موقع متخصص بالشؤون الصينية

الدور الشريف للغة الروسية في الاردن والشام الكبرى

0

marwan-soudah-russian-language

 

موقع الصين بعيون عربية ـ
مروان سوداح*

اللغة الروسية في الاردن هي اللغة الأجنبية الثانية المَحكية شعبياً بعد الإنجليزية، والثالثة بعد اللغة الآم – العربية، بينما تراجعت شعبية وانتشار عدد من اللغات الاخرى، برغم أنها منتشرة في الاردن منذ سنين موغِلة في القِدم، لكن تراجعها على الصّعيد العالمي والاوسطي، أدى إلى تقهقر مواقعها مَحلياً، وضعف الاهتمام بها وبإحيائها شعبياَ.

واليوم، يعمل المركز الثقافي الروسي في العاصمة عمّان، وهو الذي وَرث المركز الثقافي السوفييتي الذي كان أغلق في أوائل تسعينات القرن المنصرم، في إتجاهات كثيرة وكبيرة في مساحاتها الثقافية والفنية والتعليمية واللغوية. وهذه الأنشطة باتت تجتذب مزيداً من الأوساط الاردنية سنة في إثر سنة، لمعرفة روسيا الصديقة والتصادق معها والتثاقف وإيّاها، وتعزيز مسيرة مئات السنين من العلاقات المُميّزة بين العالمين العربي والسلافي، وبضمن العالم العربي تلك المنطقة التي يقوم عليها الاردن الحديث، والتي قامت عليها كذلك دول عربية وحكومات، وسكنتها قبائل عريقة جَسّرت العلاقات والروابط النافعة مع الروس.

ومِن خلال الشعبية المُتّسعة للغة الروسية بالاردن، يُمكن لنا فهم وإدارك أسباب التقارب الجاري منذ سنوات طويلة بين روسيا والاردن على كل الصُعد، وهو تقارب بدأ حتى قبل سنوات عديدة من إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين بتاريخ (21 أغسطس/ آب عام1963). فرافعة اللغة بالذات كانت السبب الرئيسي الذي أفضى الى تقارب الشعبين الاردني والروسي وتوسيع مجالاته، وبخاصة من خلال التصاهر، فالتناغم على نطاق واسع، فتشكيل عائلات اردنية روسية مختلطة كثيرة العدد، حتى أصبح الروس في الاردن أحد أهم المكوّنات الاجتماعية الرئيسية، حين تراهم يعملون بإخلاص في كل مكان بدون استثنناء، ويعيشون ويَحيون في الكثير جداً من القرى والمدن على حد سواء، وينجحون في تنفيذ أشغالهم وأعمالهم كخبراء وعاملين منتشرين في غالبية المستشفيات الحكومية، وتلك التابعة للقطاع الخاص، والعيادات الصحية والطبية الخاصة، والفاعليات الهندسية، والإعلامية، والمصانع، والأماكن الثقافية والفنية الخ.

وفي دخول اللغة الروسية الى الاردن، ضمن بلاد الشام، تاريخ شريفٌ و طويل ومُمْتع لا يمكن ان يتسع له سرد مُختصَر في مقالة كهذه. لكن، من المهم الإشارة الى أن انتشار الروسية في الاردن، كان من خلال انتشارها المُتّسع على الدوام في بلاد الشام الكبرى، خلال الحكم القيصري الروسي، قبل وبعد تأسيس القياصرة الروس للجمعية الامبرطورية الارثوذكسية الروسية – الفلسطينية، التي أخذت على عاتقها تدريس عددٍ كبير من الفلسطينيين مجاناً، في 113 مدرسة أقامتها في فلسطين التاريخية، واخرى خارجها، وتدريسهم مجاناً كذلك في جامعات روسية كبرى، خرّجت فطاحلهم مِن كلياتها، ومنهم البروفيسورة والمُستعربة الفلسطينية كلثوم عودة فاسيليفا التي تزوجت أميراً روسياً، وأضحت مُستعربة ومستشرقة عظيمة لروسيا، وحازت على أوسمة وميداليات تقديرية رفيعة المستوى من السلطتين القيصرية والسوفييتية.

ولا يجب أن ننسى أيضاً الأديب الكبير ميخائيل نعيمة، والى جانبه عدد كبير من عُظماء الكلمة والفكر العرب، الذين درسوا في المدارس والمَساقات و “السيمينيرات” الروسية، ومنهم على سبيل المِثال لا الحصر: الأديب والمربّي خليل السكاكيني؛ والعلامة الفلسطيني بندلي الجوزي (وقد دَرَسَ ودَرَّسَ في موسكو)، وثلاثة من أركان الرابطة القلمية في أمريكا من السوريين – اللبنانيين: رشيد أيوب/ وعبد المسيح حداد ونسيب عريضة وغيرهم.

لكن، يجب التأكيد على حقيقة ساطعة يَعرفها البحّاثة والمتخصصون، وهي أن انتشار الروسية ودورها الشريف في الاردن، يَعود الى ما قبل تأسيس السلطة السوفييتية وروسيا المُعَاصِرة. ففي زمن القياصرة الروس كانت العلاقات العربية الروسية مزدهرة، وكانت روسيا بقياصرتها وشعبها يُقدّمون المساعدات الانسانية والعسكرية والسياسية بلا مقابل للعرب عموماً، وللثوار العرب في بلاد الشام وجبل لبنان من خلال إمدادات حيوية تحملها للعرب السفن البحرية الحربية الروسية وبحّارتها. واستمر ذلك كله في العهد السوفييتي، حين كان ستالين يُرسل المساعدت وحتى المالية منها للعرب في الشام الكبرى، ويَشد من أزرهم بمواجهة العدو المشترك، النازي الهتلري، والفاشية الايطالية والعسكرتارية اليابانية، وجميع هذه القوى المُستشرية كانت قاب قوسين أو أدنى من إحتلال البلدان العربية في أسيا وأفريقيا، ليس من خلال الجنرال رومل وحده فحسب، بل ومن خلال “دُفعة أُولى” من المظليين الألمان الذين تم إنزالهم “بالبرشوتات” على مدينة أريحا الفلسطينية، غربي نهر الاردن، ومن خلال حكومة فيشي الاستعمارية الفاشية في دمشق ومن خلال غيرها أيضاً.

لكن العلاقات العربية الروسية وبضمنها منطقة الاردن تعود الى أزمان سابقة، وحتى الى ما قبل سنة523، حين تأسّس شارع “أربات” الشهير، بوسط موسكو، الذي شهد زيارات كثيفة للتجار العرب الذين تاجروا مع روسيا، وعرضوا بضائعهم في هذا الشارع بنشاط منقطع النظير ويُحسدون عليه للآن! فقد كانت العلاقات بين الطرفين تمتد الى كل المجالات المُتاحة بين روسيا والعرب.

كان العرب أنذاك يربطون خيولهم في جنبات الشارع بأربطة يَمنعها من الإفلات وتُبقيها في عين المكان، ولهذا بالذات سُمّي الشارع بهذا الاسم. وأربات كان الشارع الأقدم للمشاة في موسكو، وكان كذلك شارعاً للبرجوازية الروسية وقصور النبلاء، وأغنى موقع في المدينة، والأكثر جذباً. واليوم هو مجاور لوزارة الخارجية الروسية، التي تعتبر بنايتها واحدة من أجمل بنايات العاصمة الروسية.

لكن أهمية الشارع تعود ليس للتجارة المُجرّدة فحسب، لكن في أن توظيفها في موسكو بالذات كان لصالح المعنى الشريف للتعاون العربي – الروسي النشط والعميق، الذي ولّد بلا توقف توسيعات متواصلة للتبادلات بين العرب والروس في كل الاتجاهات، وواحدة من هذه كانت اللغة الروسية، حيث عرفتها أوساط كثيرة وكبيرة من العرب، في بلدان العرب العديدة، فعرفوا الروسيا من خلال التجارة والتصاهر العربي الروسي لكن منذ ما قبل ذلك الوقت، فقد كان ذلك عندما تم تعميد الروسيا ونشر المسيحية الُأُرثوذكسية في فيافيها، فتطلعت “الروسيا الكييفية” نحو بلاد الشام بعيون تفيض بالمحبة أحياناً، ودامعة في أحايين اخرى، بسبب المأسي المتلاحقة التي كان الاستعمار الغربي يُلحقها ببلادنا العربية، ما أفضى الى جانب أسباب أخرى عديدة، الى تأسيس “الجمعية الامبرطورية”، فاعتبار “الشرق العربي” تخوم روسيا الجنوبية وسياجها ونبعها الثقافي والديني الذي يضم الاسلام والمسيحية. وللحديث بقية..

* *كاتب وصحفي وباحث متخصص بالشأنين الروسي والصيني ورئيس مجموعة أصدقاء روسيا للكتّاب والإعلاميين العرب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.