برنامج التحفيز المالي الضخم الذي أطلقته الصين في أعقاب الأزمة المالية العالمية وكذلك الإجراءات التي اتخذتها للضغط على أسعار المساكن نحو الانخفاض للحد من الآثار المحتملة لانفجار بالون أسعار المساكن فيها، ومثل هذه الإجراءات أدت إلى زيادة الضغوط نحو الانكماش في الصين.

خارجيا كانت أكثر العوامل تأثيرا في النمو الصيني هي مشكلة الاتحاد الأوروبي الذي يواجه تراجعا واضحا في النمو ويمثل أحد أهم أسواق الصادرات الصينية، وكاقتصاد يعتمد على الخارج يؤدي تراجع الصادرات إلى حدوث ضغوط عديدة على الصين، ولذلك تدفع الصين اليوم ثمن اعتمادها المكثف على الخارج في صورة تراجع نموها مع تراجع الطلب الخارجي، ومن الملاحظ أن الجميع يشعر حاليا بآثار الاعتماد الكبير على العالم الخارجي كمصدر أساسي للدخل.

لفترة طويلة من الزمن والعالم يطالب الصين بأن تتحول إلى اقتصاد يتوجه نحو الداخل بدلا من أن يعتمد أساسا على الخارج. صحيح أن استراتيجية التوجه نحو الخارج خدمت الصين والعالم لفترة طويلة من الزمن، ولكن يبدو أن استراتيجيات النمو الصيني المعتمد على الخارج لا بد أن تتغير اليوم، حيث يتمكن الاقتصاد الصيني من تجنب الآثار الارتدادية العكسية الناجمة عن تراجع النمو في الخارج، وقد حان الوقت أن يتحول النمو الصيني إلى نمو يعتمد أساسا على الطلب المحلي، غير أن المشكلة هي أن الصين لا تتخذ خطوات جادة في هذا المجال، ذلك أن هذا التحول سيكون له تأثيرات على الصين بصفة خاصة على احتياطياتها من النقد الأجنبي، إذ من المفترض أن تتحول الفوائض التجارية الضخمة التي تحققها إلى دخول ترفع من مستويات رفاهية الصينيين وتزيد من الطلب الاستهلاكي المحلي، حيث يكون النمو معتمدا أساسا على هذا الطلب، وليس على الطلب الخارجي.

إضافة إلى ذلك تلعب العوامل الهيكلية دورا في الضغط على النمو، حيث إن الطلب الاستهلاكي المحلي محدود كنسبة من الناتج، بينما يعد الإنفاق الاستثماري هو المحرك الأساسي للنمو في الطلب المحلي. فقد كان النمو المعتمد على الخارج مصحوبا بضغط الاستهلاك المحلي بهدف رفع معدلات الادخار ومن ثم زيادة مستويات الاستثمار، حيث تحقق الصين واحدا من أعلى معدلات الادخار في العالم، كما أنها الأكثر استثمارا على مستوى العالم كنسبة من الناتج. فالصين تستثمر حاليا نحو نصف ناتجها المحلي الإجمالي، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه الإنفاق الاستهلاكي الخاص ثلث الناتج المحلي الإجمالي، أي أن الحكومة الصينية تحفز الطلب المحلي أساسا من خلال تكثيف الاستثمار، ومثل هذا التوجه لا بد أن يتغير لكي يفسح المجال أمام الطلب الاستهلاكي نحو النمو.

كاقتصاد ناشئ تتمثل مشكلة الاقتصاد الصيني في أنه يحتاج إلى ضرورة الحفاظ على معدل نمو مرتفع لكي يضمن استدامة هذا النمو، حيث ينظر إلى معدل 7 في المائة على أنه الحد الأدنى اللازم لخلق مستوى كاف من الوظائف في الاقتصاد الصيني ويمنع الاقتصاد المحلي من الانحدار نحو الانكماش، مقارنة بالطبع باقتصاد ناضج مثل الاقتصاد الأمريكي الذي قد يكفيه معدل نمو من 3 إلى 4 في المائة. لذلك نجد أن هناك تحذيرات تدور حاليا من تحقيق الصين لمعدل نمو أقل من 7 في المائة لما سيترتب على ذلك من نقل الكساد إلى جميع قطاعات الاقتصاد الصيني ويخلق مشكلة للبنوك المحلية، حيث يزيد من الخسائر المحققة بواسطة البنوك في القروض.

أهم التحديات التي تواجه الحكومة الصينية اليوم في استدامة النمو على المدى الطويل هي الفجوة التي تتسع بسرعة في الدخول بين أصحاب الدخول المرتفعة وباقي المجموعات الدخلية في الصين، وهو ما يمثل مصدرا كامنا لعدم الاستقرار ولا شك أن استمرار تجاهل الحكومة الصينية لعدم العدالة في توزيع الدخول قد يهدد الاستقرار السياسي للصين على المدى الطويل، فاليوم تتفاوت الدخول في الصين على نحو واضح، وبعض التقارير تشير إلى تراجع أرقام معامل جيني لعدالة توزيع الدخل إلى مستويات أعلى من تلك التي تتسبب في انتشار الاضطرابات الاجتماعية.

لدفع معدلات النمو بها تفكر الصين حاليا في تحفيز مالي آخر في مجال البنية التحتية لدعم نمو الطلب المحلي، فقد بات من الواضح أن الإنفاق على البنى التحتية أصبح الخيار الأول للصين حاليا لرفع النمو المتراجع بسبب مشكلة الديون السيادية الأوروبية التي تؤثر في الصادرات بالتراجع، حيث قررت الحكومة الصينية إطلاق نحو 60 مشروعا من مشروعات البنى التحتية تتكلف أكثر من 150 مليار دولار لكي تساعد على إنعاش النمو الاقتصادي ودفع النشاط في الصين، كما قررت الصين البدء في مشروع ضخم لبناء 2018 كيلو مترا من الطرق في 18 مدينة بتكلفة نحو 160 مليار دولارا، ولعل ما يساعد الصين على ذلك أن معدل التضخم أصبح متواضعا إلى حد كبير، الأمر الذي يفتح المجال أمام صانع السياسة النقدية لاستخدام سياسة نقدية ميسرة لمساعدة النمو وتحسين الأوضاع الاقتصادية العامة. إذ يتوقع أن يستمر البنك المركزي الصيني في تسهيل السياسة النقدية بصورة أكبر كجزء من سياسة الحكومة الرامية إلى تثبيت النمو. من ناحية أخرى، طالب الرئيس الصيني رؤساء دول آسيا والباسفيك بتسريع الإنفاق على البنية التحتية للمساعدة على مواجهة التحديات الضخمة التي يفرضها الاقتصاد العالمي على المنطقة.

تراجع النمو الصيني لا يحمل فقط أخبارا سيئة للصين وحدها، وإنما يحمل أخبارا سيئة للعالم أجمع، خصوصا في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها العالم حاليا، حيث تعد الصين من أكبر مستخدمي موارد العالم من المواد الأولية أو من السلع الزراعية أو الصناعية، ومن ثم ليس من الصعب تصور الأثر في النمو العالمي، على سبيل المثل يمثل تراجع النمو الصيني تهديدا لسياسات الاحتياطي الفيدرالي بتوسيع نطاق التسهيل النقدي ودفع الدولار نحو الانخفاض، ذلك أن التراجع الصيني سيحدث تأثيرا عميقا في حجم التجارة العالمية ويجهض السياسات الأمريكية الرامية للاستفادة من ضعف الدولار. من ناحية أخرى، يترتب على تراجع النمو الصيني تزايد الضغوط على سعر النفط وأسعار المواد الأولية الأخرى نحو التراجع.

بعض المراقبين أخذ يثير علامات استفهام حول مدى متانة نموذج النمو الصيني وقدرته على الاستمرار على المدى الطويل. فهل هذا النمو الهائل الذي حققته الصين كان غير مستدام؟ سؤال اختلف حوله المراقبون، وهناك من المراقبين من يعتقد أن النمو الصيني ربما وصل مداه، وأنه غير متأكد من مسار النمو في المستقبل. شخصيا أعتقد أن كبوة النمو الحالية راجعة إلى عوامل خاصة بالطلب أكثر من كونها عوامل هيكلية، وأن هناك الكثير أمام الاقتصاد الصيني لكي يحققه، وأن ما لدى الصين من إمكانات هائلة ستساعد الاقتصاد الصيني على إدارة عجلة النمو على نحو أكثر توازنا، غير أنه يجب على الصين لكي تضمن استقرار أكبر في اتجاهات النمو فيها أن تحاول أن تخفض اعتمادها على النمو القائم على الصادرات وتدفع النمو الاقتصادي نحو النمو المعتمد على الاستهلاك المحلي لكي تتجنب الآثار الارتدادية الناجمة عن تقلبات الطلب الخارجي.

* أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.