موقع متخصص بالشؤون الصينية

#الصِّين و #الهِند.. ضَرورَات التّهدِئة والعَقلَنةِ (العدد 76)

0

نشرة الصين بعيون عربية ـ الأكاديمي مروان سوداح*

فجأةً، وبدون سابق إنذار، توترت العلاقات الهندية الصينية من جديد، لكن هذه المرة خرجت عن نطاقها السياسي والدبلوماسي، ودخلت في طريق أخطر قد يؤدي إلى مواجهات عسكرية، تنعكس سلباً على حالة الانسجام والتضامن الحالية السائدة داخل منظمة شانغهاي للتعاون ومجموعة بريكس.
العلاقات الصينية الهندية شهدت منذ الأربعينات المنصرمة للقرن الماضي، توترات خطيرة، أفضت إلى تحالفات آسيوية كادت تنذر بعواقب عميقة، فقد تحالفت الهند مع الاتحاد السوفييتي، أما الباكستان فقد اصطفّت إلى جانب الصين ضد الهند، وكان ذلك على خلفية الخلافات التي اندلعت سابقاً ما بين بيجين وموسكو أيديولوجياً وفي كل اتّجاه، وها هي تستعر اليوم ما بين الهند والصين، برغم تحالف صين شي جين بينغ وروسيا فلاديمير بوتين تحالفاً استراتيجياً وعميقاً لا شرخ أو ارتداد فيه، ووأدهما خلافات الماضي وصَغائِره العديدة مرة وإلى الإبد..
الخلافات الصينية الهندية مردّها الى أن الأراضي التي تُعرف بـ “أروناشال براديش” هي أراضٍ صينية، كانت الهند قد ضمّتها لنفسها خلال الحكم الاستعماري البريطاني وبمساندة كاملة منه، لكن الصين لم تكفّ تطالب بإعادة السيادة عليها. وتفاقم الصراع الحدودي ما بين البلدين، ومُنيت الهند بهزيمة قاسية خلال حرب قصيرة، لكنها دامية، وبرغم ذلك احتفظت دلهي بأراضي أروناشال براديش.. لكن.. بعد انسحاب القوات الصينية منها بهدف وقف النزاع والوصول إلى نهاية سلمية له. ويتفق المراقبون في الشرق والغرب، على أن الزعيم المؤسس (ماوتسي تونغ)، هدف الى تلقين الهند درساً سياسياً وعسكرياً، عندما قام بالسيطرة على المنطقة، ومن ثم الخروج منها عن طيب نيّة وخاطر.
ومنذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية استخدمت القوى الاستعمارية الدولية الـ “دالاي لاما” المتحالف مع واشنطن في حربها على بيجين لمحاولة تسييد الرأسمالية على الاشتراكية. فكان أن تم الاتفاق على توظيف الديانة البوذية وتجييش البوذيين الهنود حربياً لإنجاز مهمة غير مقدسة هي فصل الأراضي الصينية عن بعضها بعضاَ وإضعاف الصين، وتفتيت جزء منها وتفكيك حكومتها المركزية، ومُساندة القوى الخارجية والدولية لـ “دالاي لاما” وتمويله والقوى المؤيدة له من طرف المؤسسات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية والغربية، للدفع بها إلى تكثيف تآمرها على الصين، ولا نخال أن هذا الـ “دالاي لاما” يرتضي بقوى خارجية للنيل منه ومن طائفته، فلماذا يُصرُ إذن وعلى الملأ ورؤوس الأشهاد، على التمسّك بسياسته التدخلية السافرة بشؤون الصين وبغيرها من البلدان المستقلة والسيّدة؟!
وعن هذا الـ “دالاي لاما” يطول الحديث، فهو يدّعي تمثيل البوذيين في العالم وبكونه القيادة الدينية العليا للبوذيين التبتيين، وهو ينتمي إلى جماعة القبعات الصفر التي تُسمّي نفسها (غيلوغبا)، وتعني كلمة دلاي “المحيط” باللغة المغولية، أما “لاما” فتعني “السيد الروحاني”، وهذا يَعني أن مَن ليس له الحق، صار له حق بدون وجه حق لقيادة شعوب عديدة دينياً وسياسياً، ولتوجيهها الوجهة السياسية والإيديولوجية التي يراها مناسبة بتحالفه مع دول وجهات خارجية ويُحدِّدُها هو نفسه وحده!
تقول المصادر المُتاحة، أن (دلاي لاما) الحالي تولى رئاسة الحكومة التبتية المزعومة منذ أن كان عمره لا يتجاوز الـ16 سنة، واستمر في إدارة التبت إلى سن الـ19! وكان انتقل قبل سنوات طويلة الى الهند حيث استقبله رئيس الوزراء الهندي حينذاك جواهر (لال نهرو)، وضمن له ولمن معه الإقامة في تلك الدولة.
وباستقراره في الهند، أسس (دلاي لاما) “إدارة مركزية” لـ”حكومة التبت”، ثُمَّ أتبعها عام 1960 ببرلمان في المنفى! وتوّج كل ذلك بصدور “دستور التبت” عام1963، وترسّخ وضعه كزعيم دنيوي وروحي في آن واحد، لا يأتيه الباطل من جانب! لذلك، ولتماهيه مع السياسة الأمريكية ومراميها ضد الصين وخصوم واشنطن، فقد مُنح جائزة نوبل عام1989، وحظي بـ “تكريم” في كثير من الدول الحليفة لأمريكا، وقلّده الكونغرس الامريكي ميدالية ذهبية عام2007،
وهي أعلى وسام مدني أميركي، في تحدٍ علني ومباشر للصين ولأجل توتير علاقات الهند معها!
التطورات الخطيرة في “القارة الهندية” وعلى حدودها الشمالية، تؤكد أن على روسيا – بوتين الشروع فوراً – الآن بالذات وقبل فوات الآوان ونفاذ السُّبل والأدوات التصالحية – للعب دور رئيسي وأكثر أتّساعاً وجرأة وعُمقاً لردم الهوّة العميقة المُتشكِّلة تاريخياً والتي تتخذ راهناً لبوساً حربياً ما بين الصين والهند، فمن الضروري عَقد إتفاقية نهائية بينهما ترث كل الاتفاقيات السابقة التي وقعها البلدان، سعياً لإنهاء مجموع الخلافات التاريخية والسياسية والحدودية التي أكل الدهر عليها وشرب. فمن غير المنطقي الّسماح بأكثر مما جرى من خلافات وتدخلات أجنبية ترى أن تغلغلها الأنجع في وسط وجنوب آسيا وشرقها، وعودتها للسيطرة عليها، إنّما تنجح من خلال مواجهات بين الدول التي تُعتبر اليوم ركائز رئيسية لمستقبل البشرية وسلامها، فإقليم هذه الدول غني بثرواته الطبيعية التي تكفي العالم بأقصى استغلال يومي ومحلي وكونيٍّ الى مئات السنين القادمات!
المخاطر التي تتحفز اليوم للتفاعل والانطلاق في كل اتجاهات آسيا والعالم هي أن الهند والصين وروسيا أعضاء رئيسيون في منظمات دولية “ضاربة” قد تغدو الأكثر فعالية في العالم على الإطلاق، وقد تخلف بالتدريج “منظمة الامم المتحدة” التي تسيطر عليها الولايات المتحدة التي تتحكم بقراراتها وفعالياتها وحتى بوصول أعضاء المنظمة الأممية إليها، لحضور اجتماعاتها من خلال الأراضي الامريكية!
واشنطن سعيدة اليوم ومسرورة ـ كما لم يكن مِن قَبل ـ لاندلاع شرر الخلافات مابين الصين والهند. فقد لاحظتُ شخصياً بأنها نجحت – كما يبدو – في إستمالة الهند الى صَفّها، وها هي – كما توصلت في تحليلي للحالة الراهنة – تتمنى توسيع خلافات نيودلهي مع بيجين فالمضي قدماً إلى الأمام في عملية تسجيل نقاط جديدة وإضافية في صِراعها من أجل تمكين نفوذها وتسهيل وتيسير آفاقٍ مضمونة لعملانية طويلة الأجل وآليات “أنسب” لتستحوذ على القارة الآسيوية، ولـ “تَحمِية” الحدود الدولية القائمة للصين وروسيا والهند، بتشجيع مزيدٍ من التوترات في الإقليم الآسيوي الواسع، ولدفع الفلبين للتراجع عن علاقاتها الإيجابية مع الصين، ومحاولة دمجها مع دولٍ في (آسيان) للعودة على بدء مواجهات شاملة و”حارة” مع بيجين، ولإيصال النزاعات ما بين دول الإقليم إلى حالة لا يُمكن مُعَالجتُها أو الرجوع عنها، فتكون أمريكا قد تمكّنت والحالة هذه من القارة القديمة ورسخت فيها.
الصين تتفوق علمياً وتقنياً وعسكرياً على الهند، على الرغم من أن بعض الساسة الهنود يُكابِرون بعكس ذلك. ونحن لا نتمنى قيام أي حرب على أية دولة وشعب، ونتوسل السلام الأكيد للجميع مع الجميع، لكن الصواريخ النووية الصينية العابرة للقارات تستطيع إصابة أي هدف على الأراضي الهندية، ويُمكنها القضاء خلال دقائق قليلة على كبريات المدن الأهم اقتصادياُ وصناعياُ، وبخاصة تلك الحدودية منها، والتي لا تقوى حتى على مجابهة الصواريخ الصينية قصيرة المدى.
لقد لفت نظري في سنوات قليلة سابقة تصريحات بعض الساسة الهنود للصحفيين والإعلاميين الأردنيين، يُؤكدون!” فيها تفوّق الهند على الصين وبمستقبل تشغل فيه الهند موقع الصين عالمياً!
إن مثل هذه التصريحات الموجّهة للصحافة والرأي العام، لا يمكن أن تكون مٌجرّد وجهات نظر أو قراءات تحليلية لوقائع إقتصادية وتنموية، إنما تشي بأن القيادة الهندية تنشغل، كما يبدو للعين والأُذن، بعملانية التفوّق على دول أُخرى، وبأنها مَسكونة بهاجس العَظمة والقوة الطاغية المتطورة والدور الرئيس في آسيا والعالم إقتصادياً وعسكرياً، سيّما القيادة الهندية الحالية التي تُعبّر عن مصالح المتطرفين الهندوس وتوجهاتها المناهضة لفلسطين وحقوق شعبها وانسجاماً مع الكيان الصهيوني – فمَن يرى في ذاته بديلاً للآخر وللعب دوره، يكون عادةً في موضع المُتحفّز لتحرير “الجني” من القُمقم لتوجيهه إلى صراع مع هذا الآخر عاجلاً أم آجلاً، وهو ما بدأ اليوم بالتكشّف في سياسة دلهي التي نأمل أن تلعب روسيا دور تبريد الرؤوس الحامية فيها لمصلحة الهند نفسها أولاً، ولمنفعة جميع دول وشعوب آسيا والعالم ثانياً، وللجم التوسّعية الأجنبية في القارة ثالثاً، لتجنيبها الويلات، إذ أن واشنطن لن توفّر في عملانيتها الحربية أية عاصمة ومن بينها دلهي في الشهور أو السنين المُقبلة، وستدفع بها حتماً لتلعب الدور الأول في النزاع مع الصين وغيرها، وسوف تستغلها أبشع استغلال وستوظف قوى الهند لفرض التراجع الاقتصادي والاجتماعي على الهند نفسها وتوريطها في حروب لا نهاية لها، لذلك نناشد التمسّك برباط التعقّل والتهدئة في علاقات الهند والصين طمعاً في ذكائهما وبُعدِ بصيرتهما السياسية. \

*رئيس الإتحاد الدولي للصَّحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء وحُلفاء الصّين.
*المَقال خاص بالنشرة الاسبوعية لموقع الصين بعيون عربية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.