موقع متخصص بالشؤون الصينية

كيف نفهم النموذج الصيني اليوم؟

0

صحيفة الشعب اليومية أونلاين الصينية:

كيف نفهم النموذج الصيني اليوم؟

تقديم: في الوقت الذي تتزايد فيه أهمية الصين على المسرح العالمي وأهمية التجربة التنموية الصينية بالنسبة للدول النامية. لاتزال الجهود البحثية وخاصة النظرية في فهم التجربة الصينية غير كافية في الأوساط الأكاديمية، خاصة الأجنبية. ويمكن القول أن مفهوم “النموذج الصيني”، مازال شبْه مبهم حتى لدى الكثير من المتخصصين في الشأن الصيني. كما تبدو مقولة “الخصوصية الصينية” التي تتردد كثيرا في الأدبيات السياسية والنظرية الصينية، غامضة بالنسبة للكثيرين من المراقبين الأجانب، وربما لبعض الصينيين أيضا. فكيف يمكننا أن نفهم خصوصية النموذج الصيني عن باقي النماذج العالمية، وماذا تعني هذه الخصوصية؟ ولماذا تنشأ؟في المقال التالي، يقدم لنا المفكر والمؤرخ الصيني مامين، تفسيرا متعدد الأبعاد لملامح النموذج الصيني وخصوصيته. ويجبيب بمنهجية علمية رصينة عن الكثير من الأسئلة التي تطرح داخل الصين وخارجها حول النموذج الصيني. مالذي يجعله مختلفا أو مالذي يعطيه خصوصيته الحالية؟

مامين: مؤرخ ومفكر صيني، والمدير السابق لجامعة المعلمين بوسط الصين

ترجمة وتقديم: د. وليد عبدالله

صحيفة الشعب اليومية أونلاين الصينية

هل هناك مايميّز طريق التحديث في الصين عن مختلف تجارب التحديث في العالم؟ وهل حقا هنالك “نموذج صيني” أو “طريق صيني” أو “تجربة صينية” في التحديث لها خصوصيتها النظرية؟ بعد سلسلة من المنعرجات والعثرات، إستطاعت الصين أن تنهض مجددا، وتحقق قفزة إقتصادية كبيرة، وأن تلعب دورا متزايد الأهمية على الساحة العالمية. ورغم وجود مختلف المُشككين، لكن هذا لايمكن أن يحجب الحقيقة الموضوعية في أن الصين قد سلكت طريقا خاصّا ومُختلفا عن الجميع في مسيرة التحديث. وراكمت تجربة ذاتية في التحديث والتنمية، تمثّل إسهاما في نظريات التحديث. وهذا قد غدى شيئا فشيئا محل إجماع أغلب الباحثين والمفكرين.

التحديث والعصرنة: فرادة مسيرة التحديث في الصين

مالتحديث بالضبط؟ تَطرح مختلف النظريات والمدارس الفكرية تعريفات متباينة، لكن أغلب المفكرين يُجمعون على أن التحديث هو عملية تحول ضخمة، شاملة وعميقة يخضع لها المجتمع البشري. وإذا أردنا أن نؤرخ بعُجالة لمسيرة التحديث في الصين، نجد أن هذه المسيرة قد إنطلقت في عام 1860، في أواخر حقبة أسرة تشينغ المنشورية مع “حركة يانغ وو” (حركة التعلم من الغربوالإعتماد على الذات)، ثم مرّت بثورة تشينغهاي في عام 1911، وصولا إلى تأسيس الصين الجديدة وغيرها من الأحداث الكبرى. لكن هذه المسيرة لم تنته بعد. ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين كُبريين. مرحلة التحديث الرأسمالي 1860-1949: وهي مرحلة التحديث المُبكّرة، دامت قرابة الـتسعين عاما.ومرحلة التحديث الإشتراكي:إنطلقت في عام 1949 وتستمر إلى الآن، وتسمى عادة بـ “التحديثات الأربعة”، وقد قطعت إلى يومنا هذا 65 عاما.

 

رسم كاريكاتوري ساخر عن سياسة “الباب المفتوح” التي طرحتها أمريكا في عام 1899، لتقاسم المصالح التجارية بين الدول الغربية في الصين

(Open Door Policy)

أظهرت هاتين المرحلتين الزمنيتين حركة تاريخ ذات إتجاهيْن مختلفيْن تماما، لكن ظلت تجمعهما جينات تاريخية مشتركة، وشكّلتا تاريخا شاسعا ومتفردّا لمسيرة التحديث في الصين. يمكن القول أن مسيرة التحديث التي سبقت عام 1949، كانت مسيرة تحديث مؤجلة أومجهضة. فقد أُجبرت الصين بعد حرب الأفيون في عام 1840 على الدخول في منظومة الإقتصاد الرأسمالي، في إطار سياسة “الباب المفتوح” التي فرضتها القوى الغربية. وقد أحدث ذلك في الصين سلسلة من التغيّرات الجذْرية المتعاقبة، لخّصها كبير وزراء حكومة الإمبراطورية وأحد رواد “حركة يانغ وو” لي هونغ تشانغ، في قوله: “إنها تغيرات لم تشهدها الصين منذ آلاف السنين، وعدو لم ترَ الصين له مثيل”.

 

مصنع يعتمد التقنية الغربية في الإنتاج، بنته حركة “يانغ وو” في أواخر القرن الـ19، سعيا لإنهاض الصناعية الصينية

 

على مدى مايقرب من المئة عام، بدْءا من “حركة يانغوو” إلى “إصلاحات المئة يوم” (عام 1898 )؛ ومن إصلاحات أواخر أسرة تشينغ إلى ثورة تشينغهاي؛ ومن تأسيس جمهورية الصين إلى الثورة الوطنية. طرحت مختلف القوى السياسية المتعاقبة شتّى الأطروحات لإنقاذ الدولة من أزمتها. وعملت على تحقيق التحديث الرأسمالي في الصين، لصدّ العدوان الأجنبي وإثراء الدولة وبناء جيش قوي، وتأسيس دولة صناعية متطورة. لكن كل تلك الجهود بائت في النهاية بالفشل. حيث أخفقت الصين في التحول إلى دولة صناعية رأسمالية، وظلت إلى حدود عام 1949 دولة زراعية متخلفة،تعيش الفقر المُدقع.

عكَس إخفاق تجربة التحديث الأولى، بأن نموذج التحديث الرأسمالي الغربي غير ملائم للصين. وأن فرْضه قسْرا، لن يدفع إلا في اتجاه مزيد من التخبط داخل مستنقع “المجتمع النصف إستعماريالنصف إقطاعي” دون مخرج. أما حركة التحديث التي خاضتها الصين تحت النظام الإشتراكي بعد عام 1949، فقد مثلت مشهدا مغايرا. ورغم المصاعب التي مرّت بها في طريقها، غير أنها إستطاعت في النهاية أن تظفر بالنجاح، وتظهر حيوية قوية وروحا خلّاقة.

يمكن تقسيم هذه المرحلة إلى ثلاثة فترات.أولا، فترة التأسيس 1949-1966: والتي نجحت خلالها الصين في وضع أسس التصنيع بشكل أولي، من خلال الإقتداء بالنموذج السوفيتي للإقتصاد المخطط.ثانيا، فترة الركود 1966-1978: وهي عشرية الثورة الثقافية التي خلّفت أضرارا فادحة في مسيرة التحديث، ودفعت الإقتصاد القومي نحو حافة الإنهيار.ثالثا، فترة التحليق 1979 إلى الآن: وهي فترة الإصلاح والإنفتاح، التي شهدت فيها مسيرة التحديث الإشتراكي تطورا سريعا، وحققت نجاحات غير مسبوقة، وخلقت “معجزة ” النهوض الصيني. حيث تجاوزت الصين في عام 2009 ألمانيا لتصبح أكبر مُصدر عالمي؛ وتجاوزت اليابان في عام 2010، لتصبح ثاني إقتصاد عالمي؛ وبلغ متوسط الدخل الفردي للصيني 8260 دولار في عام 2016.حيث نجحت الصين بتعداد سكاني هائل في الإنتقال من مستوى الدول ضعيفة الدخل إلى دول الدخل مافوق المتوسط. وإستطاعت في النهاية، أن تؤسس “النموذج الصيني” و “الطريق الصيني” في التحديث.

الدولة والمجتمع: الدور المركزي للحكومة في عملية التحديث

تعتبر الدولة (التي تمثل قوة النظام) والمجتمع (الذي يمثل القوة المدنية) الرافعتان الرئيسيتان في عملية التحديث. والتفاعل السليم بينهما يُعدّ مفتاح نجاح تجارب التحديث في مختلف دول العالم. لكن بالنسبة لدولة مثل الصين، بما لديها من تاريخ طويل، ومساحة شاسعة وتعداد سكاني كبير، فإن نجاحها في عملية التحديث خلال وقت متأخر من تاريخ التحديث العالمي، يتطلب من الحكومة لعب دور أكثر أهمية، فهي دائما من كانت تمثل قوة الدفع والمحرك الرئيسي. وإذا قلنا بأن “السوق” في التنمية الإقتصادية الحالية يمثل “اليد الخفيّة”، فإن الحكومة بالدور الذي تعلبه في الخلفية على مستوى القرارات وتنفيذ المخططات،تمثل “اليد المرئية” الأخرى التي تدفع التنمية الإقتصادية. وسواءا في الصين أو في باقي دول شرق آسيا، فإن الحكومة لايمكن إلا أن تكون “اليد المرئية”. فهي تمثّل المفتاح الرئيسي لتجربة التحديث في مختلف دول شرق آسيا.

كانت نظريات التنمية في الماضي تُعطي أهمية أكبر لـ”المجتمع المدني” بصفته معبّرا عن السوق والإقتصاد الحرّ. في حين تُولي إهتماما ضعيفا بدور “نظام الدولة” و”قدرة إدارة الدولة” في مسيرة التحديث. وهذه إحدى معضلات نظريات التحديث الغربية في دراسة تاريخ التحديث في العالم.

أبرز أمراء الحرب الصينيين الذين تقاسموا الصين بعد إنهيار النظام الإمبراطوري

 

لقد وقفت عدة عوامل معقدة ومتداخلة وراء أفول الإمبراطورية الصينية في التاريخ الحديث، لكن غياب نظام حكم قوي ومعزز بأيديولوجية حديثة، كان أحد أهم هذه الأسباب. فمنذ حروب الأفيون (1840-1842) إلى مابعد ثورة تشينغهاي (1911)، ظلت الصين تعيش “أزمة الدولة” أو “أزمة السلطة”. حيث استقوت قبضة حكام الأقاليم شيئا فشيئا مع ترهل قوة السلطة المركزية. وحتى ثورة تشينغهاي وتأسيس جمهورية الصين (” دولة مينقووه” 1912-1949)، فقد كانتا مجرّد علامة على نهاية بيروقراطية السلطة المركزية للإمبراطورية، أكثر من الدلالة عن تأسيس نظام دولة عصري جديد. وفي حقيقة الأمر، كانت السلطة الحقيقية في جمهورية الصين في قبضة “النظام العسكري”، أما الحكومة المركزية الجديدة فلم تكن سوى واجهة شكْلية. ووراء يافطة “الجمهورية”، تمزقت البلاد كلّ ممزق بين “أمراء الحرب” وغرقت في إنقسام طويل الأمدْ. وأدى التردّي السياسي إلى عثرات متتابعة لمسيرة التحديث.ورغم أن الحزب الوطني قد حقق “وحدة عسكرية وسياسية” شكلية، لكن الصين لم تتوحد بشكل حقيقي. وظلّت موارد وجهود الحكومة المركزية تصْرف على الحروب الأهلية وحرب المقاومة، ولم يكن بوسع الدولة تنفيذ مشاريع إقتصادية كبيرة أو بناء البنية التحتية. وداخل هذه الدوّامة، تلاشت كل أحلام الصين في التحوّل إلى مجتمع صناعي.

 

الزعيم ماو، لحظة إعلانه عن تأسيس جمهورية الصين الشعبية في 1 أكتوبر 1949 بساحة تيان آنمان

 

 

مثّلت ولادة “الصين الجديدة” على يد الحزب الشيوعي الصيني في عام 1949، تغيرا جذريا في المشهد السياسي الصيني. حيث توحدت الدولة مرة أخرى على أسس جديدة. وتأسست حكومة مركزية مُستقرة، قوية وذات قدرة كبيرة على التعبئة. ومن ثمّ، تمكنت الصين منمعالجة مُعْضلتين رئيسيتين لإطلاق عنان التحديث الإقتصادي، هما: توحيد الدولة، وإستعادة السيادة القومية. كانت قدرة الدولة غير المسبوقة على إتخاذ السياسات المالية وجباية الضرائب، وهي إحدى أهم وظائف الدولة الحديثة، النتيجة المباشرة لوحدة الدولة وإستقلالية الأمة. مامهد الأسس الرئيسية لتأسيس منظومة صناعية حديثة وتحقيق عملية التصنيع. وبالمقارنة مع الحكومات الصينية السابقة له، كانت حكومة الحزب الشيوعي الصيني الأكثر قدرة على إحداث التعبئة الإقتصادية، حيث تميزت بقدرة فائقة على تجنيد كمّ هائل من القوى نحو إنجاز المشاريع الكُبرى، ونحو معالجة سلسلة من القضايا الشائكة على طريق إعادة البناء الإقتصادي.

 

أول مصنع صيني للسيارات في خمسينات القرن الـ20،بقاعدة التصنيع بشمال شرقي الصين

 

طبعا، هذا لايعني أن الدور المحوري للدولة في التنمية الإقتصادية غير محدود، أو أنّه كلّما كان أكبر كان الوضع أفضل. فتدخل الدولة عادة مايستهدف مناطق ضعف السوق، وعملية تفعيل دور الحكومة يجب أن تجد نقطة توازن بين الدولة والمجتمع، وبين السياسة والإقتصاد. وحينما يصل الإقتصاد إلى مرحلة متقدمة من مسيرة التطور، وتبدأ السوق في لعب الدور الرئيسي، يجب علىالحكومة أن تجري تعديلا ملائما على وظائفها، من خلال التفْريط في بعض وظائف الإدارة الإقتصادية إلى المجتمع، والتركيز على دور الموجّه العام للسياسات الكلّية، لضمان العمل الصحي للسوق الإقتصادية.

فنحن في حاجة إلى حكومة تمتلك قدرة قوية على التوجيه الإقتصادي والتسْيير، وفي ذات الوقت نحتاج إلى مجتمع مدني ممتلئ بالحيوية وروح المبادرة. كما نحتاج إلى توحيد قوى الحكومة وقوى المجتمع المدني إلى أقصى درجة ممكنة، لتحقيق أفضل مستوى من التكامل، وخلق علاقة تفاعلية صحية بين سلطة الدولة والقوى المدنية.

نقصد بهذه العلاقة التفاعلية الصحية، تقسيم العمل والتكامل بين الدولة والمجتمع، ففي الوقت الذي تضطلع فيه الحكومة بالتوجيه الكلّي والإدارة، يُفعّل المجتمع حيويتة وقدراته الخلاقة. ومن ثمّ، يتم تعديل التدخل والتحكم الشاملين لسلطة الدولة على الأنشطة الإجتماعية. من جهة أخرى، يساعد هذا التفاعل الصحّي بين الدولة والمجتمع، على خلق فضاء وسيط بين الدولة من جهة، والفرد والعائلة والمؤسسة من جهة أخرى. وهذا مايمكن أن نسمّيه بـ “النموذج الصيني للمجتمع المدني”. وهذا النموذج يجد جذوره في إقتصاد السوق الإشتراكي الصيني، مايجعله مختلفا عن مفهوم المجتمع المدني الغربي(civil society). فالمجتمع المدني في الصين إلى جانب تمتعه بإستقلاليته النسبية، يحافظ أيضا على علاقات وتواصل لصيق مع الحكومة، فالعلاقة بين الجانبين هنا، ليست علاقة صراع، وإنما علاقة تعاون.

الأصالة والمعاصرة: “الإستخدام الحيّ” للتراث في عملية التحديث

مثلما تخبرنا المزيد من التجارب التاريخية بإستمرار، بأن حلقات التاريخ لايمكن فصلها عن بعض. فإن الأصالة والمعاصرة (التراث والحداثة) أيضا لايمكن أن تنشأ بينهما حدودا قطْعية. فدائما ماتكون هناك علاقة توالُد وتبعية وترابط بين هذه المفاهيم. والتأكيد على رفض التحديث (الحداثة) للمفاهيم التقليدية والتراث، لايعني أن التحديث بإمكانه التطور بشكل مُنسلخ عن التراث. وسواء إعترفنا أم أنكرنا، فإن التراث تبقى لديه القدرة على الكبح والتأثير في الثقافة المعاصرة. فالثقافة المعاصرة لأي أمة، لايمكن أن تولد إلا من داخل رحم تراث الأمة نفسها، ومن المستحيل أن تنمو في الفراغ ودون جذور. وفي بعض الأحيان، حتى أحدث المفاهيم العصرية لامفرّ لها من الإستلهام من التراث، وهذا دليل على أن الثقافة تمتلك روحا وراثية “أزلية”. لذلك، فإن تحديث الثقافة، لايعبر عن الإنكار الشامل للتراث، بل يعني إلى حدّ كبير عملية تحويل و”إستخدام حيّ” للتراث، وولادة جديدة للتراث داخل المُعاصرة.

 

 

 

إن مايسمى بـ “الإستخدام الحيّ” للتراث، يعني أولا عملية الإستكشاف والبحث عن “الثوابت” التي صمدت منذ مئات وحتى آلاف السنين، ومازالت تمثل “تراثا حيّا” في التاريخ والقيم المعاصرة. ثم تفسير، لماذا لاتزال “حيّة”؟ ثانيا، يجب فرز وإستخراج العناصر المنطقية داخل التراث القديم الذي ينظر إليه على أنه متخلفا وتجاوزه الزمن، وجعْل هذه العناصر تخْدم المعاصرة بشكل أو بآخر. وبالنظر من هذيْن البعديْن، نجد أن التراث الصيني (الثقافة التقليدية الصينية)الذي عاش منذ آلاف السنين يمثل “مغارة كنوز” للثروة التاريخية. يمكن أن نستكشف منها موارد فكرية لاحدود لها لخدمة قضايا التحديث. وهنا، ينبّه عدّة مفكّرين إلى “عدم النظر إلى التراث والحياة العصرية على أنهما طرفان يقفان على حدّي التناقض”. لذا، وجب العمل على إستكشاف العناصر الحيّة داخل المنظومة القيمية للتراث الصيني، ومحّصت لزمن طويل وأثبتت جدارتها. وتمكينها من التأقلم مع الحياة العصرية، وخدمة تطور الحضارة الراهنة. فالتاريخ حلقات مترابطة، واليوم هو إمتداد للأمس.

لماذا إتبعت مسيرة التحديث في الصين طريقا خاصا ومختلفا عن الجميع؟ لماذا ظهر النموذج الصيني من التحديث بوجهه الحالي؟ علينا أن نعود إلى “الماضي”، إلى “التاريخ”، علينا العودة إلى تلك “العناصر التاريخية” التي أثّرت ومازالت تؤثر في مسيرة التحديث الصينية. وتحديدا، العودة إلى “المفصل” الذي يربط المعاصرة بالتراث، فقط حينها سنجد الإجابة الدقيقة عن سؤال تشكُل طريق التحديث الصيني.

هنا يمكن التمعّن في بعض النقاط والخصائص، التي ميّزت النموذج الصيني. أولا، تقاليد السوق وإقتصاد السوق الحالي: ماهو منْبع “تيار المياه الحية” لإقتصاد السوق الصيني؟ لقد بدأت تجربة الإصلاح والإنفتاح من خلال تغيير “سكّة التنمية” من الإقتصاد المخطط إلى إقتصاد السوق، ولاشك في أن حركية إقتصاد السوق هي إحدى العوامل الرئيسية التي أسهمت في التطور السريع للإقتصاد الصيني. وقد ظهر إقتصاد السوق الحديث في الصين من اللاشيء، ثم تطور من دوره الثانوي والتكميلي نحو “الدور الحاسم “. وهنا علينا أن نسأل، كيف حقق إقتصاد السوق هذا النجاح السريع في الصين؟ ولماذا حظي بقَبول سريع من الجماهير العريضة للشعب الصيني؟ حينما نتتبع هذه الخيوط، قد نكتشف بأن ذلك غير منفصل عن تقاليد السوق في حقبتي مينغ وتشينغ، أو حتى في حقب أبْكر من ذلك.

لقد عرفت أقاليم جنوب نهر اليانغتسي ومناطق جنوب التلال الخمسة في عهد أسرتي مينغ وتشينغ تطور سوق السلع، بل يمكن القول أنها شهدت ظاهرة “التصنيع المبكر” في نفس الفترة مع أوروبا. لذا، ما إن تم رفع القيود، وتشجيع السوق على النمو، حتى بدأت هذه البذور التي قبعت طويلا تحت التربة تخرج من سباتها وتُنبت البراعم، ثم سرعان ماتحولت إلى ربيع مزْهر. ثانيا، العلاقة بين المركز والأطراف: التفاعل الإيجابي. منذ بدء سياسة الإصلاح والإنفتاح، تشكل نظام مركب يعتمد بشكل أساسي على السلطة المركزية، وبشكل ثانوي على مشاركة الحكومات المحلية للسلطة. ومثّل التفاعل الإيجابي بين السلطة المركزية والحكومات المحلّية عاملا مهمّا في دفع التنمية الإقتصادية. هذا “التفاعل الإيجابي” إلى جانب أنه واحد من منابع قوّة وسر التنمية الإقتصادية السريعة في الصين، يعدّ أيضا أيضا “تقليدا تاريخيا” متأصلا في الحضارة الصينية.

دنغ شياوبينغ أثناء جولته في جنوب الصين في عام 1992، إحدى أهم المحطّات في مسيرة سياسة الإصلاح والإنفتاح وتطور تجربة إقتصاد السوق الإشتراكي في الصين

 

طبيعة العلاقة بين الحكومة والمجتمع المدني في النموذج الصيني

هناك إختلاف بين النموذج الصيني للمجتمع المدني وبين مفهوم المجتمع المدني عند الغرب. فالمجتمع المدني الصيني كما ذكرنا سابقا، كان دائما يتمتع بإستقلالية نسبية، لكن في ذات الوقت يحافظ على تواصل وطيد مع الحكومة. وطبيعة العلاقة بين الجانبين هي علاقة تعاون وليس علاقة صراع. وهذا غير منفصل عن تقاليد العلاقة بين الدولة والمجتمع، والحاكم والمحكوم في التاريخ الصيني. وطريقة تشكل المجتمع المدني في الصين في العصر الحديث، كانت مختلفة كثيرا عن طبيعة المجتمع المدني في أوروبا، فالمنطلق لم يكن الصراع مع سلطة الأنظمة الإستبدادية، بل تنسيق العلاقة بين الجانب المدني والجانب الرسمي. وإعتماد الإدارة المدنية كمساعد للإدارة الرسمية، وتوظيفها في تدارك نقائص الإدارة الرسمية. حكم القانون هو السياسة الرئيسية للصين في إدارة الدولة، لكنه ليس الوسيلة الوحيدة، ففي النهاية يبقى القانون شيئ غير كامل. لذا فإن الأخلاق والتقاليد التي دأبت عليها الحضارة الصينية يمكن أن تجد لها مكانا في عصرنا الحالي. ففي دولة كبيرة تتمتع بتاريخ طويل وحضارة عريقة مثل الصين، يبقى التاريخ ملْهما للحاضر في إدارة الدولة.

إن “الطريق الصينية” و “النموذج الصيني”، يمثلان إلى حدّ كبير نتيجة حتمية لتطور التاريخ الصيني الحديث، وجذورهما الأولى تعود في النهاية إلى التاريخ والثقافة التقليدية الصينية المختلفتين عن الغرب.وإلى جانب دور حكمة وشجاعة الصينيين المعاصرين في إنجاز كل تلك “المعجزات” والإبتكارات التي حققتها الصين، فإن فهْم هذه الظاهرة بصفة أعمق يستدعي العودة إلى عمق الحضارة الصينية، لمعرفة “الثابت” و”العوامل التاريخية” الكامنة في خلفية هذا النجاح.

نحن دائما مانتحدث عن “الثقات الأربعة”: “الثقة في الطريق”، “الثقة في النظرية”، “الثقة في النظام” و”الثقة في الثقافة”. وهنا تعد الثقة في الطريق هي الجوهر، والثقة في الثقافة هي الأساس. وسواء تعلق الأمر بـ “الثقة في الطريق”أو “الثقة في النظرية” أو “الثقة في النظام” أو”الثقة في الثقافة”، فإن أصل الثقة ينبع من المقارنة التاريخية. حيث أن الثقة في النفس هي نتاج لـ 5000 سنة من التوارث الحضاري وخلاصة لـ 170 سنة من المقارنة والمحاولات والتمحيص للطريق الأنسب الذي يقود الصين إلى التّطور.

أثناء مسيرة السعي من أجل التحديث، كان أمام الصين عدّة خيارات، كما خاضت عدّة تجارب. لكن في النهاية، أثبت التاريخ أن طريق الإشتراكية الصينية هو الطريق الأصْوب، وأن الإصلاح والإنفتاح هو الخيار الأفضل. وقد أثبت نجاح الصين بأن النموذج الغربي ليس الطريق الوحيد المؤدي نحو التحديث، وأنه ليس النموذج الوحيد في العالم.

لاشك أن الصين مازالت في حاجة لتعلّم الكثير من الغرب، لكن الصين لايمكنها تقليد النموذج الغربي، أو النموذج السوفيتي أو الياباني، فالصين مطالبة بأن تستكشف بشكْل خلاق نموذجها الخاص. ورغم أن النموذج الصيني مازال يشكونالكثير من النقائص في الوقت الحالي، لكن عملية إصلاحه وتحسينه وإنضاجه يجب أن تنْبع من الممارسة الذاتيّة، ولايمكن إستبداله بنموذج أجنبي آخر. فطريق التحديث ونموذج تطوْر كل دولة، يجب أن ينطلق من تاريخ وثقافة وواقع الدولة نفسها ذاتها. فالواقع المحلّي والواقع العالمي هما العاملان المحدّدان لملامح النموذج الصيني، كما يمثلان أهمّ إعتباران في إختيار طريق التحديث.

نشر هذا المقال في العدد التاسع من مجلة “العلوم الإجتماعية الصينية” لعام 2016.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.