موقع متخصص بالشؤون الصينية

الخارطة السياسية الجديدة… والتموضع الصيني

0

 

موقع الصين بعيون عربية ـ
د. شاهر إسماعيل الشاهر*:

قادت الصين اتجاهاً جديداً بديلاً للعولمة الغربية، هذا الاتجاه يمكن أن نسميه “العولمة الصينية”، التي تقوم على نشر قيم وخصائص الثقافة الوطنية الصينية من خلال الاستناد إلى مجموعة مرتكزات، أهمها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فالسيادة من وجهة نظر الصين هي القيمة المعيارية الأعلى. وسعت بكين إلى نشر نموذجها للعولمة عبر مشروع الحزام والطريق الذي يعتمد على التمدد من خلال إقناع دول العالم بهذه الفكرة، لا عبر الإكراه والاستغلال، بل عبر تحقيق المصالح المشتركة. فالصين تطرح فكرة التعاون بديلاً لفكرة الاستغلال، واستراتيجية الفائدة للجميع بدلاً من فوز طرف وخسارة آخر، وبالتالي الانتقال من النظرية الواقعية في العلاقات الدولية إلى النظرية الاعتمادية. ولعل دعوة الرئيس الصيني إلى الإسراع في تبني نموذج العولمة دليل واضح على التحول في نمط التفكير الصيني من نيو ليبرالية السوق الى نيو ليبرالية الدولة، وبالتالي الانتقال من رأسمالية تنظمها آليات السوق الى رأسمالية تنظمها الدولة.
أثّرت الثقافة الكونفوشيوسية على السياسة الخارجية الصينية، وكانت الثقافة الاستراتيجية للصين تقوم على خمسة مبادئ، هي:
1- مبدأ الحق هو القوة: تحقيق الذات لا يكون على حساب الآخرين.
2- مبدأ حروب الشعوب: ادارة الصراع. في العلاقات الدولية تمر عبر ثلاث مراحل – التراجع لتحديد الخسائر – الوصول بالصراع إلى مرحلة التوازن – الهجوم الاستراتيجي المضاد وأخذ زمام المبادرة
3- مبدأ الحصانة: الدفاع المقدس عن السيادة الصينية.
4- مبدأ المركزية: ويعني الاعتقاد ان الصين يجب أن تحظى بمكانة مركزية في العالم.
5- مبدأ الشرعية الأخلاقية: القوى العظمى لا تقاس بالقوة المادية ولكن بالشرعية الأخلاقية.

وقبل الحديث عن أثر فيروس كورونا على إعادة ترتيب العلاقات الدولية، لا بدّ من مقدمة سريعة نتحدث فيها عن إرهاصات تغير شكل النظام الدولي أحادي القطبية والتي بدأت تظهر بشكل كبير ومتسارع. فبعد نهاية الحرب الباردة وبروز ما يسمى النظام العالمي الجديد الذي بشّر به الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب ظهرت الولايات المتحدة كقطب مهيمن على الساحة الدولية، وبرزت العديد من النظريات التي تؤكد الهيمنة الأمريكية ابتداء من نظرية نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما الذي رأى أن التاريخ قد انتهى بانتصار القيم والأعراف الليبرالية. ثم جاء صموئيل هينتغتون ليقدم نظرية لم تلقَ استحساناً في البداية، لكنها أصبحت بمثابة نبوءة له بعد وقوع أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١، فقد تحدث هينتغتون عن ما أسماه صراع الحضارات، حيث رأى أن الصراع الدولي القادم سيكون من نوع مختلف، فهو ليس صراعاً بين الدول كما كان من قبل، بل بين حضارات مختلفة، وقال إن العدو القادم هو العدو الأخضر (الإسلام) بعد أن انتصرنا على العدو الأحمر (الشيوعية). فعندما وقعت أحداث أيلول وكان منفذوها من المسلمين، عاد العالم إلى نظرية هينتغتون فلاقت الكثير من التقبل والرواج.
لكن العالم بدأ ينتقل من “الأحادية القطبية الصلبة” التي امتازت بالتفوق الأمريكي وعدم وجود منافسين دوليين للهيمنة الأمريكية، إلى “القطبية المرنة” التي امتازت ببروز قوى دولية أخرى إلى جانب الولايات المتحدة، مع احتفاظ الأخيرة بالتفوق والتفرد في قيادة العالم. وبدا أن العالم ينتقل إلى عالم متعدد الأقطاب، وبرزت أربعة مشاريع دولية متنافسة سيكون لها الدور في صياغة شكل النظام الدولي القادم، وهذه المشاريع هي:
ـ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحته الولايات المتحدة الأمريكية وبشرتنا به وقتها كونداليزا رايس في العام ٢٠٠٦ عند العدوان الإسرائيلي على لبنان حيث قالت: إننا نشهد المخاض لولادة شرق أوسط جديد، شرق أوسط على الطريقة الأمريكية يكون لإسرائيل فيه مكان الصدارة. وقد اتخذت الولايات المتحدة من قضية ” نشر الديمقراطية” اطاراً سياسياً لتنفيذ مشروعها والتدخل في الشؤون الداخلية للدول تحت هذا المسمى، وبعد كشف زيف وبهتان هذا المدخل انتقلت الاستراتيجية الأمريكية من فكرة “نشر الديمقراطية” إلى التدخل بحجة “الحرب على الإرهاب” أي انتقلت من الاطار السياسي إلى الاطار الأمني.
ـ مشروع الحزام والطريق الذي طرحه الرئيس الصيني شي جينبينغ في العام ٢٠١٣، وهو مشروع تقدم فيه الصين العولمة على طريقتها الخاصة، عبر تحقيق المنافع المشتركة لجميع الدول التي ستكون ضمن هذا المشروع، وهو المشروع الأكبر حيث يضم /٦٥/ دولة يشكل سكانها 62 % من عدد السكان في العالم.
ـ مشروع الأوراسية الجديدة: الذي تقوده روسيا معتمدة على أفكار الكسندر دوغين، وهذا المشروع يؤسس جيوسياسياً لبداية حرب باردة جديدة، حيث تستند إليها السياسية الخارجية الروسية لتأسيس محور جيوسياسي جديد يتحدى الغرب دون أن يكرر أخطاء التمدد المبالغ فيه للاتحاد السوفياتي، وهذا المشروع له تأثيرات عالمية كبيرة وخاصة فيما يتعلق بـ “جيوبولتيك الطاقة”.
ـ ثم جاء في الآونة الأخيرة المشروع الماليزي التركي لقيادة العالم الإسلامي، وضم /٥٦/ دولة، أهمها: ماليزيا ـ تركياـ الباكستان ـ إيران ـ إندونيسيا ـ قطر. هذا المشروع سيكون له تأثيرات كبيرة على مستقبل العالم الإسلامي والزعامة فيه. ويسعى لأن يكون عمله مختلف عن منظمة التعاون الإسلامي، حيث تركز قمة كوالا لامبور على أوضاع المسلمين في العالم وما يعانون منه، وتبتعد عن مناقشة القضايا الدينية والفقهية.
وقد اعتقد أغلب الساسة والمنظرين أن شكل النظام الدولي القادم ومستقبل العلاقات الدولية سيحدده مدى التجاذب والتنافر ومقاييس النجاح لهذه المشاريع الاستراتيجية الكبرى.
ويرى الواقعيون الجدد أمثال”كينيث والتز”، “جون مير شايمر”، ” كريستوفر لاين” أن النظام الأحادي القطبية يحمل بذور فنائه لأن الدول ستوازن الولايات المتحدة الأمريكية، ويقول “لاين” إن النظام الدولي يشهد تحولاً في توزيع القوة والإمكانيات لصالح الصين، وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية تواجه مرة أخرى قوة تنافس طموحها في الهيمنة والتظاهر بأيديولوجية عالمية، وتعميم النموذج الأمريكي على أنه الأفضل لكل شعوب العالم، مستخدمة مجموعة من الأدوات مثل الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي ومجلس الأمن، والعملاء في جميع دول العالم لخدمة أهدافها الاستراتيجية في السيطرة على ثروات البلدان النامية وتحويلها لسوق استهلاكية لمنتجاتها.
وفي العصر الحديث لم يسبق أن شهد العالم تنافساً شرساً بين دولتين عظميين كما يشهده اليوم بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، فحتى في أوج الحرب الباردة والمنافسة الكبيرة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة بقي السوفييت على مسافة عن الولايات المتحدة تفوق بكثير مسافة المنافسة اليوم بين الصين وأمريكا. وهو ما دفع الرئيس ترامب الى اتهام الصين بأنها تقف خلف انتشار فيروس كورونا ووصفه بالفيروس الصيني واتهم الصين بعدم التعاون والتقاعس في تقديم المعلومات حول هذا الفيروس، وعندما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الحكومة الصينية تقوم بكامل واجباتها والتزاماتها اتهم منظمة الصحة العالمية بالتواطؤ مع الصين ومساعدتها في حجب المعلومات الأساسية عن هذا الفيروس، بما ساهم في انتشاره في الولايات المتحدة. وأعلن أنه سيطالب الصين بدفع تعويضات مالية ضخمة تصل الى ٦ مليار دولار.
لقد وجد العالم نفسه أمام أزمتين في آن واحد، أزمة الفيروس وأزمة الكساد العالمي التي تفوق منعكساتها وأثارها منعكسات وأثار أزمة الكورونا، فازداد مفهوم الدولة القومية وبرز مفهوم السيادة كعامل هام في حفاظ الدول على نفسها وحماية أمنها القومي من أي تهديدات صحية، وأصبحت فكرة الانغلاق تلقى قبولاً كبيراً.
وهذا ينسجم مع رؤية الصين التي ترى أنه ليس بالضرورة أن يكون هناك علاقة بين “الديمقراطية” والتنمية كما كانت العولمة الغربية تفترض، فتسعى إلى نشر نموذجها للعولمة عبر مشروع الحزام والطريق الذي يعتمد على التمدد من خلال الاقناع لدول العالم بهذه الفكرة، لا عبر الاكراه والاستغلال، بل عبر تحقيق المصالح المشتركة. وهو انتصار جديد للاقتصاد على السياسة، فأضحت البراغماتية الاقتصادية هي دالة الفكر السياسي، فالصين اليوم تقود اتجاهاً يمكن أن نسميه “عولمة بديلة” للعولمة الغربية تقوم على أساس التنمية السلمية والتعاون والفوز المشترك، وتلتزم الصين بتطوير علاقات الصداقة والتعاون مع جميع الدول على أساس المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، واحترام حق الدول في اختيار النظم الاجتماعية والطرق التنموية الخاصة بها وبإرادتها، وتعارض اعتداء الدول الكبيرة على الصغيرة والقوية على الضعيفة، وترفض الهيمنة وسياسة القوة، وتلتزم الصين بحل النزاعات والخلافات عبر الحوار والتشاور، في ضوء الرؤى والمصالح المشتركة، وتقرر الصين موقفها وسياستها تجاه القضايا الدولية انطلاقاً من تاريخها وثقافتها التي امتدت لآلاف السنين، ومن المصالح الأساسية للشعب الصيني وشعوب العالم. وسيكون للصين منطقة تجارية واقتصادية تنافس في مساحتها وقوتها الاقتصادية منطقة الأطلسي التجارية التي أخضعت العالم كله لإرادتها وأنظمتها ولقنته مفاهيمها التجارية والثقافية على امتداد ثمانين عاماً هي عمر الجماعة الأطلسية. وبذلك تكون العولمة الصينية بديلاً للقوى الغربية التي زجت العالم في أتون حربين عالميتين بسبب صراعها على مناطق النفوذ والتوسع بالقوة العسكرية، وفي سبيل تحقيق هدفها أنشأت بكين منظمات مالية دولية بديلة لتلك التي تخضع للنفوذ الأمريكي كالبنك والصندوق الدوليين، ففي يونيو/ حزيران 2014 أُعلن عن إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار، برأسمال قدره 100 مليار دولار بمشاركة أكثر من 50 دولة، بهدف إنهاء سيطرة أمريكا على أسواق المال في العالم.
بالطبع لن تكون القروض والتمويلات التي تقدمها تلك المؤسسات مرفقة باشتراطات البنك الدولي وصندوق النقد والتي كانت تصب في خانة تدعيم النفوذ الأمريكي والتمكين لنظام العولمة والاقتصاد الحر.
وبالتوازي مع النظام المالي الجديد، أنشأت الصين منظمة شنغهاي كنظام للأمن الجماعي العالمي على غرار حلف الأطلسي الذي تهيمن عليه واشنطن، لمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول بحجة مبادئ الإنسانية وحماية الحريات وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات الغربية، وهو حلف عسكري يضم الصين وحلفاءها مثل روسيا وكازاخستان وباكستان والهند وقيرغيزستان وأوزباكستان وطاجكيستان، أي أنه يضم 4 دول نووية وشعوباً يبلغ تعدادها نصف البشرية تقريباً، بالإضافة إلى تمتع إيران وأفغانستان وروسيا البيضاء ومنغوليا بصفة مراقب، ومنح الشراكة ـ وهي درجة أقل من العضوية ـ لتركيا وأرمينيا وأذربيجان ونيبال وسيريلانكا وكمبوديا.
والتاريخ يعلمنا أن التحولات الكبيرة لا تحدث بسرعة، وحدوثها مرتبط بتفكيك بعض الكتل السياسية والاقتصادية والعسكرية، لهذا فإن النظام الدولي الحالي لن يتفكك بسهولة كما يعتقد البعض، فالدول الكبرى ستدافع عن امتيازاتها وموقعها في هذا النظام، وإن انتشار كورونا وما رافقه ربما يسرع في خطوات تغير النظام الدولي لكنه لا يخلق مساراً جديداً لتغيير النظام القائم وما نعيشه اليوم ليس سوى مرحلة انتقالية ستستمر لسنوات ربما.
لقد أفرزت أزمة كورونا تبعات اقتصادية كبيرة نتيجة زيادة الاستهلاك وتوقف الإنتاج وبالتالي زيادة الفقر في العالم على غرار ما حدث بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وأثبتت الأحداث أنه كلما كانت الحكومة قوية وحازمة كلما حققت نجاحاً أكبر في مواجهة الفيروس، فالصين استطاعت تنفيذ الإجراءات بشكل أكثر إلتزاماً من دول الاتحاد الأوروبي مثلاً.
لقد ازدادت أهمية القوة الناعمة وتراجع مفهوم القوة الصلبة، فبرزت دبلوماسية الكمامات التي استخدمتها الصين في علاقتها مع دول العالم، في حين تعرت دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت الأخلاق الأوروبية على حقيقتها من خلال عمليات القرصنة التي نفذتها أكثر من دولة أوربية فمنعت إيصال المساعدات الطبية إلى جهتها لتستخدمها في حماية مواطنيها.
وختاماً: أرى أن الصراع بين الصين والولايات المتحدة غير وارد في المرحلة الراهنة رغم التصعيد الكلامي، فالطموح الصيني ليس لبس أن تقود الصين العالم بمفردها، بل لجعل دول العالم تتشارك في قيادة نفسها ورفض الغطرسة الأمريكية، كما أن الصين غير مستعدة ولا راغبة بتحمل نفقات قيادة العالم. ونتيجة لما سبق، ونتيجة قوة وجدية الحكومة الصينية وقدرتها على تحويل الأزمة إلى فرصة ستستفيد الصين وتحقق قفزات اقتصادية في ظل تهاوي اقتصادات أكثر دول العالم.
فالصين تدافع في المقام الأول عن مصالحها، ولا تولي مسألة المعاملة بالمثل إلا النذر اليسير من اهتمامها. والاستراتيجية الصينية لا تسعى في الأساس للانقلاب على النظام الدولي وهدمه، وإنما السيطرة الناعمة عليه بالاعتماد على عامل الزمن والانتظار الإيجابي، وزيادة حجم مشاركتها، والانتشار الواسع على أساس التقبل والشراكة، وقد اتبعت الصين خطة محكمة للتواجد القوي في كل المضائق الاستراتيجية والقنوات الملاحية، منذ إطلاق الرئيس الصيني عام 2013 لمبادرة “الحزام والطريق”، ومن خلالها تعزز الصين مصالحها الاقتصادية مع الدول التي يمر عبرها طريق الحرير من الصين وصولاً لأوروبا.
فالعولمة الغربية ليست قدراً محتوماً، والعالم المعاصر يولد ردود فعل مختلفة على العولمة الغربية. ويعترف المنظرون الأمريكيون بأن بلادهم تسير في طريقها إلى التراجع، وهم في ذلك لا يحاولون تحدي السنن الكونية بل التخطيط لهذا التراجع وإدارته بالشكل الذي يصل ببلادهم إلى أن تكون إحدى قوى الصف الثاني بدلاً من أن تنهار، وعلى حد قول المفكر الأمريكي روبرت كابلان فإنه ليس هناك شيء أفضل بالنسبة إلى بلاده من تهيئة العالم لاحتمال زوالها، وترتيب آلية مناسبة للتراجع المتناسق كي تطيل من أمد بقائها كأمة قوية، مشيراً إلى أن العولمة التي اخترعتها الولايات المتحدة الأمريكية لترسيخ هيمنتها على العالم استغلتها قوى أخرى (على رأسها الصين) كأداة لتقويض النفوذ الأمريكي من داخل هذا النظام.

*كلية الدراسات الدولية ـ جامعة صن يات سين- الصين ـ من سوريا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.