موقع متخصص بالشؤون الصينية

الخبيرة الإعلامية الصينية” درية وانغ” وحنينُ الذكريات لقاعة الصداقة بالخُرطوم

0

خاص موقع الصين بعيون عربية –

أسامة مختار – بكين:

التقيتُ بها لأول مرة منذ سنوات، حين كنتُ في مُستَهلِ مسيرتي بإذاعة الصين الدولية، بينما كانت هي قد بلغتْ سنَّ التقاعد “المعاش الإجباري“ ورغم ذلك، لم تتخلَّ عن شغفها بالمِهنة، بل واصلت العطاء مُتعاونة مع فريق” دسك الأخبار”بالقسم العربي للإذاعة، حيث اعتادت الجلوس إلى مكتبها، محاطةً بالأوراق والنصوص، بعين خبيرة تراجع وتُصحح وتُتَرجِم، وكأنَّها ما زالتْ في أَوْج مسيرتِها المِهنية.

كانت تبدو كشابَة في رَيعانِ العُمر، مُفعمة بالحيوية والنشاط، وكأنَّ الزمنَ لم يترك أثرًا على جسدها أورُوحِها. كانت مُنشغلة بترجمة الأخبار وتنقيحِها، تُؤدي عمَلها بتركيز وإتقان، غير آبهة بالوقت، وكأنَّ شغفها بالمِهنة كانَ وقودها الذي لا ينضب، بالنسبة لها لم يكن التقاعد نهاية الطريق، بل بداية لمرحلة جديدة تُواصِل فيها العطاء بذاتِ الحماس والإتقان، وكأنَّ العمل جزء لا يتجزأً من كيانِها.

الأستاذة درية وانغ مع الأستاذ أسامة مختار

حظيت الأستاذة درية وانغ الخبيرة الإذاعية الصينية الناطقة باللغة العربية بتقدير واحترام كبيرين من قيادة القسم، حيث كانت الأستاذتان فائزة تشانغ لي، وسميرة تساي تشنغ لي ، تنظران إليها باعتبارها أستاذة قديرة وأخت كبيرة، تقديرا لخبرتها وعطائها. ولم يكن هذا التقدير مُقتصرا عليهما فقط، بل هو انعكاس لثقافة الشعب الصيني، الذي يُجلُّ كبار السن ويمنحُهم مكانة خاصة فالتقاليد الشرقية المتأصلة في المجتمع الصيني تُظهر احتراما عميقا للكبار، رُبَّمَا يفوقُ في بعض جوانبِه ما هو موجود في العديد من الدُول الشَرقية الأخرى.

تَوطَّدت العلاقة بيني وبين الأستاذة دُرِية بفضل مَعرفَتِها بالسودان، إذ كانت قد قضت فترة من الزمن هناك، مما جعل حديثنَا ينبضُ بتفاصيل غنية وحيوية عن تلك التجربة. شعرتُ أنَّ حديثَها يحمل بين طياته الكثير من الذكريات المُحببة فاقترحتُ عليها أن ننتقل من مجرد دردشة عابرة إلى لقاء إذاعي . رحبت بالفكرة بكل أريحية، لتتحول محادثتُنا إلى فرصة لمشاركة ذكرياتها مع مستمعينا عبر الإذاعتين السودانية وإذاعة الصين الدولية .

كان اللقاء مميزا ، حيث استعرضتْ فيه تفاصيل تجربتها في السودان، أبرزها لحظاتها في “قاعة الصداقة”، ذلك الصرح الذي يُمثِل رمزا قويا للعلاقة الوطيدة بين الصين والسودان، ويجسد أسمى معاني التعاون والصداقة بين الشعبين. كانت قاعة الصداقة بالنسبة لها مكانا مشبعا بالذكريات، شاهدا على أوقات مليئة بالأنشطة التي تعزز روابط الأخوة بين البلدين.

تَحدثتْ عن تلك الفترة بشَغف، حيث اعتبرتْها تجربة لا تُنسى، شكلتْ جزءا أساسيا من مسيرتها المِهنية والشخصية، وأضافت لها الكثير على مختلف الأصعدة

وكما هو معلوم فإنَّ قاعة الصداقة في السودان هي معلم بارز يعكس عمق العلاقات بين السودان والصين، حيث تم تشييدها في السبعينيات من القرن الماضي أيام جكم الرئيس السوداني جعفر نميري هدية مقدمة من الحكومة الصينية للسودان. تُعد القاعة من أهم مراكز المؤتمرات والفعاليات في الخرطوم، واستضافت العديدَ من الفعاليات الوطنية والدَولية.

مع زوجها في شبابها

كانت إجادة دُرِية وانغ للغة العربية بمثابة جواز مرور سَهَّل لها زيارة بعض الدول العربية لمهام عمل أو لأغراض شخصية، كما أتاح لها العمل في الإذاعة الصينية الدولية الناطقة بالعربية.

بدأت رحلتها مع اللغة العربية في الفترة ما بين 1964 و1969، حيث درست في كلّ من الجزائر والعراق. وفي عام 1975، عملتْ في قاعة الصداقة بالسودان، حيث استمر عملها هناك حتى عام 1977. ثمَّ في الفترة ما بين 1984 و1985، عملتْ مُترجِمة في مصر مع مدربي الجُمبَاز. لاحقا، التحقت بجامعة القاهرة للدراسات العليا بين عامي 1990 و1991

وفي عام 1996، انتقلتْ إلى اليمن حيث عملتْ مُترجمة ضِمن فريق طبي لمدة عامين حتى عام 1998. وبعد ذلك، في عام 2003، زارت مصر والجزائر وتُونس برفقة زملائها في الإذاعة لحضور اجتماعات مع مُستمعي  إذاعة الصين الدولية هناك. أما في عام 2018، فقد زارتْ سلطنة عُمَان والكُويت وسوريا ضمن وفد صحفي تابع للإذاعة.

وكانت هذه المحطات المختلفة في مسيرتها المهنية فُرصا ثمينة للتعرف على العالم العربي عن قرب، والتفاعل مع ثقافته وشعبه، مما عمّق ارتباطها بهذه اللغة وأهلها

مع والدها ووالدتها وأسرتها قبل مغادرتها للدراسة خارج الصين

وعند سؤالي لها عن كيفية تَعلُمِها لهذه اللُغة الصَعبة، وهل كان ذلك عن رغبة أم مجرد صُدفة، أجابت قائلة ” بدأتُ رِحلتي مع اللُغة العربية في عام 1964، حينما تمَّ اختياري ضمن المبعوثين إلى الخارج من قِبل وزارة التعليم العالي، وذلك قبيل تخرجي من المرحلة الثانوية. لم يكن الأمرُ خياري الشخْصِي في البداية، كان اختيار التخصص يتم وفقا لاحتياجات الدولة لكنَّه كان فُرصة ثمينة مهَّدتْ لي طريق تعلم اللغة العربية، ومن ثمَّ دُخول مجال العمل الإذاعي”.

 

واصلتْ حديثَها مُستَرجِعة تلك الأيام: “حينها، كانت الوِزاراتُ والإذاعاتُ والظروفُ مختلفة تماما عما نعيشُه اليوم، لكن حُبّي لهذه اللغة الجميلة ولهذا العمل المُمتع ظل راسخا في قلبي طوال حياتي” . ثم وجهَّت تحية إلى مستمعي الإذاعة العرب، الذين كان لهم دور كبير في مسيرتها، قائلةً: “المستمعون الأوفياء هم من منحوني القوة والشجاعة على مرِّ السنين. علاقتي بهم تشبه علاقة السمكة بالماء؛ هم مياه البحر الواسع وأنا السمكة الصغيرة، ولولا دعمهم، لما كنتُ على ما أنا عليه اليوم”

 

خلال مسيرتها الإذاعية في القسم العربي لإذاعة الصين الدولية، قدمتْ وانغ نشرات الأخبار والبرامج الأسبوعية، لكن برنامج “رسائل المستمعين” كان الأقرب إلى قلبها، حيث وصفته بـ “فلذة كبدها”. وأضافت: “كنتُ محظوظة بمشاركة عدد من الزملاء في تقديم هذا البرنامج حتى بعد تقاعدي، فالعلاقة الوثيقة التي تربِطُ بين المستمعين والإذاعة جعلت لهذا البرنامج مكانة خاصة في قلبي. وبفضله، تمكنتُ من إعادة إحياء الكثير من الذكريات الجميلة واللقاء بالمستمعين الأعزاء”

مع زوجها

أما عن علاقتِها بالسُودان، فتتحدثُ دُرِية وانغ بشغف ودفء، مُستعِيدة ذكرياتها هناك: “عمِلتُ مُترجمةً في قاعة الصداقة بالخُرطوم من عام 1975 حتى عام 1977. ورغم مرور عُقود، من الزمان تبقى ذكرياتي الجميلة عن السودان، هذا البلد الصديق وشعبه المِضياف، حيةً في ذهني، وكأنَّ الزمن لم يمحها”.

ومضت في حديثها، كأنما تَستعيدُ مَشهداً مَحُفورا في ذاكرتِها، وتقول: ” وصلتُ إلى الخرطوم في أواخر مايو 1975، برفقة المهندس ‘سي يو غوان’، رئيس فريق الترجمة الفورية وتكبير الصوت، وعدد من الفنيين الصينيين. لا تزالُ لحظةُ وصولنِا حاضرة في ذهني؛ فور مغادرتِنا الطائرة، استقبلتنا حرارةُ الجو الحارقة. كان الطقس في السودان أشدَّ حرارة بكثير مما اعتدناه في بكين، لكنَّه لم يكن أكثر حرارة من قلوب أهل السودان الكرماء”.

تتابعُ وانغ حديثها بحنين واضح، وكأنَّها تقلب صفحات أُلبُوم ذكرياتِها: “كلما ذكر اسم السودان تتدفق إلى ذهني  ذكريات وصور وابتسامات أصدقائي السودانيين؛ المهندس محمد ولد عيسى زيادة، والفنيين خلف الله محمد بابكر، وفيصل بشير موسى، ووفاء محمد علي، وفتحية مبارك يوسف، إلى جانب زملائي من أقسام دار السينما والمسرح. لقد جمعتنا صداقة عميقة، نمتْ بيننا من خلال العمل المشترك في قاعات المؤتمرات الدولية بقاعة الصداقة بالخرطوم، وأماكن أخرى. ما زلتُ أحتفظ بصورهم، أعود إليها بين الحين والآخر، وأتساءل عن أحوالهم، هل ما زالوا هناك؟ كيف أصبحت حياتُهم؟ أشتاق إليهم وأودُ معرفة أخبارِهم اليوم”

حديث دُرِية وانغ عن السودان لم يكن مجرد استرجاع للذكريات، بل كان استدعاء لمشاعر صادقة، لوطن لم يَكُن وطنها، لكنَّه احتل مكانة خاصة في قلبِها، وبقيتْ أصداء تلك الأيام تتردد في روحها، رغم مرور الزمن.لم تنس أبرز ذكرياتها في الخرطوم. فرغم اختلاف الثقافات واللغات، تقول إنَّها كانَّها كانت بين أهلها. وتستعيد ذكريات تجولها مع الأصدقاء في  الأسواق الشعبية وحضورها للمناسبات الاجتماعية التي أضفت على رحلتِها كثيرا من المشاعر الإنسانية.

تقول دُرِية ” لا يُمكنني نسيان بعض الأحداث والذكريات البارزة، مثل زيارة نائب الرئيس السوداني السابق، أبو القاسم مُحمد إبراهيم لقاعة الصداقة ، الذي أهدانا ثَوريين ، وكانت تلك فرصة لاستمتاعنا نحن العاملين بتناول اللحم السوداني اللذيذ ، كما أتذكر زيارة الملك الكمبودي السابق، الأمير نورودوم سيهانوك، لغُرفة التحكم الخاصة بأجهزة تكبير الصوت والترجمة الفورية في القاعة”

وأثناء إقامتِها في الخرطوم عَبَرتْ دُرية وانغ ضفة نهر النيل مُتجهةً إلى أم درمان المدينة السودانية التاريخية ووصلت إلى إذاعتها العريقة،. تتذكرُ تلك التجربة بامتنان قائلة: “بفضل مساعدة السيد شي، مدير مكتب وكالة أنباء شينخوا الأسبق في الخرطوم، وزوجتِه جيو، أُتيحت لي فرصة التدريب في الإذاعة السودانية بأم درمان لمُدة ثلاثة أسابيع. استقبلني مذيعو ومذيعات الإذاعة هناك بكلِّ ترحاب، وكان لذلك أثر عميق في نفسِي تدربتُ على يد الأستاذتين المذيعتين سكينة عربي، وليلى المغربي (رحمها الله)، اللتين قدمتا لي دعمًا كبيرًا، وساعدتاني كثيرا في تحسين نُطقِي للغة العربية وإتقان فنِّ الإلقاء. تعلمتُ منهما أسرار هذه المِهنة المُمَيزة، ورافقتهما في استوديو الأخبار، وأحيانا في مواقع التغطيات الخارجية، حيث عشتُ عن قرب تجربة العمل الإذاعي بكل تفاصيلها. لقد كانت تلك الأيام من أجمل فصول رحلتي المهنية، وحملتُ معي منها دروسًا لا تُنسى”

مع أحفادها

 

وتواصل حديثها قائلة: ” في 25 مايو 1976، شَهِد الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري بالمسرح الداخلي احتفالا مُهيبا بمناسبة افتتاح قاعة الصداقة ، تزامن مع احتفالات عيد ثورة مايو في السودان. وحضر الحفل كبار المسؤولين السودانيين، إلى جانب وفد صيني رفيع المستوى برئاسة وزير التجارة الخارجية آنذاك. وبعد الكلمات المعبرة التي ألقاها المسؤولون، أضفى العرض الفني المميز، الذي قدمتْه الفرقة الفنية الصينية المرافقة، والمُطرِبون السودانيون من أقاليم السودان المختلفة أجواء من البهجة ، لتُختتَم الليلة بأروع صور الفرح والاحتفاء بالصداقة العميقة بين البلدين ،وكانت الفِرقة الصينية التي رافقت الوفد الرسمي الصيني تضمُ عددًا من الفنانين والراقصين الصينيين المشهورين، من بينهم الصداح” وويانتسي” ،والفنانة السبرانو “جوفون بوه” التي قدمت أغنية “أزيكم”و” أنا سوداني”، والجهير “ما قوه قوانغ” عازفة آلة “آرهو” “مين هوى فين”. حقق الحفل نجاحًا باهرًا استمتع به عدد كبير من الجمهور السوداني وأصدقائهم الصينيين ، تلك اللحظات التي كانت مليئة بالفرح والتصفيق، كنتُ أشعر بالفخر العميق أنني كنت جزءا من تلك اللحظات التاريخية التي جمعت بين الشعبين الصيني والسوداني، وستظل هذه الذكريات محفورة في قلبي، وأتمنى أنْ ألتقِي مُجددا بأصدقائي السودانيين الذين شاركوني تلك اللحظات الرائعة”.

مع زملاء العمل في القصر الإمبراطوري في بكين

 

واختتمْتُ لقائي معها بسُؤال عن سرِّ هذه الحيوية والنشاط، رغم تقدمِها في العُمر أجابتني بكل بساطة إنَّها تحرص على مُمارسة الرياضة يوميا، حيث تخصصُ وقتًا لا يقل عن ساعتين يوميًا للمشي، وهو ما يساعدُها في الحِفاظ على لياقتها البدنية والنشاط المستمر.

لم تقتصر نصائحُها على المشي فقط، بل كانت تُشاركني أيضًا بعض الحركات والتمارين التي تُعيِنُ على علاج الأوجاع الجسدية. تلك التمارين كانت تبدو بسيطة لكنَّها تحمل تأثيرا عميقا في تخفيف التوتر وتنشيط الدورة الدموية، وهو ما يُفسر قصة حيويتَها المستمرة. وبتلك الروح المثابرة، أكدَّتْ لي أنَّ العناية بالجسد والعقل لا تتوقفان مع التقاعد، بل يمكنُ أن تصبح مرحلة جديدة للبداية والنمو.

مبنى قاعة الصداقة بالخرطوم

 

إن ما شَاركتنِي إيَّاه لم يكن مُجرد نصائح عابرة، بل فلسفة حياة ووصفة صينية تؤمن بأهمية النشاط الجسدي كوسيلة للحفاظ على الصحة النفسية والجسدية على حد سواء.

في هذا العام 2025م ، تُكمِلُ دُرِية وانغ عامَها الثَمانِين، وخلال  مُكالمتي الهاتفية الأخيرة معها قبل أيام، كانت لا تزال تتمتع بنفس الحيوية كما أكدَّت لي أنها بصحة جيدة، إلا أن نبرة صوتها تغيرت وبدتْ مثقلة بالحزن، خاصة حينما انحرف الحديث نحو الحرب في السودان. سألتني بقلق عن أهلي وعائلتي، ثم صمتتْ قليلا قبل أن تُعبر بأسى عن حزنِها العميق لما آل إليه الحال في السودان، وكأن قلبَها يشاركنا الألم على وطن مزقته الحرب، وعبرَّت عن أسفِها لما آل إليه الوضع في السودان من حرب ودمار ،متمنيةً أن تظل مَباني محبوبتها  قاعة الصداقة سليمة، بعيدة عن يد العبث والتخريب الذي نال من مؤسسات الوطن مما يدلُ على مشاعرها العميقة تجاه ذلك الصرح فكل رُكن في تلك القاعة يحمل ذكريات جميلة في قلبها، لا يمكن نسيانُها. إنَّها ترى في هذا المكان أكثر من مَجردِ جُدران، بل شاهدًا حيًا على أوقات سعيدة قضتها هناك لن تتكرر، وتمنتْ أن يظل هذا الشاهد حيّا رمزا للصداقة بين البلدين والشعبين الصديقين.

حديث دُرِية وانغ عن السودان لم يكن مجرد استرجاع للذكريات، بل كان استدعاء لمشاعر صادقة، لوطن لم يَكُن وطنها، لكنَّه احتل مكانة خاصة في قلبِها، وبقيتْ أصداء تلك الأيام تتردد في روحها، رغم مرور الزمن.لم تنس أبرز ذكرياتها في الخرطوم. فرغم اختلاف الثقافات واللغات، تقول إنَّها كانَّها كانت بين أهلها. وتستعيد ذكريات تجولها مع الأصدقاء في  الأسواق الشعبية وحضورها للمناسبات الاجتماعية التي أضفت على رحلتِها كثيرا من المشاعر الإنسانية.

تقول دُرِية ” لا يُمكنني نسيان بعض الزيارات والدكريات  البارزة، مثل زيارة نائب الرئيس السوداني السابق، أبو القاسم مُحمد إبراهيم لقاعة الصداقة ، الذي أهدانا (ثَوريين )، وكانت تلك فرصة لاستمتاعنا نحن العاملين في القاعة بتناول اللحم السوداني اللذيذ ، كما أتذكر زيارة الملك الكمبودي السابق، الأمير نورودوم سيهانوك، لغُرفة التحكم الخاصة بأجهزة تكبير الصوت والترجمة الفورية في القاعة” وأثناء إقامتِها في الخرطوم .

عَبَرتْ دُرية وانغ ضفة نهر النيل مُتجهةً إلى أم درمان المدينة السودانية التاريخية ووصلت إلى إذاعتها العريقة،. تتذكرُ تلك التجربة بامتنان قائلةً: “بفضل مساعدة السيد شي، مدير مكتب وكالة أنباء شينخوا الأسبق في الخرطوم، وزوجتِه جيو، أُتيحت لي فرصة التدريب في الإذاعة السودانية بأم درمان لمُدة ثلاثة أسابيع. استقبلني مذيعو ومذيعات الإذاعة هناك بكلِّ ترحاب، وكان لذلك أثر عميق في نفسِي تدربتُ على يد الأستاذتين المذيعتين سكينة عربي، وليلى المغربي (رحمها الله)، اللتين قدمتا لي دعمًا كبيرًا، وساعدتاني كثيرا في تحسين نُطقِي للغة العربية وإتقان فنِّ الإلقاء. تعلمتُ منهما أسرار هذه المِهنة المُمَيزة، ورافقتهما في استوديو الأخبار، وأحيانًا في مواقع التغطيات الخارجية، حيث عشتُ عن قرب تجربة العمل الإذاعي بكل تفاصيلها. لقد كانت تلك الأيام من أجمل فصول رحلتي المهنية، وحملتُ معي منها دروسًا لا تُنسى”.

وتواصل حديثها قائلةً: ” في 25 مايو 1976، شَهِد الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري بالمسرح الداخلي احتفالا مُهيبا بمناسبة افتتاح قاعة الصداقة ، تزامن مع احتفالات عيد ثورة مايو في السودان. وحضر الحفل كبار المسؤولين السودانيين، إلى جانب وفد صيني رفيع المستوى برئاسة وزير التجارة الخارجية آنذاك. وبعد الكلمات المعبرة التي ألقاها المسؤولون، أضفى العرض الفني المميز، الذي قدمتْه الفرقة الفنية الصينية المرافقة، والمُطرِبون السودانيون من أقاليم السودان المختلفة أجواء من البهجة ، لتُختتَم الليلة بأروع صور الفرح والاحتفاء بالصداقة العميقة بين البلدين ،وكانت الفِرقة الصينية التي رافقت الوفد الرسمي الصيني تضمُ عددا من الفنانين والراقصين الصينيين المشهورين، من بينهم الصداح” وويانتسي” ،والفنانة السبرانو “جوفون بوه” التي قدمت أغنية “أزيكم”و” أنا سوداني”، والجهير “ما قوه قوانغ”  عازفة آلة “آرهو” “مين هوى فين”. حقق الحفل نجاحًا باهرًا استمتع به عدد كبير من الجمهور السوداني وأصدقائهم الصينيين ، تلك اللحظات كانت مليئة بالفرح والتصفيق، كنتُ أشعر بالفخر العميق أنني كنت جزءا من تلك المشاهد  التاريخية التي جمعت بين الشعبين الصيني والسوداني، وستظل هذه الذكريات محفورة في قلبي، وأتمنى أنْ ألتقِي مُجددًا بأصدقائي السودانيين الذين شاركوني تلك اللحظات الرائعة”.

واختتمْتُ لقائي معها بسُؤال عن سرِّ هذه الحيوية والنشاط، رغم تقدمِها في العُمر أجابتني بكل بساطة إنَّها تحرص على مُمارسة الرياضة يوميا، حيث تخصصُ وقتا لا يقل عن ساعتين يوميا للمشي، وهو ما يساعدُها في الحِفاظ على لياقتها البدنية والنشاط المستمر.

لم تقتصر نصائحُها على المشي فقط، بل كانت تُشاركني أيضا بعض الحركات والتمارين التي تُعيِنُ على علاج الأوجاع الجسدية. تلك التمارين كانت تبدو بسيطة لكنَّها تحمل تأثيرا عميقا في تخفيف التوتر وتنشيط الدورة الدموية، وهو ما يُفسر قصة حيويتَها المستمرة. وبتلك الروح المثابرة، أكدَّتْ لي أنَّ العناية بالجسد والعقل لا تتوقفان مع التقاعد، بل يمكنُ أن تصبح مرحلة جديدة للبداية والنمو.

إن ما شَاركتنِي إيَّاه لم يكن مُجرد نصائح عابرة، بل فلسفة حياة ووصفة صينية تؤمن بأهمية النشاط الجسدي كوسيلة للحفاظ على الصحة النفسية والجسدية على حد سواء.

في هذا العام 2025م ، تُكمِلُ دُرِية وانغ عامَها الثَمانِين، وخلال مُكالمتي الهاتفية الأخيرة معها قبل أيام، كانت لا تزال تتمتع بنفس الحيوية كما أكدَّت لي أنها بصحة جيدة، إلا أن نبرة صوتها تغيرت وبدتْ مثقلة بالحزن، خاصة حينما انحرف الحديث نحو الحرب في السودان. سألتني بقلق عن أهلي وعائلتي، ثم صمتتْ قليلا قبل أن تُعبر بأسى عن حزنِها العميق لما آل إليه الحال في السودان، وكأن قلبَها يشاركنا الألم على وطن مزقته الحرب، وعبرَّت عن أسفِها لما آل إليه الوضع في السودان من حرب ودمار ،متمنية أن تظل مَباني محبوبتها قاعة الصداقة سليمة، بعيدة عن يد العبث والتخريب الذي نال من مؤسسات الوطن مما يدلُ على مشاعرها العميقة تجاه ذلك الصرح فكل رُكن في تلك القاعة يحمل ذكريات جميلة في قلبها، لا يمكن نسيانُها. إنَّها ترى في هذا المكان أكثر من مَجردِ جُدران، بل شاهدا حيًا على أوقات سعيدة قضتها هناك لن تتكرر، وتمنتْ أن يظل هذا الشاهد حيّا رمزا للصداقة بين البلدين والشعبين الصديقين.

 

أسامة مختار

خبير بمجموعة الصين للإعلام

مع زملائها في قاعة الصداقة بالخرطوم

 

مع زملائها في قاعة الصداقة بالخرطوم

 

مع زملائها في قاعة الصداقة بالخرطوم

 

مع زملائها في قاعة الصداقة بالخرطوم

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.