موقع متخصص بالشؤون الصينية

التراث المعماري الديني في الصين

0

 

 

موقع الصين بعيون عربية ـ
ربى حَجَّارة*:

 

لا بد لأي شخص عادي مطلع على التاريخ الممتد في الصين لآلاف السنين، أن يرى تنوّعاً مهولاً في الطابع المعماري الهندسي للبناء الصيني القديم والحديث على حدَّ سواء، فكيف بشخصٍ ذي ذائقة هندسية بحتة!، لا محالة أنه عندما يُطيل البحث والتمحيص سيرى أنه يقف على كنزٍ حقيقي من التحف المعمارية المختلفة، والتي تجسّد معالم تاريخ الإنسان في بلدٍ واحد عرف التنوع الديني والاجتماعي والفكري كما لم يعرفه أحد. فقد ساهمت العقائد الدينية في أوجها برسم الملامح المعمارية للبناء الصيني واحداً تلو الآخر، فكانت المدرسة الطاوية (بمعنى الطريق) في بداياتها نقطة انطلاقٍ حقيقية للتميز الصيني في تشييد الحدائق الصينية، ومثاله القصر الصيفي في بكين، والمقام حول بحيرة كونغمينغ، موفراً بيئة خصبة لإثراء العين بالجمال الخلاب والروح بالطمأنينة والهدوء.

الطاوية في الفكر تقوم على مفهوم (الطاو)، أي الطريق، ويقصد به هنا الاندماج مع إيقاعات الكون العفويّة. وقد أسسها الفيلسوفان لاو تسي و تشوانغ تسي حول القرن الخامس قبل الميلاد. وقد تطورت الفلسفة الطاوية لاحقاً إلى نظام عقيدة ديني. وكان السعي إلى الخلود في بؤرة اهتمام الطاوية في فترة التطور الأولي للحدائق الصينية. وتأسيساً على أسطورة الجبال الثلاثة المقدّسة للبحر الشرقي في العقيدة الطاوية، صممت العديد من الحدائق لتشتمل على ثلاث جزر داخل هيكل من الماء. وكان هذا التصميم يُعرف بأنه “مياه واحدة وثلاثة جبال”. وعلى سبيل المثال، فإن القصر الصيفي في بكين مبني حول بحيرة كونغمينغ وجزرها الثلاث، وترتفع ثلاث مقصورات تمثل جُزر مياه حديقة تشوتشن في سوتشو. هذه الحدائق والمتنزهات العامة كان المقصود منها ليس فقط أن توفر محيطات مادية جميلة وإنما أيضاً أن توفر بيئة روحية للسعي إلى التنوير.

أما البوذية فقد وجدت طريقها إلى الصين إبَّان القرن الأول الميلادي، وأخذت بالتمدّد مع مساحة البلاد حتى بعد قرون قليلة كجزء مهم من الحياة. وقد أثرت لمسات هذا الوافد الجديد على شكل المعمار شيئاً فشيئاً . فمعابد الكهوف البوذية، مثلاً، كانت تمثل أحد الأشكال التي شاعت في الصين بشكل سريع، فقد تسببت الحروب المستمرة على مدى ثلاثة قرون بين القرن الثالث والخامس الميلادي إلى نزوح الكثير من الناس وبشكل لافت إلى أماكن كثيرة، مما أدى إلى إقامة الكثير من الكهوف البوذية.

 

ومن الأنماط المعمارية التي ظهرت مع تجذّر البوذية في الأراضي الصينية (الباغودا)، وهو مبنى ديني تمارس فيه طقوس الديانة البوذية، ويُستخدم بالإضافة إلى ذلك مكاناً لحفظ الأيقونات والمنحوتات المقدسة، ليصبح فيما بعد مبنى يعبر عن المعاني الروحية السامية لأصحاب العقيدة البوذية. ولعل أكثر ما يميز شكل الباغودا هو الامتداد العمودي ذي الطوابق والطبقات الكثيرة في البناء، والتناظر على المحاور الثلاث: الطولي والعرضي والعمودي، لتلتقي جميع تلك المحاور في نقطة وعاء التماثيل المقدسة. وقد استعمل في البناء مواد متوفرة في البيئة، فكان الخشب هو المكون الأساسي، ليدخل بعد ذلك استخدام القرميد والحجارة مع مرور الزمن. ومن الجدير بالذكر أن الباغودات كانت تقام في معظمها على القمم الجبلية الشاهقة، وأخذت مع تتابع الأزمنة تفقد من قيمتها الروحية شيئاً فشيئاً ليتركز الاهتمام حول القيم الفنية والزخرفات المعمارية.

 

مع دخول الإسلام إلى الصين في القرن السابع الميلادي، بدأ الطابع المعماري الإسلامي يجد طريقه في الشرق، ويتجلى ذلك في المساجد، حيث تعتبر المساجد من أهم بصمات الفن المعماري الإسلامي في الصين. ولعل مسجد (تشينغ تشين سي) – أي الصفاء والحق – والمشيد في زمن أسرة تانغ من المعالم الدالة على ذلك، من خلال التركيزعلى المداخل الحجرية الضخمة، والصحن المربع والأروقة، والقباب المرتفعة. كما يبرز مسجد (هواجيويشيانغ) الذي تم بناؤه عام 742 كمثال آخر على الطابع المعماري الإسلامي في الصين، وهو في مجمله مجمع من الأبنية صممت على الطراز الإمبراطوري الرسمي مع وجود رسومات إسلامية متعددة في قاعات المسجد مميزة للفن الديني الوافد.

وهكذا يبدو واضحاً مدى تأثير الفكر الديني على الطابع المعماري قديماً، إذ شكَّل التنوع في الطقوس والشعائر والعبادات غنىً للصين، وأثر بشكل مباشر على تشكيل الحيز البنائي في أرجائها. لقد جعل هذا التناغم الديني المتمدد شرقاً وغرباً، جعل الصين أشبه بلوحة فسيفسائية غاية في الروعة، جذورها ضاربة في التاريخ الإنساني القديم، ومثالاً صارخاً على التعايش المشترك وقدرة الأفكار الدينية المتنوعة بأن تجد في الأرض مساحة ً من السلام والطمأنينة في عالم صاخب بالحروب والدمار.

* #ربى_حَجَّارة: جامعية، وعضو في الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء #الصين – الأردن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.