موقع متخصص بالشؤون الصينية

النشاط الديني أو المتطرف؟ هذه هي المشكلة (العدد 74)

0

شوي تشينغ قوه (بسام): (باحث في الشؤون العربية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين)

قرأت بدهشة شديدة المقالة التي نشرها الأستاذ فهمي هويدي في 2 مايو الجاري بصحيفة الشروق المصرية بعنوان “بالقانون.. كل تدين تطرف”، لأنها كانت مبنية، مثل مقالته الأولى بعنوان “أشقاؤنا المنسيون” التي نشرت في الصحيفة نفسها، على أساس معلومات خاطئة ولكن بدرجة أشد هذه المرة
أذكر أولا حكايته عن عودة ثلاثة آلاف طالب أو طالبة من بين أربعة آلاف من الطلاب المسلمين الصينيين الذين كانوا يدرسون في مصر، إلى بلادهم أو لجأوا إلى أوربا مضطرين بأمر من الحكومة الصينية، و”إلا تعرضوا هم وأهلوهم للاعتقال”. والمعلومات التي حصلت عليها من مصادر رسمية صينية، وتدعمها شهادات تلامذتي وأصدقائي الصينيين، المسلمين أو غير المسلمين، الذين يدرسون في جامعات أو معاهد مصرية حاليا، تغاير تماما تلك الحكاية المدهشة. فأولا، لا أحد منهم سمع بوجود هذا العدد الكبير من الطلاب الصينيين في مصر، فهو عدد مضخّم إلى حد كبير حسب انطباعاتهم. ثانيا، لا أحد من الطلاب المسلمين ممن أعرفهم تلقّى تعليمات من داخل الصين تأمرهم بالعودة، ولم يسمع أحدهم بحدوث هذا الأمر مع زملائهم، من إقليم شينجيانغ أو غيره. ثالثا، صحيح أن بعض الطلاب قد عادوا إلى الصين مؤخرا، حسبما ذكره الطلاب الصينيون، ولكن السبب هو أنهم دخلوا مصر بالتأشيرة السياحية وسجلوا أسماءهم في جامعة الأزهر أو بعض المدارس الدينية، للتمكن من الإقامة في مصر من أجل ممارسة الأعمال التجارية الصغيرة، وشددت السلطات المصرية في الآونة الأخيرة التدقيق في نوع تأشيراتهم، بل فرضت غرامات على بعضهم بتهمة الإقامة غير الشرعية والتهرب من الضريبة قبل ترحيلهم إلى الصين. لذا، فإن سبب عودتهم يرجع إلى السلطات المصرية التي يحق لها أن تطبق القانون بدون شك. كما انتقد الأستاذ هويدي، مرة أخرى، القانون الذي بدأ سريانه في شينجيانغ منذ أوائل شهر إبريل الماضي، واقتبس منه المادة التاسعة التي رصدت 15 مظهرا محظورا، لأنها مظاهر تصبّ في خانة التطرف الديني كما تراها حكومة شينجيانغ المحلية، بينما يعتبرها الأستاذ هويدي “تعبيرات التدين”، وبالتالي، يظن أن الإجراءات لمنعها “كلها تحاول محو الإسلام واقتلاعه.. وليس فيها شىء ضد التطرف”. والجدير بالذكر أنه أطلق هذا الحكم وفقا لترجمة لتفصيلات نص القانون تلقاها من شخص يسمى “محمد أمين حضرت”. وبعد قراءة مقارنة دقيقة بين هذه “الترجمة” والنص الأصلي في اللغة الصينية، شعرت بصدمة كبيرة وبدأت أدرك أن هناك “فنا للترجمة” يختلف كليا عن الترجمة التي مارستُها منذ نحو ثلاثين عاما، في أساليبها وأهدافها
وللحفاظ على الأمانة والحياد طلبت من الأستاذ محسن فرجاني، أستاذ اللغة الصينية في جامعة عين شمس وأحد أشهر المترجمين المصريين للثقافة الصينية والأدب الصيني، بتقديم ترجمة أمينة للمادة التاسعة من القانون المذكور التي تحظر “الأقوال والأفعال المنتسبة إلى التطرف والمتأثرة بالنزعة المتطرفة”. وها أنا أنقل، شاكرا، ترجمته لتفاصيل هذه المظاهر المحظورة كما يلي
ا1: الدعوة إلى الفكر المتطرف ونشره؛ 2: التدخل في حرية الآخرين في اعتناق الدين، وإكراه الآخرين على الاشتراك في أنشطة دينية، أو إكراههم على تقديم الأموال أو الخدمات إلى مواقع النشاط الديني وهيئات التدريس الدينية؛ 3: التدخل في شؤون الآخرين فيما يتعلق بزواج وجنازة وعقد قران، ومواريث وتركات؛ 4: التدخل لمنع الآخرين من التبادلات الاجتماعية وإقامة علاقات التمازج مع باقي القوميات أو مع أصحاب العقائد الأخرى، وإقصاء القوميات الأخرى أو أهل العقائد الأخرى من أماكن إقامتهم؛ 5: التدخل في النشاطات الثقافية والفنية، رفض وعرقلة الخدمات العامة للإذاعة والتليفزيون ومنتجاتهما؛ 6: تعميم مفاهيم الحلال والحرام وتوسيع نطاقها بعيدًا عن مجال الطعام الإسلامي، والتدخل في عادات وتقاليد الآخرين ونبذها بحجة الحرام؛ 7: ارتداء النقاب والملابس المميزة للتطرف إو إكراه الآخرين على ارتدائها؛ 8: إطلاق اللحية على نحو غير مألوف، واتخاذ الأسماء غير المعهودة لإضفاء صبغة دينية متعصبة؛ 9: إتمام زواج أو طلاق على الطريقة الدينية دون إتمام إجراءات قانونية؛ 10: عدم السماح للبنين والبنات بتلقي التعليم الوطني، وعرقـلـة تطبيـق النظـام التعليـمي للـدولة؛
11: إجبار الآخرين، بالتهديد أو بالإغراء، على رفض التمتع بسياسات الدولة، والإقدام عمدًا على إتلاف بطاقات الهوية الشخصية للمواطنين وسجلات إقامتهم ووثائق قانونية أخرى تقرها الدولة، وتخريب عملة الدولة الرسمية؛ 12: الإتلاف والتخريب العمدي للممتلكات العامة والخاصة؛ 13: نشر وطبع وتوزيع وبيع وصنع وتنزيل وتخزين ونسخ ومطالعة واقتباس المقالات والمواد المنشورة والمسموعة والمرئية ذات المحتوى المتطرف؛ 14: التدخل المتعمد لإعاقة تطبيق سياسة تنظيم النسل؛ 15: الأقوال والأفعال المتطرفة الأخرى
وأرجو من الأصدقاء القراء أولا أن يحكموا بأنفسهم هل هذه المظاهر هي مظاهر التطرف أم “تعبيرات التدين”؟ وأرجوهم ثانيا أن يقارنوا بين هذه الترجمة وبين “الترجمة” التي اعتمد عليها الأستاذ هويدي في مقالته، ولعلهم يجدون مثلي هذه الفروق الكبيرة بينهما
كل تعبير “تطرف” في النص الصيني (كما ورد في ترجمة الأستاذ محسن فرجاني) تحوّل إلى كلمة “ديني” في مقالة الأستاذ هويدي، فقارِنْ بين الترجمتين مثلا: “الدعوة إلى الفكر المتطرف”/ “الدعوة إلى الأنشطة الدينية”؛ “المواد المنشورة والمسموعة والمرئية ذات المحتوى المتطرف”/ “أقراص كمبيوتر أو فيديوهات تحوي مواد دينية”؛ .. وإلخ.
إضافة تعبيرات غير موجودة في النص الصيني، مثلا: “ارتداء النقاب والملابس المميزة للتطرف”/ “ارتداء الحجاب أو النقاب أو استخدام حلى الزينة ذات الصلة بالمعانى الدينية”؛ “إطلاق اللحية على نحو غير مألوف”/ “إطلاق الشارب واللحية للرجال”.. وإلخ
استبدال تعبيرات في النص الأصلي بتعبيرات أخرى مختلفة تماما في المعنى، مثلا: “إتمام زواج أو طلاق على الطريقة الدينية دون إتمام إجراءات قانونية”/ “إدخال الدين فى أمور الزواج والطلاق والجنازات والأحوال الشخصية”؛ “الإقدام عمدًا على إتلاف بطاقات الهوية الشخصية للمواطنين .. وتخريب عملة الدولة الرسمية”/ “الامتناع عن استخدام البطاقات الشخصية وعدم تداول اليوان الصينى”.. وإلخ
يتبين مما سبق أن “الترجمة” المعتمدة من قبل الأستاذ هويدي تتجاوز تماما حدود الاختلافات الطبيعية بين ترجمات مختلفة، بل تتجاوز تماما المساحة المقبولة للأخطاء الناتجة عن سوء الفهم أو ضعف المستوى اللغوي. ولا يمكن أن توصف إلا بـ “ترجمة مشوهة بشكل متعمد”. ولا أظن أن الأستاذ هويدي هو الذي تعمد استخدام هذه الترجمة المشوهة، لأن ميثاق شرف عمله الصحفي والكتابي يمنعه من ذلك بكل تأكيد. ولكن، أ لم يكن الأحرى به، وهو كاتب مؤثر في الجمهور العربي، أن يستشير مترجمين ومعلمين للغة الصينية — وعددهم ليس بالقليل في مصر— قبل نشر هذه النصوص الغريبة في مقالته؟ بل أ لم يكن الأحرى به ألا يطلق تصريحات غير موضوعية لتشويه صورة دولة صديقة لمصر وللعرب، وإساءة العلاقات الودية بين الطرفين، مكتفيا بمصادر “طلبتْ الاحتفاظ بالإسم” أو وسائل الإعلام الأجنبية مثل “راديو آسيا الحرة” الأمريكية ذات الأجندات المعروفة فيما يتعلق بالصين وتطوير العلاقات الصينية العربية؟
إذن، أصبح الأمر واضحا مما سبق: ليست سلطات شينجيانغ أو حكومة الصين هي التي تعتبر كل تدين تطرفا، بل إن الترجمة المشوهة والإشاعات المفتعلة هي التي جعلت من كل تطرف تدينا، وخلطت بين الحقائق والأكاذيب.
ويبقى لي أن أشير، إلى أن سياسات الصين وممارساتها المتعلقة بإقليم شينجيانغ تشوبها مشاكل كثيرة وتظل بعيدة عن الكمال. والمسألة شديدة التعقيد لأنها تجمع بين الأبعاد الدينية والعرقية والسياسية والاقتصادية، إضافة إلى التأثير السلبي من المحيط الجغرافي في ظل تنامي ظاهرة التطرف في العالمين العربي والإسلامي في العقود الأخيرة، وتدخّل بعض القوى الأجنبية التي ترى في مسالة الأقليات المسلمة “كعب أخيل” للعملاق الصيني. ويزيد الموضوع صعوبة أن الكوادر الصينية على مستويات مختلفة، تربّت في خلفيات ثقافية علمانية بحيث تعوزها المعلومات والقدرات والخبرات اللازمة للتعاطي مع القضايا الدينية. لذا، وعلى رغم أن الدولة الصينية تولي اهتماما كبيرا بتحقيق الوحدة بين القوميات، وتدعو إلى أن “تتعانق القوميات المختلفة بتماسك مثل حباّت الرمان” كما قال الرئيس الصيني شي جينبينغ، وعلى رغم أن الحكومة بذلت جهوداً للحفاظ على الخصائص الثقافية للمسلمين الويغوريين، في محاولتها لتحقيق التنمية الاقتصادية وإصلاح تلك الثقافة حتى تواكب تطور العصر، فإن وسائل تنفيذ السياسات تبدو فجة في بعض الأحيـان، وخاصـة علـى مستـوى القـاعـدة. وأقترح على المراقب الجدي لشؤون دولة كبيرة مثل الصين، ألا ينحصر نظره في أحداث عابرة واستثنائية، فضلا عن حكايات مفتعلة أو مشوهة، فيفوته إدراك المبادئ السياسية والإرادة القيادية واللوائح والقوانين التي ينبغي أن تكون موضع الاهتمام الأكبر، ويقع في خطأ معرفي مثلما وقع الأستاذ فهمي هويدي، بسبب أن “الشجرة تحجبه عن رؤية الغابة” كما يقول المثل الصيني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.