موقع متخصص بالشؤون الصينية

النموذج الصيني تطويع التنظير الأيديولوجي

0

11

في كل مرة تزور الصين تتعرف أكثر على المزيد من المزايا والخصائص الهامة في سياساتها الداخلية والخارجية، وكيفية نجاحها المذهل في بلوغ عتبة متقدمة من التطور والتقدم الزراعي والصناعي والتكنولوجي والمعلوماتي وعلى مستوى العمران والمواصلات، وكذلك حجم الانفتاح والانتظام على صعيد العلاقات بين القوميات المتعددة التي يتكون منها الشعب الصيني، والحرص على رفع مستوى الأداء والجهد المتواصلين من قبل الحزب الشيوعي الحاكم في البلاد للارتقاء بالصينيين إلى مراتب متقدمة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي بما يمكنهم من التنعم بمستوى لائق من المعيشة على طريق تحقيق العدالة الاجتماعية المتوخاة من التزام الحزب للخيار الاشتراكي الذي يجري تطبيقه بما يتناسب مع ظروف وواقع الصين.
إن تطبيق النظرية الاشتراكية، أو النظرية الماركسية لا يتم على نحو جامد وآلي، فالحزب الشيوعي طبق رؤيته للاشتراكية بما يتناسب مع مستوى التطور الذي تعيش فيه الصين، والذي لا يسمح بتحقيق الاشتراكية بما تعنيه من عدالة ومساواة تامة بين جميع أفراد الشعب لأن الصين لم تبلغ مستوى التطور الذي يمكنها من إزالة الفوارق الاجتماعية، وتفجير ينابيع الثروة التي تكفي لتطبيق المبدأ الاشتراكي، كل حسب حاجياته، وليس كل حسب عمله وجهده فقط، كما هو حاصل حالياً، فالاشتراكية لا تتحقق من الفقر، وإنما من درجة متقدمة من النمو والتطور والازدهار، ولمواجهة هذه المعضلة فان الحزب الشيوعي الصيني عمد إلى إدخال الصين في عملية الاصلاح والانفتاح الاقتصادي التي بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي بغرض الاستفادة من الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية لإحداث التنمية الشاملة والمستدامة التي تصب في خدمه تعزيز الاشتراكية، وهذا يعني أن الصين تعتمد حاليا وفي آن واحد نظامان في الاقتصاد، نظام اشتراكي، ونظام رأسمالي، لكن مع لفت الانتباه إلى أن كل ما يحصل من تطوير اقتصادي بأدوات رأسمالية في الصين إنما يتم في اطار مخطط وضعه النظام الاشتراكي بقيادة الحزب الشيوعي الحاكم، والذي يضمن من خلاله عدم حصول أي انقلاب سياسي لصالح السياسات الأميركية الغربية، كما حصل في الاتحاد السوفياتي السابق ، ولهذا تجد المسؤولين الصينيين لا ينتابهم أي قلق أو خوف من أن يؤدي تغلغل الأفكار والقيم الغربية الرأسمالية إلى المجتمع الصيني، وعلى وجه الخصوص إلى الحيل الجديد من الشباب، إلى تكرار سيناريو انهيار النظام السوفياتي، في الصين. هذه الثقة نابعة من أن الدولة الصينية تضمن الحفاظ على الاستقرار السياسي في ظل النظام الاشتراكي من خلال استحواذها على النسبة الأكبر من الملكية، ولا تعطي المستثمرين الأجانب سوى نسبة أقل، أي بالأحرى لهم حق الاستثمار من دون أن يتملكوا. من هنا فان التحديث الاقتصادي مشروط في أن تكون الأولوية فيه لمصلحة الجماعة، وبالتالي فان الهدف من السماح بدخول الشركات الأجنبية للاستثمار في الصين مساعدة القطاع العام الصيني الاشتراكي على التطور والتقدم، والمسؤولين الصينيين، ومنذ بدء مسيرة الاصلاح والانفتاح، وضعوا ضوابط تمنع الشركات الخاصة والذين يستفيدون من ذلك بتحقيق الثروات الكبيرة، من استخدام إمكاناتهم المحتملة كركيزة لتكوين قوة مستقلة تشكل في النهاية خطراً على النظام الاشتراكي القائم. فمن المسموع أن تقوم الشركات الخاصة بكل الأنشطة الإقتصادية واقامت المشروعات الحديثة والمنافسة، لكن من غير المسموح أن تؤثر هذه العلمية سلباً  على استقرار النظام الاشتراكي الحاكم، وقد لخص زانغ يابي رئيس اتحاد الصناعة والتجارة في مدينة شنغهاي هذه السياسة للحزب الشيوعي الصيني بالقول: ” ستحتفظ الدولة إلى الأبد بملكية الحصة الكبرى من اقتصاد المدينة وسيظل المشروع الخاص يقوم دائما بدور تكميلي، نحن لا نستطيع أن نملك نظاماً يكون فيه الدور الأول للشركات الخاصة، وإنما القطاع الخاص مفيد فقط لانجاز الأنشطة التي لا يستطيع قطاع الدولة انجازها” .
وهناك مثل حي حصل في نهاية الثمانينات وتأكد من خلاله أن الحزب الشيوعي الصيني يملك زمام السيطرة وهو يراقب عمل الشركات الخاصة الأجنبية، وقادر على وضع حد لها في أي لحظة تخرج فيها عن دورها الاقتصادي المرسوم لها وفق الشروط الصينية للاستثمار والعمل في الصين.
وهذا المثال هو شركة ستون التي تعتبر أكبر مشروع خاص للتقانة العالية في الصين، وتجاوزت مبيعاته الـ 700 مليون دولار وتتباها بمشروعاتها التجارية المشتركة مع شركات بانا سونيك، وكومباك، ومتسوي وبوجود قسم لها في سوق أسهم في هونغ كونغ وتعاملها في الكثير من الأنشطة الاقتصادية من أطعمة الأطفال والرقابة الصناعية والأثاث وشطائر الشيكولاته، وتعاملها كذلك في الأدوية والتداول في العقارات وتجارة الأوراق المالية والسندات والصيرفة التجارية.
لكن هذه الانجازات لشركة ستون إنما تعتمد اعتماداً يكاد يكون كاملاً على الحكومة الصينية، فهي وعلى الرغم من أنها شركة خاصة، إلاّ أنها عملياً مسجلة من الناحية القانونية مشروعاً جميعاً ( مثل باقي الشركات الخاصة) ما يعني أنها خارج نظام الدولة لكنها في الوقت نفسه تخضع لمحاسبتها، وهذا ما حصل عندما شارك عدد من أعضاء الشركة والعاملين فيها في الاحتجاجات التي نظمت ضد الحكومة عام 1989 في ميدان تيان آن مين في وسط بكين، حيث اقتحم جيش التحرير الشعبي مكاتب الشركة لفترة وهرب ثلاثة من كبار مديري الشركة إلى خارج الصين. واليوم عادت الشركة إلى العمل في الصين بعد أن تلقت درساً، وأدركت أنها لا تستغني عن سوق الصين المغرية، كما غيرها من الشركات الأجنبية، وهو ما تتقن الحكومة الصينية الاستفادة منه بنجاح في خدمة تطوير اقتصادها الاشتراكي وتحقيق التنمية المستدامة التي تقضي على الفقر وتمكنها مع الوقت من بلوغ مجتمع رغيد الحياة.
إن سر هذا النجاح الصيني إنما يكمن في التطبيق السليم والصحيح للاشتراكية بطريقة مبدعة وخلاقة بعيداً عن القوالب الجامدة التي أوصلت الاتحاد السوفياتي إلى التفكك والانهيار ومعه العديد من دول أوروبا الشرقية، ما يعني أن المشكلة لم تكن في النظرية الاشتراكية، وإنما في طريقة تطبيقها التي يجب تنسجم مع الظروف الخاصة لكل بلد وعلى نحو يقود إلى تلمس سكان هذا البلد فوائد الاشتراكية  بشكل تدريجي ومتزايد ما يجعلهم يتمسكون بالاشتراكية، وهذا ما يحصل فعلاً في الصين، حيث يتحسن مستوى المعيشة والدخل باطراد ويجري القضاء على الفقر ويتحقق التقدم والتطور والازدهار.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.