موقع متخصص بالشؤون الصينية

فزورة كوكبية اسمها.. الصين

0

صحيفة الشائر المصرية ـ
محمد الخولي:

•• لمحتها في شارع طلعت حرب في وسط القاهرة.. بالأدق على رصيف طلعت حرب.. فتاة صينية لم تكد تفارق العشرين.. من حولها كانت دائرة من المشترين والمساومين والفضوليين: فرشت بضاعتها على أرض الرصيف تبيع الهواتف المحمولة.. ويعلم الله كيف كانت تحاور وتناقش وتساير بصبر عجيب ودأب أعجب.
هذه الفتاة القادمة من أقاصي الشرق الآسيوي أصبحت تمثل نموذجا متكررا في شوارع وحواري وربما في قرى ونجوع الوطن العربي من أقصاه الى أقصاه.. من هذا النموذج مَن تطرق أبواب الشقق في عمارات المدن في القاهرة أو طنطا أو سوهاج.. ولقد رأيت وتابعت نشاط فتيات أخريات، وارد الصين طبعا، يمارس هذا النشاط التجاري الرائع في شوارع وأسواق دبي وقطر وأبوظبي.. والأكيد في أماكن أخرى..
• أنت إذن أمام الصين الجديدة.
بالتحديد أمام فتاة صين – القرن الواحد والعشرين.
وعليك – بعد إذن سيادتك – أنت تنسى ما سبق وطالعته في سطور الكاتبة الأمريكية “بيرل بَكْ” (1892- 1973) وخاصة روايتها الشهيرة التي أصدرتها عام 1931 تحت العنوان التالي: الأرض الطيبة (The Good Eearth)، بمعنى أرض الصين من أيام القرن التاسع عشر.. ومطالع القرن العشرين.. الزمن الذي شهد مواريث الإمبراطوريات العتيقة وحروب الأفيون التي أشعلها الاستعمار الأوروبي ومجاعات الملايين وفقر السكان الذين كانت أقصى متعتهم هو كوب من الماء.. الساخن.. ودمتم.
فما بالك إذا ما وضعوا في الكوب بضع ورقات من نبات اسمه الشاي..! هي نفس الفترة التي كانت أمهات الصين تضع فيه أقدام الفتيات الصغيرات في حذاء من حديد أو ما يشبه الحديد ولا يهم من بعد ما تعانيه البنت التاعسة من آلام.. لأن الأهم هو أن تحصل على قدم صغيرة.. محندقة ومن ثم تروق في عين الخاطبين والعرسان.

ثورتان وزعيمان
• صحيح أن الصين عاشت إفاقتها أو انتفاضتها الأولى مع ثورة حزب “الكومنتانغ” بقيادة زعيمها الرائد “صُن يات صِن” (1866- 1925).. لكن الأصح أن الصين الأحدث.. والأكثر جسارة هي التي وضع حجر أساسها الزعيم “ماو تسي تونغ” الذي قاد “المسيرة الكبرى” وتزعّم التفجير الثوري التاريخي في عام 1949 كي تخرج الى النور الصين الجديدة التي حملت اسمها المعروف:
•• جمهورية الصين الشعبية.
وكم كانت صعبة تلك الأيام التي تزامنت مع مغيب الأربعينات ومطالع الخمسينات من القرن العشرين.
كانت أياما من شظف العيش في جنبات الصين وخاصة بعد تحريرها من الاستعمار الياباني الذي كان قد استولى على مقدرات البلاد منذ عام 1937. يومها، وفي عام 1949 بالذات دعا الزعيم “ماو” قومه لتخليد ذكرى “الحرب ضد اليابان” وخاصة في مدينة “شونكنغ” في غرب الصين، وهي المدينة التي شهدت ملاحم المقاومة الوطنية الجسورة.. وسقط في ساحتها العشرات من متطوعي المقاومة الوطنية ضد جيوش اليابان. لهذا شيدوا برجا شاهقا لتخليد ذكرى المقاتلين الذين ضحوا بأرواحهم فداء لتحرير الوطن.. ظل البرج هو أعلى مباني المدينة الباسلة.. على مدار عشرين عاما.. يكاد الزائر يراه شاهقا من كل زاوية ومكان.. لكن ها هو البرج وقد أخنى عليه الدهر في أيامنا الراهنة.
يقول الكاتب الأمريكي “كريستوفر هايز”:
– عندما زرت المدينة طالعت البرج إياه فإذا به وقد أخلد الى نوع من التواضع والدعة ولم يعد له المكانة السابقة، وحسبه أن يقف في ظلال ثلاثة مبان من ناطحات السحاب الحديثة التي باتت تطاول عنان السموات.

قل بيجين ولا تقل بكين
الكاتب الأمريكي كان يتحدث عن صين جديدة تماما عاينها وكتب عنها خلال زيارته للبلاد في عام 2009 – حين احتفلت بيجين عاصمة الصين (هكذا أصبحوا يكتبونها بدلا من بكين التي تخلوا عنها باعتبار أصلها الفرنسي) – بالعيد الستيني لقيام ثورتها الكبرى (1949).
وقد كتب “كريستوفر هايز” تقريرا وافيا عن زيارته نشرته مجلة “ذيَ نيشن” الأمريكية (عدد يناير عام 2010).
في التقرير يسجل الكاتب الأمريكي نجاح الصين في النجاة باقتصادها من ربقة الأزمة المالية التي ما برحت تأخذ بخناق عالمنا منذ نشوبها في خريف عام 2008.. ولدرجة أن أوصلت أقطارا في أوروبا الى حافة الإفلاس (أيسلندا مثلا) كما أصابت الحياة في أقطار أخرى بآفات شحة الموارد وزيادة معدلات البطالة والتهديد بنشوب ثورات اجتماعية اعتراضا على تدابير التقشف الحكومية على نحو ما يحدث حاليا في اليونان.
ويبدو أن الكاتب الأمريكي قد ذهب الى الصين واستعرض منجزاتها مدفوعا بمزيج من عوامل شتى.. ربما كان في مقدمتها الخشية من اتساع واستشراء الصناعات الصينية على بيئة كوكب الأرض بحكم ما تطلقه هذه الصناعات المهولة من انبعاثات كربونية تؤدي الى تلوث الغلاف الجوي (الأتموسفير) المحيط بكوكبنا.. وربما كان من هذه العوامل أيضا مشاعر الإعجاب والغيرة مما حققته الصين وخاصة على امتداد الثلاثين سنة الأخيرة منذ تولي أمورها زعيمها التاريخي الثاني “دنغ ساو بنغ” الذي خَلَف “ماو” وافاد من حالة الاستقرار التي حققتها الصين. ومن فوق الأرضية المستقرة أطلق الزعيم “بنغ” دعوته الى الأخذ بأساليب الانفتاح والمرونة الاقتصادية وتجريب كل أشكال الأداء الاقتصادي ورفض الجمود الأيديولوجي المتحجّر دون أن يكون في ذلك خروج، أي خروج على قيادة الحزب الشيوعي الذي مازال ممسكا بمقاليد كل الأمور في طول الصين وعرضها.

800 مليون سيارة
والطريف أن يزور صاحبنا الأمريكاني مصنعا للسيارات في “شونكنغ”.. وحين أطل على خط الإنتاج في المصنع.. أشار مرافقه الصيني الى خط التجميع الذي كان يضم 800 سيارة من حجم “الميني فان” كانت تدلف الى ساحة التخزين واحدة بعد الأخرى.. وقال صاحبه الصيني:
– بصراحة.. ثمة 800 مليون فلاح صيني – كلهم في حاجة الى هذه السيارات.
هنالك استرسل الزائر الأمريكي في تأملات.. مناخية.. وكوكبية.. وأيكولوجية كما قد يتصور.. وكتب قائلا:
– صاحبي الصيني كان على حق بطبيعة الحال.. وقد صادق على كلامه مسئول صيني آخر هو “يو كنغتاي” ممثل الصين الخاص في مفاوضات المناخ العالمية قائلا:
– لا يجوز لنا أن نتصور أن تظل الصين هي مملكة الدراجات الى أبد الآبدين.
ومرة أخرى يعلق الكاتب “هايز” قائلا:
– كلهم على حق.. لكن يا إلهي 800 مليون سيارة جديدة.. ذلك أمر يستعصي على الخيال.
مع هذا كله، ومثل كل بلد ناهض في عصرنا، فالصين تواجه – كما لاحظ زائرها الأمريكي – تحديات في غاية الشراسة.. ويقول هذا الزائر في مقالته التي ألمحنا غليها:
– عندما تُحاور المسئولين هناك.. تراهم يجمعون بين مزايا الكفاءة والتركيز.. ولكن تلاحظ أنهم يعانون وسواسا اسمه.. الاستقرار. وبعضهم يعترف بما يواجهونه حاليا من مشاكل وتحديات.. وهاهو الناطق باسم الحكومة المحلية في “شونكنغ” يعترف قائلا:
– نحن نواجه ضغوطا بغير حدود ونعمل تحت وطأة هذه الضغوط الناجمة عما نصادفه من صعوبات..

نزوح أم هجرات
هنا يؤكد الكاتب الأمريكي أن أول وأخطر هذه الصعوبات تتمثل في كلمة واحدة هي:
•• الهجرة.
ثم يلاحظ أن مسئولي الصين يصرون على أنها “هجرة” وليست نزوحا أو انتقالا من الريف الى الحضر.. ومن قرى الصين الى مدنها.
ورغم اعترافه بأن أهل أوروبا وأمريكا يقصدون بحكاية الهجرة حالة الانتقال من بلد الى آخر.. إلا أن مسئولي الصين يرون أن تحّول الفلاحين وصغار الحرفيين من حياة القرية الصينية الى حياة المدينة هو أقرب أن تكون هجرة كاملة من عالم بعينه الى عالم جديد. وبالتحديد – كما يضيف الكاتب هايز – من عالم نام أو متخلف الى عالم ناهض أو أكثر تقدما.
مع هذا كله فدولاب العمل يدور وعجلة الإنتاج مستمرة.. والتحديات بالغة الشراسة ولكن يقابلها عزم صيني يرى أن لا جدوى من أحاديث الأمس واجترار ملابسات الماضي.. ولدرجة أن ثمة إجماعا على أن خطوة البداية هي عام 1978 عندما انفتحت الصين على العالم.
ومرة أخرى تمضي مقالة “ذي نيشن” قائلة:
– برغم أن الحضارة الصينية يبلغ عمرها خمسة آلاف سنة لكن ليس من أهل الصين الآن من يهتم بالحديث عن أي شئ سابق على عام 1978: إن المستقبل عندهم هو كل شئ..
• المستقبل هو كل شئ..
هذا هو مفتاح التقدم الذي يمكن أن يكفل حياة كريمة ومعقولة حتى لا نقول مرفهة لشعب يزيد تعداده على ألف وأربعمائة مليون نسمة.
و.. مازالت حكاية الصين تحوي فصولا تستحق أن تروى.
ولكن من خلال تجارب مصرية هذه المرة..
فالى أن نلتقي بإذن الله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.