موقع متخصص بالشؤون الصينية

تمويل الصين لإنقاذ أوروبا

0


موقع قناة الجزيرة الالكتروني:
بعد الحرب العالمية الثانية في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، وجدت أوروبا من يُخرجها من عثرتها المالية والاقتصادية عبر الحليف الأميركي، من خلال مشروع مارشال الذي وفر التمويل اللازم للنهوض الاقتصادي والتنموي للدول الأوروبية، لكن مع بداية العقد الثاني في الألفية الثالثة فإن كلا من أميركا وأوروبا بحاجة إلى من يمدّ لهما يد المساعدة للخروج من أزمتهما المالية والاقتصادية التي تتفاقم آثارها يومًا بعد يوم.

وكان التصرف الأميركي تجاه أوروبا في منتصف القرن العشرين له مبرراته الحضارية، حيث إن أميركا هي مجرد امتداد حضاري لأوروبا، ويجمعهما مشروع سياسي وتوجه اقتصادي واحد، بينما هذه المرة في عام 2011 فإن الوسيط المطروح لتستعين به أوروبا للخروج من أزمتها المالية مختلف بالكلية، حيث من يمتلك مفاتيح التمويل هذه المرة دولة شرقية خارج النطاق الحضاري الأوروبي، وهي الصين، التي لها طموحاتها الاقتصادية المعلنة ودورها المتصاعد على الصعيد الاقتصادي العالمي، كما أن لها مشروعها السياسي بلا شك وإن كانت تطرح نفسها في كل مرة على أنها مجرد دولة نامية.

وقد توجهت أنظار الأوروبيين تجاه الاحتياطي النقدي للصين كمخرج لأزمتها، حيث وصل هذا الاحتياطي في يونيو 2011 لنحو 3.1 تريليونات دولار.

لكن هل ستُقبل الصين على هذه الخطوة لتقيل أوروبا من كبوتها المالية والاقتصادية؟ وما الثمن الاقتصادي الذي ستحصل عليه الصين إذا ما سلكت هذا الطريق؟

التحليل التالي يحاول الإجابة على هذه الأسئلة.

طبيعة العلاقات الاقتصادية الصينية الأوروبية

ثمة مؤشران مهمان يُستدل بهما على طبيعة العلاقات الاقتصادية، وهما حجم التبادل التجاري وكذلك الاستثمارات المتبادلة.

وتشير بيانات المفوضية الأوروبية للتجارة إلى أن حجم التبادل التجاري السلعي بين الجانبين بلغ في نهاية عام 2010 نحو 395 مليار يورو، أسفر عن فائض تجاري لصالح الصين قدر بنحو 168.8 مليار يورو، إذ بلغت الصادرات الصينية للاتحاد الأوروبي في العام نفسه 281.9 مليار يورو، بينما بلغت وارداتها من الاتحاد الأوروبي 113.1 مليار يورو.

كما أتت بيانات التجارة في الخدمات للعام نفسه لصالح الاتحاد الأوروبي، إذ بلغت الصادرات الخدمية من الاتحاد الأوروبي للصين 20.2 مليار يورو، وبلغت وارداته الخدمية من الصين 16.3 مليار يورو.

لكن لا يعوض هذا الفائض الضئيل في تجارة الخدمات لصالح الاتحاد الأوروبي عجزه الكبير تجاه الصين في مجال التجارة السلعية. أما على صعيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة لعام 2010 أيضًا، فنجد أن تدفقات الاستثمارات الأوروبية للصين بلغت 4.9 مليارات يورو بينما الاستثمارات الصينية المتجهة لأوروبا تصل إلى 0.9 مليار يورو، وهو ما يعني أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لصالح الصين.

ولا تعد العلاقات الاقتصادية بين الطرفين خالية من منغصات في ظل التفوق الصيني، إذ تبرُز قضايا الحماية التجارية من قبل أوروبا تجاه السلع الصينية، وكذلك مطالبة أوروبا للصين برفع قيمة عملتها الوطنية للحد من واردات أوروبا من السلع الصينية، كما أن الاتحاد الأوروبي يفرض حظرًا على تصدير السلاح للصين.

الاحتياطيات الصينية من النقد الأجنبي

وفق الأرقام التي تتيحها قاعدة بيانات البنك الدولي، فإن الصين لديها الرصيد الأكبر في العالم من احتياطيات النقد الأجنبي، إذ بلغ نحو 3.1 تريليونات دولار أميركي في يونيو/حزيران 2011.

صين هذه المرتبة بعد نحو عقدين من الزمن. ففي عام 1990 لم يكن لدى الصين من احتياطيات النقد الأجنبي سوى 37 مليار دولار فقط، وارتفعت هذه الاحتياطيات بعد عشر سنوات إلى نحو 171 مليار دولار بحلول عام 2000، إلا أن عام 2006 هو الذي تخطت فيه الصين حاجز التريليون دولار لتحقق احتياطيًا بلغ 1.08 تريليون دولار.

وبنهاية عام 2010 وصل هذا الاحتياطي إلى 2.91 تريليون دولار. ويعود الفضل في تكوين هذا الاحتياطي إلى زيادة حصة الصين في الصادرات العالمية، وكذلك استحواذها على النصيب الأكبر من بين الدول النامية على مستوى العالم من الاستثمار الأجنبي المباشر.

تطور احتياطيات الصين من النقد الأجنبي

القيمة بالتريليون دولار

السنة  1990   2000   2001   2002   2003   2004   2005

المبلغ  0.34   0.171   0.220  0.297  0.416  0.622

السنة  2006   2007   2008   2009   2010   يونيو 2011

المبلغ 0.831   1.08    1.54    1.96    2.45  2.91    3.1

المصدر: قاعدة بيانات البنك الدولي http://data.albankaldawli.org/indicator/FI.RES.TOTL.CD

المطالبات الأوروبية بدور للصين في حل الأزمة
أكد المسؤولون الصينيون أكثر من مرة ضرورة تحرك الصين لضخ أموالها في صندوق الإنقاذ الأوروبي ليصل رصيده إلى تريليون دولار بدلا من نحو 440 مليارا فقط حتى الآن، حتى يتمكن الصندوق من شراء أكبر كمية ممكنة من السندات الحكومية للدول الأوروبية، أو أن تقوم الصين بضخ استثمارات مباشرة في الاقتصاد الأوروبي للخروج من حالة الركود وتحسين معدلات النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة في ظل ارتفاع معدلات البطالة بأوروبا.

ويبرر الرئيس الفرنسي ساركوزي خطوة اللجوء إلى الصين لحل الأزمة الأوروبية بالخطوة التي اتخذتها الصين بتنوع سلتها من العملات ليشكل اليورو جزءا منها بجوار الدولار الأميركي، وهي الخطوة التي تعكس قبول الصين للمشاركة في المخاطرة حول مستقبل اليورو.

وقد شهد عام 2011 زيارات متعددة لمسؤولين أوروبيين إلى الصين، إلا أنهم يعلنون أن زيارتهم بهدف التشاور فقط وليس بغرض المباحثات أو طلب المساعدة المباشرة من الصين للتدخل بالتمويل لحل الأزمة الأوروبية.

وجهة نظر الصين

لم تعلن الصين صراحة قبول الدور المنتظر منها بضخ أكبر كمية ممكنة من الدولارات لإنقاذ الاقتصاد الأوروبي، غير أنها عادة ما تشير إلى رغبتها في أن تصل أوروبا إلى حل أزمتها ذاتيًا بعيدًا عن المساعدات الخارجية، أو أن تُقدم الصين النصح للدول الأوروبية بالعمل على خفض ديونها الحكومية من خلال سياسات نقدية مناسبة.

وفي مواضع أخرى يصرح المسؤولون الصينيون بأنهم على استعداد لتقديم بعض المساعدات للدول المدينة، لكن بشكل فردي، كما صرح رئيس الصين أثناء زيارته للبرتغال. وفي موقف آخر عرضت الصين أنها تقبل أن تساهم بمبلغ لا يزيد على 100 مليار دولار لشراء سندات أوروبية، لكن هذا المبلغ لا يسمن ولا يغني من جوع بالنسبة لأوروبا التي تحتاج تريليونات من الدولارات.

ويثير الموقف الصيني حالة من الغموض تجاه تصرفها إزاء تقديم التمويل اللازم لأوروبا، فلا هو موقف رافض ولا مؤيد، وهو ما يجعل المراقب يضع سيناريوهات عدة ولا يستطيع أن يجزم بنتيجة محددة.

الفرص والتحديات أمام القرار الصيني

ثمة مجموعة من الفرص على الصعيد الاقتصادي أمام الصين للقبول بالدخول لإنقاذ الدول الأوروبية من أزمتها، فضلا عن الفرص السياسية التي لن تفوتها الصين حال إقرارها تقديم التمويل لأوروبا. وعلى رأس الفرص الاقتصادية أن يُقر الاتحاد الأوروبي بمنح الصين صفة اقتصاد سوق في الوقت الحالي، إذ تنتظر الصين منح هذه الصفة من منظمة التجارة العالمية في عام 2016، وكذلك إزالة الإجراءات الحمائية التي تفرضها دول الاتحاد الأوروبي على الصادرات الصينية، وبخاصة الكف عن رفع قضايا إغراق ضد المنتجات الصينية، وكذلك توقف الاتحاد الأوروبي عن مطالبة الصين برفع قيمة عملتها الوطنية “اليوان”، وأخيرًا إعطاء الفرصة للصين في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي وباقي المؤسسات الاقتصادية الدولية، بما يمكن بكين من دور أكبر في رسم السياسات الاقتصادية الدولية.

وثمة فرصة أخرى تتيحها الأزمة الأوروبية الحالية، وهي انخفاض قيمة الأصول الرأسمالية إذا ما رغبت الصين في شراء كيانات إنتاجية أو مالية داخل أوروبا. لكن المحاذير التي سوف تواجه هذه الفرص السخية للصين، هي اعتراضات المجتمع المدني بأوروبا تجاه هذه الشروط، وعدم قبولها بانتهاكات الصين لحقوق الإنسان داخل أراضيها.

وعلى جانب آخر فإن الصين تعيش حالة من القلق حول مصير احتياطياتها النقدية التي تستثمر جزءًا كبيرًا منها في العملات الأوروبية والأميركية، وبالتالي فتعرض هذه العملات للانهيار من شأنه أن يضر بالاحتياطيات الصينية.

وليس من صالح الصين أن تنهار الاقتصاديات الأوروبية، فحدوث ذلك يعني ضياع جزء كبير من حصة الصادرات الصينية لهذه الدول. كما أن الأزمة المالية العالمية وتبعاتها في أوروبا قد فرضت تحديًا داخليًا على الصين من أجل توجيه جزء من هذه الاحتياطيات المتزايدة من النقد الأجنبي لانتشال نحو 10% من سكانها يقعون تحت خط الفقر، والأهم من ذلك هو تحدي اعتماد الاقتصاد الصيني على الطلب المحلي، إذ تفرض الأزمة المالية والاقتصادية العالمية على الصين التوقف عن الإفراط في الاعتماد على التصدير.

وسوف تراهن الصين على عامل الوقت لتحقيق أكبر قدر من المكاسب لكي تضخ التمويل اللازم لإنقاذ أوروبا من أزمتها المالية، إذ ترى الصين أنه كلما طال وقت الأزمة زادت تداعياتها، وبالتالي القبول بالقدر الأكبر من الشروط الصينية.

وإذا ما تمت هذه الصفقة وفق الحلم الصيني فنحن أمام تغير كبير في خريطة القوى الاقتصادية الدولية، فلم يعد دور الدول الصاعدة -وعلى رأسها الصين- مجرد الحصول على حصة من الصادرات أو الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لكن سيكون الدور هو المساهمة بصورة أكثر فعالية في إدارة الاقتصاد العالمي وعدم انفراد أوروبا وأميركا بنصيب الأسد.

لكن ثمة سيناريو آخر قد يلوح في الأفق للحد من طموحات الصين في استغلال الأزمة الأوروبية، وهو أن تنجح أوروبا في تطويق أزمتها عبر الفوائض المالية الخليجية أو بلدان آسيوية أخرى. وأهم ما يميز هذه المصادر البديلة للتمويل الصيني أنها بلا مشروع سياسي، فضلا عن تواضع طموحاتها الاقتصادية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.