موقع متخصص بالشؤون الصينية

أحدث نظريات البروفيسور الأميركي “تشارلز كوبتشان”: العالم يتغيّر والصين أعظم قوة في 2050.. والغرب يفقد القيادة

0

 

موقع الصين بعيون عربية ـ
شريف الشافعي*:

 

لا شك في أن تداعيات جائحة كورونا سيكون لها تأثير ملموس في موازين القوى بالعالم، وعلاقة الشعوب بحكّامها وحكوماتها، انطلاقًا من مدى تضرر هذه الشعوب من هجمة الفيروس المستجدّ الشرس، ومدى نجاح أصحاب القرار السيادي أو إخفاقهم في التعاطي مع الأزمة الصحية التي عصفت بسائر أرجاء البسيطة، بما جعلها أزمة ذات أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية متشابكة، ولها انعكاسات مؤكدة على الخريطة الكونية المستقبلية، وطبيعة التكتلات الدولية، وكذلك على صناديق الانتخابات في دوراتها المقبلة.

 

وإذا كان الخبير الأميركي المحنّك تشارلز كوبتشان (*)، أستاذ العلاقات الدولية والزميل الأول في “مجلس العلاقات الخارجية” (**) لم يدرك انتشار الوباء العالمي في كتابه المهمّ “عالم واحد للجميع/ شروق عالم للجميع بلا وصيّ” (***)، الذي يتوقّع فيه تنحّي الغرب عن قيادة شؤون العالم، وفقدانه الهيمنة لمصلحة الصين وقوى أخرى بديلة، فإنه لم يُغفل الالتفات في وقت لاحق إلى أن جائحة كورونا ستصبّ هي الأخرى بدورها في المصبّ نفسه، المزعزع لسطوة الغرب، متخذًا من الإدارة الأميركية مثالًا في البطء في القرار وسوء التقدير إلى درجة تكاد تصل إلى التخبط.

لم تؤثر نتائج أزمة كورونا، التي لم تتضح كلية بعد بطبيعة الحال، في معطيات كوبتشان التي بنى عليها نظريته محل القراءة هنا، وهي النظرية القائلة بأن العالم في سبيله إلى تنوع إيديولوجي وسياسي واقتصادي وعسكري، حيث لن تخضع الدول الصاعدة لقيادة الغرب، ولن تلتزم بأسلوبه، فما حدث من نهوض الغرب وصعوده في مراحل زمنية سابقة قد جاء بسبب ملابسات اجتماعية وظروف اقتصادية تخصه هو دون غيره، أما الدول المتطلعة إلى القمة في الوقت الراهن، وعلى رأسها: الصين، الهند، البرازيل، روسيا، فإنها تتوخى مساراتها صوب التفوق والحداثة وفق مفاهيم مختلفة تخصها هي أيضًا، خارج المألوف في النظامين؛ المحلي والدولي، بما يعني باختصار أن “العالم بالفعل يتغيّر!”.

وليست فقط حركة الاقتصاد العالمي هي التي يمكن قياسها مستقبليًّا، وإعداد كشف حساب لها خلال العقود القليلة المقبلة، لكن التقديرات العلمية الدقيقة والبحوث المختصة، وإن لم تخلُ من قدر من التخمين، بإمكانها رسم صورة مستقبلية لموازين القوى في العالم عما قريب، على الأصعدة السياسية والإيديولوجية والعسكرية وغيرها. فإلى أين يتحرك مؤشر التفوق؟ وما موضع الغرب المسيطر حاليًا، بمثله التأسيسية كالديمقراطية والرأسمالية والعلمانية، في تلك الخارطة الجديدة التي تتشكل، وفق نظرية كوبتشان؟

يعوّل الكاتب في أطروحته الثرية الشيّقة على الموازاة بين العمل البحثي المدعوم بحصيلة كبيرة من المصادر الموثقة والمراجع، وبين الجهد الذاتي التحليلي القائم على الاستدلال والاستنباط والاستشراف والتنبؤ، استنادًا إلى  أرقام ومقدّمات وبيانات وإحصاءات يمكن البناء عليها وفق العقلانية والموضوعية، وكذلك وفق الفرضيات والاحتمالات المدروسة، التي تستقرئ بقدر من المنطق ما سوف يكون، والذي بدأت بشائره تتولد فعلًا.

يفرّق كوبتشان في فصول دراسته بين “التحول الغائب”، و”التحول القادم”؛ ويقصد بالتحول الأول رحلة صعود الغرب، في حين يعني التحول الثاني تفوّق دول أخرى من العالم كما تثبت المؤشرات الحالية. ولقد كان تقدّم الغرب الأوضح، لاسيما في الفترة من 1500 إلى 1800، بسبب أمرين أساسيين؛ أولهما: القوة المضمرة النابعة من تهافت المؤسسات السياسية في القارة الأوروبية، حيث انكسرت سطوة الملكية والكنيسة والنبلاء أمام مناهضة طبقات التجّار والصنايعية والمهنيين، وأزاحت البرجوازية المستقلة بروابطها الاجتماعية المتشكلة السلطوية المطلقة للمؤسسات الراسخة التي باتت تقليدية. وثانيهما: أن الحركة الإصلاحية التي اقترنت بالبرجوازية قد أضعف شوكة الكنيسة وقوة الملكية أكثر وأكثر، وأشعلت فتيل الطائفية بالنزاع بين الكاثوليك والبروتستانت، لكن التوجهات الإصلاحية قد بلغت في النهاية معاني التسامح الديني، بما أدى تدريجيًّا إلى قلة تدخل الدين في إدارة أمور الدولة، بالإضافة إلى دعم مبادئ التعددية السياسية. وقد زاد من انفراد الغرب بهذه المزايا التي مكنته من احتلال صدارة العالم، أنه لم تتوفر ظروف شبيهة لدول أخرى في الشرق الأوسط، أو الشرق الأقصى.

ويأتي الاقتصاد، بمعناه الشامل كفلسفة وإيديولوجيا وممارسة واقعية عملية على الأرض، ليمثل حجر الزاوية في صياغة “التحول القادم” لدول أخرى خارج المركزية الغربية، وسيبدو الملعب هذه المرة متسمًا بالتكافؤ والمساواة لعقود طويلة نسبيًّا، وهنا يقارن كوبتشان بين القوى الاقتصادية الأبرز في عام 2010، وهي على الترتيب: الولايات المتحدة الأميركية، الصين، اليابان، ألمانيا، فرنسا، ومثيلاتها التي يتوقعها عام 2050، وهي على الترتيب: الصين، الولايات المتحدة، الهند، البرازيل، روسيا. وهكذا، فإن الولايات المتحدة هي فقط وحدها القوة الغربية التي ستتبقى بين العمالقة، وستكون بعد الصين بمسافة شاسعة في مضمار العظماء المتسع.

هذه التغيرات والتحولات والنتائج يعيدها كوبتشان إلى عشرات المقدمات والأسباب الملموسة التي برزت إفرازاتها بالفعل، منها على سبيل المثال: الأزمات المالية العالمية، وأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2011، والحروب في أفغانستان والعراق، وتباطؤ معدلات النمو على الجانب الآخر من الأطلسي، والانقسامات في داخل الاتحاد الأوروبي، وزعزعة منطقة اليورو، وغيرها. ولعل أخطر ما يشير إليه الباحث، هو أنه لم يكن هناك وريث شرعي محدد للغرب الذابل، بمعنى أنه لن يتصدى لقيادة العالم مارد ما، في آسيا أو خارجها، بل إن أبرز سمات العالم الجديد أنه لن يكون حكرًا على أحد، فلن يتم تعميم النموذج الغربي الذي وُلد في ظروف زمكانية تخص عصره ومنطقته، ولن يُستبدل مركز الجاذبية بمركز آخر.

هكذا، آل كوبتشان في نهاية المطاف إلى خلاصة جوهرية، هي أن عالمنا الآتي هو عالم التعددية في الأقطاب، وتنوع الأدوار وتعددها في المسرح السياسي، وتضافر مجموعة من القوى العملاقة، بعضها مع البعض، والتفافها معًا حول مفاهيم وأسس تشي بوجود نظام يحمل قدرًا لائقًا من المشروعية والعدالة. وعلى خلاف تبشير خبراء وعلماء آخرين بالصعود الآسيوي الفذ لبعض الدول بعينها، فإن كوبتشان يتبنى مبدأ أن العالم الجديد سيبقى خارج الهيمنة الفردية من أي كيان أو دولة أو تكتل أو منطقة، فهو عالم بلا وصاية، وبغير مركز ثقل، ودون قيادة.

في ذلك العالم، هناك صيغ متباينة للحداثة والتنوع السياسي، فالأنظمة الأوتوقراطية القوية ستواجه الديمقراطيات الليبرالية بشراسة، وليس هذا فحسب، بل إن الديمقراطيات الصاعدة ستتباعد عن استقطاب الغرب، وما من سبيل لإدارة هذه التحولات المستجدة سوى السبيل السلمي، وإلا ستحل الفوضى العامة. كذلك، فإن التوازنات العسكرية ضرورية تحت مظلة المعايير الاقتصادية الجديدة، وتبدل موازين القوى، حيث إن القوة الاقتصادية (التي ستميل للمساواة) هي منبع القوة العسكرية في حقيقة الأمر، ولذا ستتجه المقدرات العسكرية إلى مساواة مماثلة بدورها.

ومن الأمور المدهشة الأخرى التي يصفها كوبتشان أنه في ذلك العالم المتاح للجميع، سيغدو ممكنًا لأنظمة غير غربية، كما في الصين، أن تستلهم من الغرب مثلًا بدافع اقتصادي في الأساس كيفية بناء مجتمع منفتح يستلهم التقدم التقني والعلمي وإدارة المشروعات، كما سيتعلم الغرب من الصين مفاهيم إدارة الدولة للأسواق الجماعية الواسعة.

وفي خضم تفاؤله العريض، لا ينفي كوبتشان في كتابه أن الخطورة قائمة، وأن الصورة السلمية لتحولات العالم الجديد قد لا ترتسم بمثالية، خصوًصا أن التاريخ يروي أن اللحظات الفارقة في تبدل موازين القوى هي لحظات استثنائية تستوجب الحذر كي لا تتفجر بالأحداث الدامية. وهنا، ينصح الباحث بضرورة الحوار بين الغرب المتضائل والدول الصاعدة. أما أعلى درجات الخطورة، فهي المواجهة المحتملة، بأي شكل من الأشكال، بين الولايات المتحدة والصين، فإذا لم تمضِ الدولتان إلى طريق الدبلوماسية لتذليل علاقتهما والتخلص من وجهة النظر القائلة “إن مكسب طرف في التوازن البحري في غربي المحيط الهادئ هو خسارة للطرف الآخر”، فقد تلوح في الأفق “مواجهة تاريخية”.

إن الدراسة اللافتة “عالم واحد للجميع” لتشارلز كوبتشان، ليست أولى الدراسات التي تعاملت مع أفول نجم الغرب، بل إن للمؤلف نفسه كتابين ينحوان بشكل ما في هذا الاتجاه، لكن هذه الدراسة الأخيرة لها السبق في تأصيل فكرة “غياب المركز”، والتحديق في “العالم القادم” من خلال عدسات الأجل الطويل، وفق خطة الباحث، التي يعلنها صراحة في البداية، وفي سبيل إنجازه لها يمضي مشرّحًا بشكل تفصيلي أسس صعود الغرب في زمان غابر، وتجليات صعود بقية القوى، وميكانيزم عمل هذا العالم القادم، وتفاعلاته، ومقترحات إدارته، خلال سنوات قليلة مقبلة، بما يقترب من تقعيد نظرية مكتملة الأركان، جديرة بالاهتمام والمناقشة.

—————————————————-

(هوامش)

 

(*) تشارلز كوبتشان، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون الأميركية، وزميل أول في مجلس العلاقات الخارجية، وكان يعمل في “مجلس الأمن القومي” في عهد الرئيس كلينتون، ومن مؤلفاته: “نهاية العصر الأميركي”، “كيف يصبح الأعداء أصدقاء”.

 

(**) “مجلس العلاقات الخارجية”، تأسس في 1921، وهو منظمة مستقلة، العضوية فيها غير حزبية، كما أنه هيئة بحوث، وناشر، مكرس ليكون عونًا لأعضائه، والمسؤولين الحكوميين، ومديري الأعمال، والصحفيين، والمعلمين، والطلاب، والقادة المدنيين والدينيين، والمواطنين المهتمين، بغية مساعدتهم على أن يفهموا العالم وخيارات السياسة الخارجية التي تواجه الولايات المتحدة ودولًا أخرى، على نحو أفضل. ليس لـ”مجلس العلاقات الخارجية” أي ارتباط بحكومة الولايات المتحدة، وآراء باحثيه ومؤلفيه تقع مسؤولياتها عليهم وحدهم.

 

(***) صدر حديثًا كتاب “عالم واحد للجميع- شروق عالم للجميع بلا وصيّ” للبروفيسور تشارلز كوبتشان في 244 صفحة، عن “مركز الأهرام للترجمة والنشر” بالقاهرة (مؤسسة الأهرام الصحفية)، بترجمة الباحث المصري كمال السيد.

 

———————————

*شريف الشافعي

(كاتب وصحافي وشاعر من مصر)

(صحافي في “مؤسسة الأهرام الصحفية” بالقاهرة، مسؤول النشر والديسك المركزي والثقافة في بوابة الأهرام الإلكترونية)

sharifjournal@hotmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.