موقع متخصص بالشؤون الصينية

تحقيق خاص: “تعليم بنت واحدة هو انتشال اثلاثة أجيال من براثن الفقر”

0

موقع الصين بعيون عربية ـ
بكين ـ شيه يانغ (هيفاء)*:
كان الفقر في الصين مُركّزا بشكل رئيسي في المناطق الجبلية، حيث تحصر الجبال السكان المحليين في بقع بسيطة صالحة للزراعة وبيوت أشبه بالكهوف، ولم تربطهم إلا دروب خطيرة بالعالم الخارجي، ولا كهرباء، ناهيك عن الأجهزة الحديثة. هكذا هُم، كانوا منعزلين تماماً، وظلوا يصارعون الفقر، والفقر يصرعهم.

منذ الثمانينات في القرن الماضي، انتهجت الصين استراتيجية مكافحة الفقر، لقد تم تسجيل الفقراء وتحليل أسباب فقرهم، ثم قدمت السلطات المساعدة لهم من أجل زيادة دخلهم وضمان حصولهم على الغداء والكساء والمسكن والتعليم الإلزامي والرعاية الصحية، وتم نقل سكانها إلى مناطق أكثر ملاءمة.
لكن بعد كل هذه الجهود الجبارة، ما زالت هناك مشكلة صعبة: كيف يتمكن الناس من كسب مهارات معيشية لتحقيق الاعتماد الذاتي في المستقبل؟ يستحيل انتشال البشر من الفقر بشكل نهائي إلا من خلال التعليم، إذ أن كسب المعرفة والمهارة هو “اجتثاث جذور الفقر”، وخصوصاً تعليم البنات جيداً، إذ أنه أهم عامل في الأمر.


ولكن ثمة ظاهرة شائعة متأصلة لدى أهل المناطق الجبلية على مدى الأجيال: إذ بعد انتهاء التعليم الإلزامي، غادرت البنات المدارس بسبب فقر أسرهنّ اللاتي لم تتمكن من توفير النفقات المدرسية لهنّ، ثم تزوّجن مبكرات. لذلك ظل في المناطق الجبلية معلّمون يكرّسون حياتهم لإطلاق إمكانيات البنات في اكتساب المعرفة والمهارات، تشانغ قوي مي هي من بينهم.

هي مديرة لمدرسة ثانوية مجانية للبنات في مقاطعة يونان، وأيضا أم خاصة ليس لها ولد أو بنت، ولكنها “ماما” العظيمة لكل الطالبات. هي من مواليد عام 1957، بصحة ضعيفة جداً وتعاني من أمراض مزمنة.
عام 1975 قدمت تشانغ قوي مي من مسقط رأسها بشمال شرق الصين إلى قرية نائية في محافظة تشونغديان بمقاطعة يونان، حيث لم يبلغ عمرها وقتها سوى 18 سنة، وبدأت حياتها معلمة. في عام 1994 توفي زوجها بسبب مرض، مما أوقعها في حزن شديد وهي كانت معلمة في مدينة دالي، فانتقلت إلى مدرسة القوميات بمدينة ليجيانغ عام 1996 وقالت”منذ أول لحظة أتيت إلي هنا، ولا زلت في حزن شديد، كنت لا أفكر إلا في قضاء بقية حياتي البائسة في هذه المنطقة النائية، إلا أن رغبات تلاميذى الشديدة في التعلم وصبرهم وتفاؤلهم كان يؤثر فيّ كثيرا. حتى أن أحد تلاميذى تخلى عن فرصة إلقاء النظرة الأخيرة على أبيه الذي كان يحتضر من أجل التعلم. وكنت قد تأثرت بذلك كثيراً وقررت أن أساعد هؤلاء التلاميذ.”


رأت تشانغ قوي مي مصائب عدة لدى الأسر الريفية الفقيرة والتي يرجع سببها الرئيسي لمنظومة التعليم المتخلفة في المناطق الجبلية، حيث تكون البنات أقل تعليماً. عام 2002 بدأت تشانغ قوي مي في إنشاء مدرسة ثانوية مجانية للبنات. ومن أجل إنجاح الفكرة، قامت بطلب التبرعات من المجتمع. في عام 2008 تم إنشاء أول مدرسة ثانوية تقدم التعليم المجاني للبنات في محافظة هوابينغ، في ذلك الوقت دخلتها 96 بنتاً.


أثناء هذه السنوات قامت تشانغ قوي مي بزيارات من منزل إلى منزل في المناطق الجبلية الفقيرة لإقناع البنات اللواتي يعشن هناك بمواصلة الدراسة، حدث مرات أن سقطت في درب جبلي أو أغمي عليها بسبب التعب الشديد. وظلت تقتصد في مصروفاتها اليومية بشدّة من أجل توفير أموال المدرسة، إذ يبلغ معدل النفقات المدرسية لكل بنت أكثر من خمسين ألف يوان أثناء سنوات الدراسة الثلاث.


دائما تعلم المعلمة تشانغ قوي مي البنات الثقة الذاتية والاعتماد على النقس، وتحرص على تفاصيل تضمن ترعرع الطالبات صحياً ونفسياً بشكل جيد، وتطلب بصرامة منهن بذل أقصى الجهود في الدراسة، وهذه الصرامة تفيد الطالبات طوال حياتهن. كما قالت طالبة: “لولا الجهد لذي بذلته ماما، ما كانت لتتاح لي فرصة الالتحاق بالمدرسة، تعلمت منها الكفاح وبذل أقصى الجهود في سبيل التقدم”.
أثناء السنوات الإثنتي عشرة الماضية، أدخلت المدرسة 1804 بنات ريفيات إلى الجامعات، وبعد تخرجهنّ وجدنَ أعمالا جيدة وقمن بانتشال أسرهنّ من الفقر، مما غيّر معيشة 1600 أسرة فقيرة. كما قالت تشانغ قوي مي: “تعليم بنت واحدة هو انتشال ثلاثة أجيال من براثن الفقر.”


طوال هذه السنوات نالت تشانغ قوي مي الكثير من ألقاب الشرف والجوائز الوطنية ورعاية الحكومة، وأخذ الناس من أنحاء البلاد يتبرعون بالأموال ويقدمون المساعدات الممكنة للمدرسة. لا تزال هذه المعلّمة المتفانية تعمل على تطوير أعمالها التعليمية كل يوم حتى حوالي الساعة الواحدة ليلا، وهي تؤكد دائما:”سأحارب حتى آخر لحظة من حياتي”، وهي تؤمن أنه بجهود العاملين لتطوير المناطق المتخلفة، ستشهد أرض البلاد “اجتثاث جذور الفقر” بشكل نهائي.

*شيه يانغ (مواطنة صينية، تُعنى بالشأن الثقافي وقضايا النشر بين العالم العربي والصين)

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.