موقع متخصص بالشؤون الصينية

تُعرف الصداقة عند الشدائد… 49 عاماً على العلاقات الديبلوماسيّة اللبنانيّة الصينيّة

0

 

صحيفة النهار اللبنانية ـ
كتب وارف قميحة*:

يبيّن تاريخ العلاقات الديبلوماسية أنها قديمة قدم الشعوب، حيث ارتبطت بحاجات الجماعات الإنسانية المختلفة في سعيها لتنظيم العلاقات في ما بينها، ومنذ ذلك القدم أُبرمت المعاهدات والاتفاقيات التجارية والعسكرية التي تضمنت بنودها تأمين الحماية للقوافل البرية والبحرية من سطوة قطّاع الطرق واللصوص. ومنذ ذلك القدم، وعبر طريق الحرير، كانت القوافل التجارية #الصينية تنطلق من مدينة شيآن، تعبر صحراء تاكلاماكان من أكثر الصحاري جفافاً في العالم، وتطوف القوافل بين قمم الجبال المكللة بالثلوج والطرق الوعرة والكثبان الرملية والمسطحات الصخرية عابرين كاشغر(إقليم شينجيانغ) إلى جبال بامير(شرق أفغانستان) ذات الطرق الضيقة الملتوية الملتفة حول أودية سحيقة تجري فيها أنهار سريعة اصطُلح على تسمية هذا الجزء من طريق الحرير “درب العظام”، وتكمل طريقها الحافل بالمخاطر والمحطات التجارية وصولاً إلى تدمر ودمشق، لتحط في مرفأ مدينة صور جنوب لبنان آخر مدينة آسيوية لطريق الحرير، حيث كانت البضائع الصينية تحمل بالزوارق الفينيقية إلى البندقية في إيطاليا.

لقد تعاقب على حكم الصين عبر تاريخها الطويل أسر وممالك وإمبراطوريات متعددة خلّفت وراءها حضارات رفدت الاجتماع البشري بعناصر ساعدت على تقدمه وتطوره وأسست في آن لعلاقات التبادل وتمتين أواصر التواصل، وهو ما نشهد استمراريته حتى يومنا هذا.

الاتفاقيات المعقودة بين لبنان والصين
تمثّل تاريخ العلاقات الصينية اللبنانية في توقيع الاتفاق التجاري بين البلدين بتاريخ 31 كانون الاول من العام 1955، بغية المساهمة في تدعيم الصداقة بين شعبي لبنان والصين عن طريق العلاقات التجارية والتعاون الاقتصادي بين بلديهما، وذلك على أساس المساواة والمنافع المتبادلة؛ هذا التعبير حرفياً كان في صلب خطاب الرئيس الصيني السيد شي جي بينغ عندما أطلق في العام 2013 مبادرة “الحزام والطريق” لبناء شبكتي تجارة وبنية أساسية تربط أسيا بأوروبا وأفريقيا عبر طرق التجارة البرية والبحرية القديمة.

تركز مبادرة “الحزام والطريق” على التنمية الاقتصادية ولا تتدخل في السياسة، تعتمد على التعاون المنفتح ولا تشارك في الحمائية، تلتزم بالمنفعة المتبادلة والفوز المشترك ولا تشارك في لعبة القواعد الصفرية، تتبع القواعد الدولية ولا تستنبط قوانين جديدة. لقد أصبح البناء المشترك لهذه المبادرة خطة الصين للمشاركة في تعاون عالمي مفتوح من أجل تحسين نظام الإدارة الاقتصادية الدولية وتعزيز التنمية والازدهار العالمي وبناء مجتمع ذي مصير مشترك.

وإدراكاً لأهمية هذه المبادرة تم التوقيع في أيلول 2017 على مذكرة تفاهم بين حكومة جمهورية الصين الشعبية وحكومة الجمهورية اللبنانية حول “الترويج المشترك للتعاون في إطار الحزام الاقتصادي لطريق الحرير ومبادرة طريق الحرير البحرية للقرن الواحد والعشرين”. وتنص المذكرة على تعاون الجانبين في مجالات ذات اهتمام مشترك منها النقل واللوجستيات والبنى التحتية والاستثماروالتجارة، والطاقة المتجددة والتبادل الثقافي بين الشعوب، والصحة والرياضة.

سبق هذه المذكرة التوقيع على العديد من الاتفاقيات بين البلدين في شتى المجالات أبرزها: اتفاق النقل البحري (1996)، تنشيط وحماية الاستثمارات المتبادلة (1997)، اتفاقيات تعاون اقتصادي وتجاري وفني (1997- 2016)، اتفاق نقل جوي مدني (1997)، اتفاق ثقافي (2002-2005) واتفاقيات عديدة في هذا المجال أثمرت بتاريخ 2 كانون الاول 2019 بوضع حجر الأساس لإطلاق أشغال مشروع إنشاء المعهد الوطني العالي للموسيقى (الكونسرفاتوار) في ضبيه، والذي تموله جمهورية الصين الشعبية بهبة عينية تقدر ب، 60 مليون دولار على مساحة تقدر بـ 28 ألف متر مربع، على أن يتم الانتهاء من تنفيذ المشروع خلال مدة لا تزيد عن الـ 3 سنوات. في مجالات السياحة (2011 و2018)، اتفاقية تبادل إنشاء مراكز ثقافية (2020).
ولأن الصداقة تُعرف وقت الشدائد أبرمت الحكومة الصينية ممثلة بسعادة السفير وانغ كيجيان اتفاقيات هبات قدمت إلى وزارة الخارجية اللبنانية، وزارة الصحة العامة، وزارة الاشغال العامة والجيش اللبناني، عبارة عن مسلتزمات طبية وتجيهزات ومعدات متخصصة لمواجهة جائحة كورونا، وفي إطار آخر ساهمت الصين بالتبرع بقمية مليون يورو في المؤتمر الدولي الذي خصص لدعم لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت، كما شارك ضباط وجنود من الدفعة الـ19 لقوات حفظ السلام الصينية التابعة لليونيفيل في أعمال رفع الأنقاض وتنظيف ما يقرب على 60 ألف متر مربع من الأنقاض في مرفأ بيروت وثلاثة شوارع ومبنى وزارة الخارجية اللبنانية (قصر بسترس) في فترة قياسية، كما أكمل مهاماً أخرى بما في ذلك جمع المواد القابلة لإعادة التدوير والبحث عن الآثار الثقافية وترميم وحماية المواقع التراثية المتضررة.

التبادل التجاري
وفقاً لإحصائيات صادرة عن مركز الدراسات الاقتصادية التابع لغرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان، واستناداً إلى أرقام الجمارك اللبنانية، تبوأت الصين المرتبة الثانية على لائحة أهم مصادر الاستيراد اللبناني عام 2019، وشكلت المستوردات اللبنانية من الصين 8.5% من إجمالي المستوردات اللبنانية. في المقابل كانت الصين في المرتية 42 على لائحة أهم أسواق الصادرات اللبنانية واستأثرت بنحو 0.4 % من إجمالي الصادرات. فيما بلغ اجمالي التبادل التجاري بين لبنان والصين عام 2019 نحو 1.64 مليار دولار اميركي. وسجل الميزان التجاري عجزاً لصالح الصين منذ العام 1993. وقد بلغ قيمة قياسية عام 2014 حين سجل 2.47 ملياري دولار أميركي (عجز لصالح الصين بلغ 430.3 مليون دولار أميركي في أول 8 أشهر من العام 2020) خلافاً للمادة الاولى من الاتفاق التجاري لعام 1955 الذي اتفق الفريقان باتخاذ جميع التدابير اللازمة لتنمية التبادل التجاري والتوسل بجميع السبل الممكنة لأجل تحقيق التعادل في الميزان التجاري بين البلدين.

أهم الصادرات والمستوردات
أهم الصادرات اللبنانية إلى الصين عام 2019 كانت النحاس ومصنوعاته(39%)، آلات وأجهزة وأدوات آلية (31%)، الكاكاو ومحضراته (10%)، البلاستيك ومصنوعاته (10%)، أحجار وأتربة (2%)، وألمنيوم ومصنوعاته (2%). أما أهم المستوردات اللبنانية من الصين عام 2019 كانت آلات وأجهزة ومعدات كهربائية (22%)، ادوات وأجهزة وأدوات آلية (14%)، بلاستيك ومصنوعاته (6%)، سيارات (5%) وألبسة من غير المصدرات (4%).

الفرص والتحديات
تؤكد الصين عبر لسان سفيرها في لبنان السيد وانغ كيجيان حفاظها على علاقات طيبة مع مختلف الاطراف اللبنانية، وأن لبنان شريك للصين في بناء الحزام والطريق وهناك رغبة أكيدة في لبنان على المستويين الرسمي والشعبي في تعميق التعاون العملي مع الجانب الصيني، فالجانب الصيني دعم سيادة لبنان ووحدته وسلامة أراضيه ولن يتدخل في الشؤون الداخلية للبنان. ونظراً للتحديات المتعددة التي يواجهها لبنان حالياً، سيواصل الجانب الصيني تقديم ما في وسعه من المساعدات الاقتصادية والانسانية والعسكرية إلى الجانب اللبناني، والعمل على تنفيذ مشروع المعهد الوطني اللبناني العالي للموسيقى الجديد الممول من قبل الحكومة الصينية وفقاً لما هو مخطط له، وتشجيع البحث في سبل التعاون العملي على أساس المنفعة المتبادلة.

على أرض الواقع، خصصت الصين ما يقارب ملياري دولار لإقامة مشاريع مرتبطة بموقع لبنان الاستراتيجي على طريق الحرير نظراً إلى دوره المرتقب والمتوقع من الصين في مساهمتها في إعادة إعمار سوريا والعراق. العديد من الوفود الرسمية والاقتصادية زارت لبنان واجتمعت مع كبار المسؤولين الرسميين إضافة إلى القطاع الخاص، حيث تم عرض العديد من المشاريع من الجانب الصيني إضافة إلى التمويل وبفوائد منخفضة جداً على فترة 30 سنة تشمل تطوير القطاع التكنولوجي والمعلوماتية والاتصالات، النفط والغاز، سكك الحديد، انشاء معامل للكهرباء، مشاريع تتعلق بالبنية التحتية من طرقات وجسور وأنفاق لا سيما نفق بيروت البقاع؛ العديد من هذا المشاريع طرح الجانب الصيني العمل بها وفقاً لنظام الـ BOT او وفقا لقانون الشركة بين القطاع العام والخاص PPP، كما طرحت مشاريع تتعلق بإقامة مناطق اقتصادية حرة ومناطق صناعية في عدة مناطق لبنانية تسعى إلى تحويل لبنان من بلد مستهلك للبضائع إلى بلد منتج وصناعي. كل هذه المشاريع كانت ولا تزال فرصاً وتحديات، على الجانب اللبناني العمل على دراستها بجدية ومسؤولية بعيداً من المصالح الشخصية والفئوية الخاصة والحسابات السياسية غير المبررة، فمصلحة لبنان وإعادة إعماره وحل الازمة المالية والاقتصادية وما نتج عنها من بطالة وفقر تعلو فوق الجميع. إن طرح مشاريع من قبل الجانب اللبناني وفقاً لمناقصات دولية بشفافية مقدمة أساسية لدخول الاستثمارات الصينية إلى لبنان إضافة إلى ضرورة العمل على اتفاقيات لتفادي الازدواج الضريبي ومنع التهرب من دفع الضرائب المفروضة على الدخل واتفاقيات حول العمالة الصينية وصولاً إلى ضمان الحقوق المشروعة للشركات الصينية والعاملين فيها في لبنان.

لبنان كان من أوائل الدول التي أقامت علاقات ديبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية من خلال بيان مشترك بتاريخ 9 تشرين الثاني 1971 وأعلن في الوقت نفسه في العاصمتين بيروت وبكين يوم 10 تشرين الثاني 1971 . خلال 49 عاماً من العلاقات الديبلوماسية وقف البلدان إلى جانب بعضهما البعض، فالصداقة تُعرف عند الشدائد. لبنان بعد جائحة كرورنا وانهيار نظامه المصرفي والاقتصادي وبعد انفجار مرفأ بيروت ليس كما قبله… فهل من يسعى إلى الاستفادة من الفرص المتاحة ومواجهة التحديات؟

* رئيس جمعية طريق الحوار اللبناني الصيني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.