موقع متخصص بالشؤون الصينية

رأي في الإشتراكية الصينية

0

marwan-soudah-chinese-socialism

 

موقع الصين بعيون عربية ـ
الاكاديمي مروان سوداح*:

 

الاشتراكية ليست ديانة ولا هي كيان جامد ولا تعاليم مقدسة تؤخذ كما هي وعلى علِاّتها. الاشتراكية نتاج فكري لبشرٍ، وعمل دؤوب لمفكرين عبر التاريخ، تطلعوا دوماً الى تطبيق أعلى منسوب للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وعملوا لإشاعة مبادئ الأخلاق في الحياة الاجتماعية والاقتصاد، التجارة والسياسة، الدبلوماسية والحروب، وتمكين السلام والعدالة، ونفي الصراع بين البشر لكونه ظاهرة غير إنسانية. فالرأسمالية كيان لا إنساني، وهو نتاج صراعات اجتماعية واقتصادية بين البشر وأفضى إليها التطور الصراعي بين قوى الانتاج القديمة التي سبقتها، وهي بالتالي لا يمكن ان تحقق التقدم المنشود للشعوب.

إضافة الى ذلك، أرى في الاشتراكية تناغماً وانسجاماً مع قوانين الطبيعة والكون والمجرات التي تحكمها بدقة، وأرى فيها انضباطية حتمية للبشرية في كل مجال. وتأكيداً فالمشاعية الاولى للبشر كانت اشتراكية وكان فيها توزيع الاعمال بين افراد المجتمع بالتساوي وبحسب القوى والقدرات. والمصلحون والدُّعاة للصلاح والعلماء الاجتماعيون والمفكرون والكتّاب والانبياء نادوا عملياً بالاشتراكية وإن لم يُسمّها بعضهم بهذا الاسم الصريح.

فإذا كانت الارض ودرب التبانة والمجرّات والشموس والنجوم وغيرها، تحتكم في وجودها وسيرها في الفضاء الشاسع لقوانين صارمة، ويكون الخروج عن دوائرها كارثة كونية مُحققة ونهاية للمادة والحياة البشرية وحياة الكواكب الاخرى وما عليها، فما بالكم بالمجتمع الرأسمالي والامبريالية والميغا إمبريالية العاملة على تدمير كل نظام طبيعي أو كوني رغبة بالإغتناء وإفقار الآخرين؟!

مؤخراً، طرحت علي جهات قيادية بحثية في جمهورية الصين الشعبية أسئلة فكرية تتمحور حول الاشتراكية بالوان صينية، وهل هي إشتراكية أم ماذا، ورأيي بها، وقد سررت بهذه الاسئلة، كما سررت بالاجابة عليها ضمن نطاق خبراتي الفكرية والعملياتية، وكانت ردودي منطلقة من قناعاتي الراسخة، ومن الماء الفكري الوفير الرقراق الذي اختزنته خلال نحو نصف قرن من قراءاتي وممارساتي العمل الحزبي والسياسي والفكري.

 

أولا، ما رأيك في الاشتراكية ذات الخصائص الصينية والنظام الصيني والطريق الصيني؟

 

لم أخفِ في يوم من الأيام تأييدي التام للاشتراكية، واعتبرها المجتمع الذي يتوق إليه الناس وتحلم به الشعوب، لكونها تعبير عن مرحلة متقدمة للعدالة الاجتماعية. فكلمة إشتراكية جاذبة ومحققة لآمال أعرض الجماهير الشعبية التي هي الأكثر عدداً في المجتمعات، والاكثر انتشاراً والاكثر ممارسة للسياسة والاقتصاد والتجارة وتنظيماً للاسواق والبيع والشراء، والعادات والتقاليد الخ… وبالطبع، لا يؤيد غالبية الاغنياء الاشتراكية، فغالبية هؤلاء لا يمكن ان يدخلوا ملكوت السماوات، لا مِن خُرم إبرة، ولا مِن بابٍ واسع، ولا حتى من نافذة!

وفيما يخص الاشتراكية بألوان صينية، والخصائص الصينية للاشتراكية، والطريق الصيني للاشتراكية، فهي من الحقوق السيادية للصين، ولها الحق بسلوك الطريق الاقتصادي والسياسي الذي تراه مناسباً ومتجاوباً مع مصالحها الخاصة، وان تُسمّيه بالإسم الذي تراه مناسباً وكما يحلو لها.

شخصياً، لي رأي بالاشتراكية الصينية الحالية، التي كانت المرحلة الثانية في المجتمع الاشتراكي الصيني الذي إقامه الزعيم ماوتسي تونغ، بعد تحرير الصين من الهيمنة اليابانية، وبعدما حَماه من تغوّل الأنظمة الفاشية.

ـ لا يمكن لأي إشتراكية ان تنجح في العالم حال التعامل معها و/أو تطبيقهاعلى انها كيان جامد واستنساخ للعقائد والتطبيقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الموجودة في الكتب الخ.

 

ـ لكل بلد خصائصه في مختلف المجالات، ونمطه الاقتصادي والاجتماعي، ونظام العادات والتقاليد الخاص بشعبه ومصالح مشروعة على ان لا تتعدى على حقوق الاخرين من بششر ودول، وعليه لا يمكن ان ينفع الصين تطبيقات الاشتراكية الروسية أو الالمانية والفرنسية والاسكندنافية أو غيرها.

 

ـ الخصائص الصينية نمت وترعرعت في ظروف الصين الخاصة واحتياجات الصين، وقد تم انتاجها فترة طويلة في فرن تاريخي فريد، ومن خلال التطبيقات المتواصلة لأنماط انتاجية واجتماعية مختلفة، الى ان رست الاشتراكية على ما هي عليه الآن في الصين.

 

ـ في الصين اشتراكية من نوع خاص صينية الالوان، وهو تميز للصين، ذلك ان الصين كانت منذ أكثر من ألفي  سنة ذات الوان خاصة في كل مجالات الحياة. فهناك نرى اليوم القطاع الاشتراكي، العام، الذي يتعايش الى جانب الرأسمالية. ومن الواجب هنا بعد دراسة تاريخ الصين الحديث، ان ندرك ان قضية الانتاج المختلط في الصين كانت خياراً لا خيار غيره في ظرف حرج ومحدد وفاصل تاريخياً. فلم تكن الصين تجد أي خيار أخر لتطوير نفسها، ما اضطرها لإستقدام رأس المال الغربي لأجل تطوير البُنية المحلية، ضمن شروط صارمة، يَضعها الحزب الشيوعي الصيني، بحيث لا تتغول الصناعة الثقيلة وأربابها وقياداتها و.. سياستها الرأسمالية على القطاع الاشتراكي العام، وعلى الدولة والحزب القائد فيها، وليبقى الحزب الشيوعي القائد والضمانة الاولى والحاسمة لنمو الصين بطريق اللون الاشتراكي الخاص بها.

 

ـ  في الصين ممنوع ان تصنع الشركات الكبرى سياسة الدولة وتوجهاتها الداخلية والخارجية، وممنوع ان تمتلك الصناعات التي تعني الاستقلالية عن القرار الحكومي الصيني، فالقرار السيادي هو للدولة الصينية، وكذلك القرار السياسي الخاص هو ملك لها وحدها وليس خاضعاً لاملاءات الانتاج الرأسمالي.

 

ـ الدولة منفصلة  بقراراتها ومصالحها عن مصالح مدراء وأرباب الشركات المحلية والاجنبية. وهذه هي المصلحة الاشتراكية في مختلف المدارس الاشتراكية التي عرفتها البشرية، عدا بالطبع الاشتراكية الرأسمالية في البلدان الاسكندنافية والغربية، حيث تكون الاشتراكية مجرد قطاع ضمانات عام لأفراد المجتمع (الاعانات/ الطبابة/ التعليم وما إليها)، كما في أي مجتمع آخر، وليس تناغماً، ولا يعمل فيه البشر وفق شعار “الفرد للجميع والجميع للفرد”، الذي هو بالمناسبة الشعار الرئيسي للإتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب حُلفاء الصين.

 

ـ طبعا، لقد خسر المجتمع الصيني ميزات الاشتراكية التقليدية في عدة مجالات، منها على سبيل المثال، ان التعليم الجامعي أصبح سلعة يديرها السوق وتخضع لمتطلباته، وليس ضمانة للمواطنين، وليس خدمة مجانية بالكامل تهدف لتطور المجتمع المتناغم واحتياجات سوق العمل، كذلك أمور شؤون اخرى.

 

ـ الصين مضطرة منذ حركة الاصلاح والانفتاح الصينية 1978 الى إتّباع سياسة الخلط ما بين العام والخاص، وما بين الاشتراكية والرأسمالية، على الاقل في الراهن من العقود، بغية ضمان التنمية الأسرع، ولانتشال عدد غير قليل من الصينيين في الأرياف من الفقر، والنهوض بأوضاعهم ليكونوا في مستوياتهم المادية والروحية على مستويات أرياف اليابان أو الولايات المتحدة والدول الاسكندنافية، مَثلا.

 

ـ الصين اصبحت اليوم بسياستها “مصنع العالم”. ومن هذه الناحية أنا اؤيد بشكل مطلق طبيعة النمو الصيني لأن مصلحتي الشخصية بالإضافة للسياسية، ان تتقدم الصين على كل الدول الرأسمالية الاخرى، وتصبح قائدة لها، وتحقّق نفسها كقوة أولى بالعالم، تنشر السلم والعدالة، من خلال شعار “الاقتصاد للجميع”، و “الحياة الرغيدة لكل البشر”، ولجميعهم، وتعمم “المصالح المشتركة الواقعية”.

فغالبية مشاكل الشعوب ناتجة عن الفقر والفاقة والصراع الدموي للحوز على جزء من المكاسب، يضمن الحياة الكريمة وكرامة الانسان، وحال الأخذ بيد الشعوب اقتصادياً، وضمان العمل والطعام والتعليم والنمو المتوازي للشعوب ومتطلبات الانسان، ستتراجع معظم اسباب النزاعات والحروب، وقد تنتفي الامبريالية من الوجود، وهو أُسُ التقدم الصيني الاقتصادي كما أراه الآن. وهذه هي بالذات المِيزات الرئيسة للاشتراكية الصينية التي اضطرت للموافقة على الخلط ما بين الرأسمالية التقليدية والاشتراكية التقليدية، وطورت من اشتراكيتها في مجالات اخرى، لتكون مبدعة وتتوائم مع متطلبات العصر والشعب الصيني.

 

ـ اضافة الى ان الصين بتطورها المذهل الذي لم يسبق له مثيل من قَبل في تاريخ البشرية، جعلت من الاشتراكية، ومن كلمة “اشتراكية” خصلة محببة للبشر، بعد ان شوّهت الدعاية الرأسمالية صورة ومفهوم الاشتراكية وماهيتها. فأكدت الصين عكس ذلك، وبأن الاشتراكية التي اندثرت في المعسكر الشرق – اوروبي والاتحاد السوفييتي ستُولد من جديد، وستخدم شعبها والشعوب الاخرى، حيث تُنتج للفقراء في البلدان الاخرى من خلال التجارة الدولية وتوظيف التكنولوجيات الصينية في بلدان العالم الثالث والنامي، أسباب الحياة الكريمة.. أي ان الاشتراكية الصينية تندلع من بؤرها الجغرافية في الصين، وتندفع بلا توقف نحو ناس العالم وجغرافياتهم للارتفاع بهم والارتقاء بمستوياتهم الاقتصادية، ومن ثم الاجتماعية وبالتالي الفردية، أي تماماً على عكس الهدف الرأسمالي والامبريالي الذي يُفقر الشعوب ويَمنع توظيف التكنولوجيا فيها، ويُبقيها أسواقاً مستورِدة لا مُنتجة ولا مُبدعة.

 

ـ والاشتراكية مدارس مختلفة ومتباينة حتى. ولا يمكن ان نقيس أو نقيّم اشتراكية على نمط اشتراكية اخرى في بلد ما. فمن الاشتراكيات: العربية بتفرعاتها.. الناصرية، البعثية، الاشتراكيات الحزبية المختلفة، الاشتراكيات الافريقية؛ والاشتراكية العلمية التي وضعها ماركس وانجلز، والاشتراكيات العربية القديمة وتلك الطوباوية الأقدم من الاشتراكيات المادية، وهناك اشتراكيات غربية عديدة..، أي اننا لا نستطيع ان نتحوصل وننعزل في اشتراكية واحدة، ولا نستطيع من زاويتها هذه، ولا من زوايا هذه أو تلك من الاشتراكيات فقط ان نقيس مدى صحة اشتراكية ما، وخروج اخرى عن السكّة الاشتراكية!

ـ برأيي:  “الاشتراكية هي خدمة الشعب”، و “تخفيض سقف الاستغلال الطبقي”، الذي بالطبع لا يمكن القضاء عليه تماماً في المجتمعات البشرية لانها بشرية. والمجتمعات الغربية كانت أنتجت اشتراكية ماركس وانجلز وقبلها غيرها. بينما تم تطبيق اشتراكية ماركس وانجلز ولينين في الاتحاد السوفييتي الفلاحي والدول الاشتراكية الاخرى التي كانت أكثر تطوراً صناعياً من الاتحاد السوفييتي خلال وبعد الحرب العالمية الثانية.

 

ـ بعد الحرب العالمية الثانية ظهرات تباينات اشتراكية اتخذت احياناً مظاهر خلافات حادة ما بين موسكو من جهة، ومن جهة اخرى ما بين كل من بخارست / رومانيا/، وبلغراد /يوغسلافيا/، وتيرانا /البانيا/، والاشتراكية الزوتشيه في بيونغ يانغ /كوريا الديمقراطية/، وما بين موسكو والقاهرة، حين كان الاتحاد السوفييتي يدعم مصر والناصرية، بينما كان جمال عبد الناصر يَسجن الشيوعيين المصريين.

 

ـ بل ان كومونة باريس التي كانت أول مجتمع شيوعي لجماعة شيوعية، أو لنقل مجتمع إشتراكي بدائي التطبيقات، لم تستطع لا الصمود بوجه الرأسمالية ولا بوجه الامبريالية العسكرية والاقتصادية وآليات الرأسمالية الطاغية، ولا إنتاج مِثال يحُتذى به عالمياً، فبقيت حبراً على ورق، وصارت تعيش في احتفالات غير حاشدة لإحياء ذكراها.

 

ـ لذلك لا يمكن ان نقوم بتجريم الاشتراكية الصينية، ولا وصمها بالعار، كما ولا يمكن ان نُشرّع اشتراكيات اخرى. فالاشتراكية ليست جامدة، ولا هي دين له ثوابت ومَن يخرج عنه يتم تكفيره ويتحول الى هرطوقي، بل الاشتراكية هي جسم حي ينبض بالحياة المستمرة والتغيير صعوداً ونزولا ، وقد يلتزم لفترة بالوسط ويسلك هدنة تاريخية محددة ووقتية، كما في الصين. وهذا الجسم الاشتراكي ينتج الجديد من الافكار والتطبيقات المُبدعة في سبيل الوصول الى مستوى عدالة ما. والجسم الاشتراكي يكون احياناً مرغماً للسير في طريق لا اشتراكي كامل القسمات/ وبرغم عدد من القسمات اللاإشتراكية والرؤى والالوان الخارجة عنها، إلا ان عموم الجسم ينضح برؤى اشتراكية وقرارات اشتراكية لخير المجتمع الصيني الضخم الذي هو ثلث عدد البشرية ويحتاج الى توظيفات مالية هائلة لإعاشته وتقدمه وازدهاره.

 

ـ في روسيا السوفييتية كان تطبيق “سياسة النيب” اللينينية بعد الحرب الاهلية. وكان كثيرون معها وكثيرون ضدها، ونعتها الضديون بمختلف الاوصاف حد الخيانة العظمى (ونؤكد: برغم الاختلاف بين الواقعين الصيني والروسي. فإن إطلاق سياسة النيب في روسيا لم يتم سوى بعد نزع ملكية أغلبية المصانع وبعد “شيوعية الحرب” خلال الحرب الأهلية.. كان ذلك سياسة فرضها وضع البلد بعد سنوات حرب عديدة وبعد فشل الثورة في ألمانيا، وبذلك كانت سياسة دفاع للينينية).

“النيب” هي نهج وسياسة موازيتين تقريباً ومشابهتين للاشتراكية بالالوان الصينية، فقد تم اللجوء إليها وقتياً لتطوير روسيا وانقاذها ولتكوين خبراء وعلماء وآليات نهوض وطنية. كان “نيب” لونا جديداً للاشتراكية الروسية الوليدة التي ارتأت الإختلاط بالانتاج  الرأسمالي وآلياته دون الإضرار بأركان وقواعد الدولة الجديدة، مع المحافظة على مبادئ الاشتراكية وروحها في الشعب الروسي، من أجل تسريع الانتاج، وانقاذ البلاد من الفقر والتراجع الاقتصادي جرّاء الحرب الاهلية الطويلة والتدخل الامبريالي الاجنبي، ولوضع حدٍ لمخططات خارجية هدفت لإضعاف الحزب الشيوعي البلشفي الحاكم الذي تسلّم السلطة فالقضاء عليه. وللحديث بقية.

*رئيس الإتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتاب العرب حُلفاء الصين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.