موقع متخصص بالشؤون الصينية

“عالم الجليد بهاربين”: سحر الطبيعة ومهارة النحاتين

0

صحيفة الشعب الصينية ـ
غسان ابراهمي، مدون تونسي مقيم ببكين

مرّ على وجودي في الصين زهاء 3 سنوات، شغلني خلالها العمل وأقعدني فيها الكسل عن السفر خارج بكين. وكم وددتُ أن أزور مناطقا ومدنا صينية أخرى لأكتشف معالمها وأغوص في أغوار طبيعتها.

مع حلول عطلة الربيع قررتُ أخيرا وبدفع من زوجتي أن أخرج من قوقعتي داخل بكين، فوقع اختيارنا على مدينة هاربين شمال الصين، التي تبعد 1250 كم عن العاصمة بكين. وعيننا على مهرجان عالم الجليد ذائع الصيت.

لا أخفي سرا، أنا الذي أستشعر البرد في أوصالي بمجرد رؤيتي للجليد على شاشة التلفاز، بأنني احتجت إلى جرعة قوية من الشجاعة كي أرمي بنفسي في أحضان برد قارس لم تعتده دمائي العربية. فهاربين التي تلتحف بردائها الأبيض الناصع، ترزح في هذه الفترة من كل سنة، أسفل درجات حرارة دون 15 تحت الصفر.

كان لزاما أن أتسلح بأثقل ما لدي من ملابس صوفية، علاوة على الملصقات الحرارية بالقدر الذي اعتقدت، توهما وتحميسا للذات ربما، بأن ذلك سيكون كفيلا بإذابة الجليد تحت قدميّا.

انتقلنا إلى هاربين على متن طائرة خطوط داخلية. ومع تحليق الطائرة فوق ضواحي هاربين، التي يغلب عليها الطابع الريفي، شدّني اللون الأبيض الطاغي على اليابسة، وكأن الطبيعة أرادت أن تيسّر على نفسها مهمة طلاء الأرض فاختارت لونا واحدا قريبا من القلب مريحا للنفس. غير أن بعض الأشجار والمباني المتناثرة هنا وهناك، قد تمردت بألوانها المختلفة على البياض السائد، لتعطي للوحة جمالية أكبر.

مع خروجنا من المطار بدأت نسمات البرد تلسع وجهي، المكان الوحيد المكشوف من جسدي. غير أن برودة الطقس لم تكن بالحدّة التي توقعتها.

توجهنا عشية وصولنا مباشرة إلى الوجهة السياحية التي طالما شدني الحماس إلى زيارتها: عالم الجليد.

سمعتُ سابقا عن جمال هذا المكان ومنحوتاته الجليدية، ما جعلني أتوق إليه. وصلنا إلى مقصدنا مع بدء نزول أول خيوط الظلام في سماء هاربين، التي كانت مليئة بالغيوم، ولا أثرا للقمر أو النجوم.

اقتطعنا تذكرتين بسرعة، ودخلنا عالم الجليد الساحر…!

تأتي على المرء لحظات يعجز فيه كل ما لديه من زاد لغوي، على وصف جمال ماتراه عيناه حق وصف.

ذلك ما شعرت به، حينما وقع بصري على أول منظر من مناظر عالم الجليد: قصور ومبان جليدية، تتراقص حولها الأنوار البهيجة. مشهد يبعث السعادة في قلوب الزائرين، تملّكني المشهد فغصت فيه وأنا أنقل نظري من نحْت إلى آخر.

سارعتُ إلى أقرب مبنى جليدي ونزعتُ القفازات لأتلمسه بيديّا العاريتين،منحتُ لعقلي مساحة من الزمن لأستوعب ما نقلته إلي ّحواسي، فجرعات السحر والجمال التي انكشفت فجأة أمام عينيّا أكبر من أن استوعبها في لحظات.

تبادرت إلى ذهني العديد من الأسئلة، كيف استطاع النحّاتون تشييد كل هذه المباني والقصور من الجليد؟ كيف تمكنوا من تطويع وترويض مادة اجتمعت فيها قساوة البرد مع صلابة البنيان، لينحتوا منها مجسمات وتماثيل تأسر الألباب؟ لكن سرعان ما قطعت عني زوجتي حالة التفكير، ودفعتني نحو مبنى جليدي من طابقين. فسارعنا الخطى بغية الظفر بمكان مناسب لالتقاط الصور.

على سطح هذا المبني اتخذنا موقعنا متسلحين بهواتفنا لإلتقاط أجمل الصور.

حلّ الظلام بالكامل على عالم الجليد الأبيض، بينما تتنقل في كل اتجاه حشود كبيرة من الناس، أكثرهم يرتدون ألوانا داكنة، فبدوا لي وكأنهم قطع من حجارة الشطرنج المتمردة على قوانين اللعبة. حيث يقلب الناس حواسهم في كل مكان، يشهاهدون الجليد المرصوص، والقصور المختلفة الأشكال والأحجام. منها ما شيّيد على الطراز الشرقي، ومنها ما بني على الطراز الغربي. وهناك زخرفات شكّلت من ألوان الإضاءة والأنوار، قد حُشرت بعناية بين مكعبات الجليد فصبغ على الجمال زخرفة حسية أخرى بعثت الحياة في القصور والمباني، لتحول عالم الجليد إلى عالم الأنوار وسط بحر من الظلام.

تتغير الألوان في تناسق وانسجام فيما بينها فيصبح القصر زهريا وسرعان ما يتحول إلى الأزرق فالأصفر ومثل ذلك كثير. ورغم ثراء الإضاءة وتلئلؤها المثير للإعجاب، لكنك لاتجد أثرا للأسلاك الكهربائية، التي قد يؤثر ظهورها على جمال ونقاء المشهد. كما حاولت أن أتبين شواهدا على وجود عناصر الإنارة داخل تجاويف الجليد فلم أستطع لذلك سبيلا.

استرعى انتباهنا انتشار كثيف لتماثيل ومجسمات شفافة بمختلف الأحجام والأنواع، تماثيل غاية في الاتقان. منها مايجسد أبطالا وفرسانا وأخرى لحيوانات كالطيور والدلافين والنمور والخيول المجنحة وغيرها.

غير بعيد مني، لمحتُ عربات صغيرة مكشوفة، تجرها أيائل وأخرى تسحبها كلاب بفراء كثيفة، تقيها شراسة البرد. كما رأيتُ عربات غير مكشوفة تجرها قاطرة مشكلة ما يشبه القطار السياحي ذي النوافذ البلورية. فأسرعت الخطى نزولا إليها ومررنا على الأيائل لالتقاط بعض الصور فتلك هي المرة الأولى التي أحظى فيها برؤية هذا الحيوان بشكل مباشر. بدى على الأيل اللامبالاة بنظرات الزائرين وبأضواء هواتفهم.

ركبنا عربة القطار السياحي غير المكشوف وقاية من برد بدأ يتسرب إلى أوصالنا.

سار بنا القطار في أرجاء عالم الجليد، فالتقطنا الكثير من الصور المدهشة، ثم توجهنا إلى فضاء جانبي مخصص للتزلج على الجليد، حيث يوجد أعدادا لاتحصى من الرجال والنساء، الصغار والكبار، بصدد التزلج من أعلى الربوة إلى الأسفل.

جاءت اللحظة التي كنتُ أخشاها! لقد لفظت الملصقات الحرارية أنفاسها الأخيرة! وبتْنا فريسة سهلة للبرد للدغات البرد القارص، فغادرنا عالم الجليد مجبرين لا راغبين على أمل العودة مرة أخرى.

حينما تزور عالم الجليد بهاربين، ستجد نفسك أمام حضرة عالم خرافي من الإبداع، يمتزج فيه سحر الطبيعة بأنامل النحاتين المهرة. فتتشكل أجمل اللوحات الفنية، لكنك أمام هذه اللوحات، لن تكتفي بالمشاهدة فحسب، بل ستصبح جزءا منها تتحسس ألوانها وتتذوق جمالها وتسبر أغوارها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.