حتى لا تكون الصين ذلك المجهول(*)
موقع الصين بعيون عربية ـ
د. أحمد ملّي*:
بين الصين وعالمنا العربي علاقات قديمة تمتد عميقاً في التاريخ، وهي علاقات ذات جوانب متعددة منها: الاقتصادية والتجارية والاجتماعية والدينية والثقافية. وتتميز هذه العلاقات بأنها لم تحكمها هيمنة أو تسلط من طرف على حساب طرف آخر، وليس لها خلفيات تاريخية سلبية كما أنها لم تشهد تصادماً أو نزاعاً بين الجانبين .
وأبعد من ذلك، تنتمي الثقافتان العربية والصينية إلى منظومة الثقافات الشرقية، وإلى هذا المعنى يشير المستشرق الصيني الشهير (جي ثيانج لين) في رؤيته إلى تقسيم العالم من حيث أبعاده الثقافية إلى أربع ثقافات: (الصينية، الهندية، العربية والاسلامية، الأوروبية والأمريكية). وفي إطار هذا التصنيف وضع المستشرق الصيني الثقافة الأوروبية والأمريكية تحت مسمى الثقافة الغربية بينما جمع الثقافات الثلاثة الأخرى تحت مسمى الثقافة الشرقية، وأشار إلى أن التفاعل داخل الثقافة الشرقية ذاتها يرجع إلى عصور بعيدة، وأن هذا التفاعل كان واضحاً وملموساً على وجه التحديد بين الثقافة الصينية والثقافة العربية والإسلامية .
وقد ربط طريق الحرير القديم الذي يعود إلى ما قبل 2100 سنة بين الصين والعالمين العربي والاسلامي، ومنذ أواسط القرن السابع الميلادي دخل الإسلام إلى الصين عن طريق القوافل التجارية بين غرب آسيا والصين، وفي الحاضر وبعد التحولات التي شهدتها الصين في حقباتها المختلفة: الجمهورية والشيوعية، والمكانة الي باتت تحتلها على المستوى الدولي، وأدَت إلى تثبيت نفوذها الاقتصادي تدريجياً في العديد من بقاع العالم، ومع المبادرة التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ في العام 2013 خلال زيارته إلى كازاخستان والتي عرفت باسم “حزام واحد وطريق واحد”، وبحسب هذه المبادرة فإن أجزاءً واسعة من العالم العربي ستكون ضمن الممرات والمحطات التي وضعتها القيادة الصينية في هذا المشروع العملاق وإذا ما أضفنا تركيا وإيران إلى هذه الأجزاء، فإن لهذا الاقليم الذي يعرف بـ “الشرق الأوسط” أهمية خاصة، لكونه أحد مصادر الطاقة بالنسبة الى الصين، وواحداً من الأسواق الاستهلاكية والاستثمارات لها، بالاضافة إلى موقعه الاستراتيجي كجسر على طريق المبادرة، يوصلها إلى منتهاها، إلى أوروبا.
وهنا يثار السؤال: هذا الحضور للصين في وعينا، سواء على مستوى السياسة أو الاقتصاد، هل يقابله حضور في وعينا على مستوى الثقافة والادب والاعلام؟
علينا أن نعترف بأنه لا مجال للمقارنة، وأن العلاقات الثقافية بين العرب والصين ليست على المستوى المطلوب، فالصين حضارة يمتد تاريخها إلى أكثر من 5 آلاف سنة، قبل أن تكون دولة ذات مصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية .
تزداد حاجتنا للإحاطة بالثقافة الصينية، لأنها ثقافة فريدة ومغايرة عن الثقافات الأجنبية، خاصة ذات النسق الغربي. بالتأكيد سبقنا الغربيون في التعرف على ملامح الثقافة الصينية، ففي كل من أمريكا الشمالية وأوروبا وحتى أوستراليا افتتحت أقسام للدراسات الصينية في الجامعات الغربية المختلفة، وأنشئت مراكز أبحاث وبرامج دراسية حول الصين، في الوقت الذي تخلو فيه جامعاتنا ومراكز الأبحاث العربية من أقسام وبرامج مشابهة لتلك التي جرى تأسيسها في الغرب .
ما السبيل إلى ردم الهوّة المعرفية والثقافية بين الصين والعرب؟ ثم ما هي العوائق التي تمنع الطرف العربي من القيام بما هو مطلوب منه لتعزيز العلاقات الثقافية مع الشركاء الصينيين الذين لا بد من الاعتراف بأنهم ومنذ سنوات اتخذوا مبادرات لتشييد الجسور مع العرب، لا سيما الجسور الثقافية والفكرية ..
يتعيّن على الطرف العربي المبادرة لملاقاة الشريك الصيني، بهدف تطوير التبادل الثقافي بينهما والتركيز على وسائل متعددة لعل أبرزها: البرامج الأكاديمية والوسائل الاعلامية .
أ- البرامج الأكاديمية :
من شأن هذا النوع من البرامج أن يوفر لنا فهماً عميقاً للجوانب المختلفة في المجتمع الصيني ويسلط الضوء على عمق التحولات التي يشهدها هذا المجتمع في أبعاده الداخلية والاقليمية والدولية، بما يسمح بإقامة علاقات عربية – صينية صلبة قائمة على التعاون الحضاري .
من هنا كانت المبادرة الواعدة التي أطلقها مركز الدراسات اللبنانية القانونية والسياسية والإدارية التابع لكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، والتي تقضي بإنشاء “ماستر” بحثي متخصص بالدراسات الصينية.. ليس من المبالغة القول بأنه سيكون الأول من نوعه في العالم العربي. ومن خلال هذا البرنامج ستتم دعوة أساتذة جامعيين من الصين والبلدان الأخرى للمشاركة الفاعلة في هذا البرنامج الدراسي، مما يجعل لبنان مركزاً اقليمياً للدراسات الصينية، على حد تعبير زملائنا الصينيين .
ب- الوسائل الاعلامية
لا يخفى على أحد الدور الذي يلعبه الاعلام في عصرنا، ويحضرني في هذا المجال بما يختص بالصين، الدور الذي باتت تلعبه النشرة الكترونية ” الصين بعيون عربية” والتي أطلقها الصديق محمود ريا، المثقف الملتزم وصاحب الهمّة العالية والخبرة الاعلامية الواسعة. هذا المشروع الرائد والذي نجح الأستاذ محمود بصبره ومثابرته وببعد بصيرته أن يحجز له موقعاً مميزاً لا غنى عنه للباحثين والإعلاميين والدبلوماسيين الذين يتطلعون إلى تشييد علاقة حقيقية بين العرب والصين، قائمة على الاحترام المتبادل، خدمة لأهداف الشعبين، وتحقيقاً لأمل إقامة السلام للانسانية جمعاء ..
مبروك لـ “الصين بعيون عربية” إصدارها المئوي الأول، والتحية والتقدير إلى مؤسسها الصديق محمود ريا، والتمنيات بمزيد من التقدم والنجاح ..
* رئيس مركز الدراسات اللبنانية القانونية والسياسية والإدارية – الجامعة اللبنانية ..
(*) العنوان اقتباس من كتاب: “الإنسان ذلك المجهول” للفيلسوف الفرنسي أليكسيس كاريل)