موقع متخصص بالشؤون الصينية

مَذبحة نَانجينغ.. مُعالجات وكَلمات بَاكيات

0

موقع الصين بعيون عربية ـ
سليم السراي*

في فترات نشوء البشرية لم تخلو ساحاتها من أناس طيبين، صالحين وأصحاب بصيرة ثاقبة، ارتقت مشاعرهم الى حدس رؤية الواقع الإنساني والسير في طريقه، وثبتوا على الحق دون انحراف حيواني أو عدواني، لكنهم لم يجدوا الآذان المُصغية إليهم، حيث تبّددت دعواتهم نحو الاستقامة ونبذ استخدام العنف مع الآخرين، لكن هذا لم يكن يَعني إنعدام وجود النبلاء و الفُضلاء، ولا يؤشّر هذا كذلك الى قصور في المبادئ التي كانوا يَدعون الناس الى الاجتماع حولها، لكن طبيعة الظروف في المرحلة التي عاشوها سبّبت فقدان الأنصار والأبصار، وأدّت الى مفاعيل سلبية إتجاه المرحلة التي عَايَشوها، إذ ازدحمت وقتها السلبيات التاريخية، فلم يُصغِ المجتمع إليهم، فقد كان ناس المجتمع أنذاك مُساقين في إطار ما يُطلق عليه اليوم ( الإعلام المُوجّه )، إذ أن ارتكاب العنف بحق الآخرين كان سِمة واقعة لا تسمح لأي مُصلح ان يُطفئ نارها الهدّامة، فكان الغزو المسلح بقواه طاغية، والتفوّق يتوالى على مصائر الشعوب توالي الشهيق والزفير.

إن المذبحة الجَلل التي ارتُكبت في عام 1937 ضد شعب نانجينغ الصيني خلال فترة الغزو الياباني للصين – حين كانت نانجينغ عاصمة الصين القديمة ودُعيت حينها بـ ( عاصمة الجنوب ) – راح ضحيتها أكثر من 300 ألف مواطن مدني صيني غير مسلح، ما بين أطفال وشباب وشيوخ، واغتصب العسكريون اليابانيون أكثر من 20 ألف إمرأة صينية تم إستخدامهن لِ “ترفيه الجيش”. لقد كانت مجزرة مروعة حقاً تعطينا صورة واضحة للأتجاهات السلوكية للبشرية في ذلك العهد غير البعيد عن حاضرنا الذي نعاني من وقائعه المأساوية بشدة أيضاً. ويَحق لنا هنا أن نتساءل: وأي انتصار كان أنذاك في نانجينغ؟ إنه انتصار رخيص، كان بدأ باستخدام السلاح، وإنتهي على جثث الأبرياء التي أخذت تسبح بدمائها، إذ كادت قلوب الناس تفر من أماكنها من شدة الخوف والهلع الذي لمسته وشاهدته على أيدي مخلوقات هي الأبشع، موسومة بالبشرية.. إلا أنها شياطين جهنمية تسربلت بهيئات إنسانية..

لقد استغلت العسكرية اليابانية في ذلك الوقت حالة الخلافات الحادة التي إتّسم بها الأفرقاء داخل كيان ما يُسمّى بِ”الحكومة الصينية” لِ”كومينتانغ” وفي الصين عموماً، وهذه الخلافات أسهمت بشكل مباشر في تقدّم قوات الغزو الياباني إتجاه العُمق الصيني بسرعة، لكن هذا لم يكن يعني بأي حال من الأحوال تبرير العدوان ومنح الأعذار والمَشروعية لحالة الغزو الياباني العسكري أو التشريع له والى ما أفضى إليه فيما بعد في شكل جرائم غزو يابانية، منها جريمة مذبحة نانجينغ ضد السكان الآمنين، واستخدام الغزاة أنواعاً من الأسلحة كانت الأكثر فتكاً بالسكان المسالمين، ومنها الجرثومية والكيميائية، لا سيّما في مناطق مختلفة في الصين. وقد صاحب تلك الهجمات الوحشية أنذاك، تدمير كل مظاهر الحياة وأسباب تواجدها واستمراريتها، ونهب خيراتها وأموال الناس البسطاء والمنكوبين، بل أن الأمر كان أيامها “حصيلة طبيعية!” أيضاً لتصرفات الحاكمين الانتهازيين المُتدثّرين كذباً بالوطنية التي تكشّف فسادها بما ارتكبوه من جرائم وأفعال غير منضبطة وغير عقلانية. وبتعبير آخر، كان “الأمر” جُموحاً دموياً لأنفس حاكمين متأبطين شراً، ولسيادة حالة من التباغض والتنافر والحسد فيما بينهم، وبالتالي يتحمل أفرقاء الصراع هؤلاء مسؤولية كل الخسائر التي أُلحقت بنانجينغ والصين وشعبها ووطنييها وتقدّمييها، وما أدّت إليه من نتائج دامية ودموية وحزينة.

في ذكرى مذبحة نانجينغ، لا يمكن بأي حال من الاحوال، أن يُشرّع أحد ما الجريمة أو يُنكر حدوثها. وأن رفض البعض وقوع الجريمة ونكرانها فليس من الواقعية بمكان، فحالة الغزو وقعت وهي حقيقة ثابتة، ولطالما ذكّرت بها كتب التاريخ والوقائع ومجموعات الذين لا زالوا أحياء يرزقون، فهم كانوا عايشوا تلك الفترة الأليمة، وهم ينتمون الى الطرفين (الجَاني والمَجني عليه)، المُستَعْمِر والمُستَعمَر، وبذلك فإن وقوع المذبحة هو أمر لا جدال في صحته أبداً، ولا يمكن إحباطها تاريخياً. وبالتالي لا يَصح نكرانها أو الالتفاف عليها أو تهميشها، والى جانب ذلك لا يجب تفريغ المعاني السامية من سموّها بخاصة تلك الساعية الى دعوات المصالحة للمجتمعات الأنسانية، وحق العيش الكريم والسيادي لجميع البشر بدون استثناء، ذلك أن الاحترام الكامل من الانسان لأخيه الأنسان، هو الضمانة الوحيدة من أجل استقرار المجتمعات في أي مكان، وبالتالي “تغيير الزمن” وتحويله سلمياً لصالح إنسانية البشر وصلاحهم.

نَعلم أن حكومات عديدة اعتذرت عن (الأخطاء!!!) والخطايا المميتة التي ارتكبتها قواتها العسكرية خلال مرحلة من مراحل تاريخها، واعتذرت كذلك عما نتج عنها من آثار وأضرار نفسية وجسدية وفقدان للكثير من الأرواح البشرية البريئة، مما سبب معاناة لتلك الشعوب التي وقعت تحت سيطرتها الاستعمارية غير المُبررة بأية تبريرات، ذلك ان تلك الاهوال لا زالت تثير في النفوس آلام الماضي التي تتخللها روح انتقامية. وهناك بعض الدول التي أعلنت ندمها عَما حدث، ونطقت بكلمات صريحة أمام القانون الدولي وشعوب العالم رغبة بإنارة طريق السّلم أمام المجتمعات، ولأجل أن تكون دولاً مسالمة ولا تستخدم السلاح ضد أي شعب، ومن أجل العبور من مناطق الخطر الى مناطق الأمن، ليسود الأمان والسلام جميع المجتمعات، رغبة منها بسيادة التعايش السلامي.

وتقول الأنباء أن الصين واليابان سبق وأبرمتا معاهدة صلح وسلام خدمة لشعبيهما، وفي ظل هذه المعاهدة والأجواء الجيدة التي شهدها العالم ما بعد التوقيع عليها قبل 40 عاماً، أصبحت الصين اليوم من الدول التي تستضيف الاستثمارات اليابانية التي تعزّز الثقة بين الجارين الجغرافيين، ورغبة الصينيين بسيادة مبادىء الآمان والسلام.

لقد تحمل الشعب الصيني الصديق الكثير والكثير من مآسي وجرائم الحرب خلال فترة الغزو الياباني لأرضه المسالمة، وعلى البشرية جمعاء ان تقطع أشواطاً جديدة نحو الاستقرار والتعاون المشترك.. نحو مرحلة جديدة وجيدة تتسم بالنضج الفكري – الإنساني الحميد، وأن يُتخذ من تلك الجرائم البشعة علامة لوقف أية شطحات عسكرية في المستقبل، لكونها نذير شؤم يؤدي الى دماء وأشلاء، وإعراب عن تدنٍ أخلاقي إتجاه الشعوب والامم الأخرى، فمن حق الانسان، أي إنسان، ان يعيش على هذه الأرض الشاسعة التي ولد فيها بحرية وآمان وسلام، وليس من حق أحد بغض النظر عَمن هو، التجاوز على أي إنسان مهما كانت الأسباب التي تختلقها سياسات الحكومات، أية حكومات.

إن للانسان إحساس مرهف بشخصيته وكيانه المستقل والسيادي، ولا يحق لأحد أن يسلبه هذا الشعور الكياني العميق والمُتجّذر، ذلك ان الانسان يمتلك كيانية اجتماعية طبيعية قوية وفعّالة تُسيّر سلوكياته، وهو يوظفها نحو مزيد من الاندفاعات للقاء ببني جنسه البشري أينما نقلته قدماه في أرجاء المَعمورة، ومن العار أن تشهد البشرية اليوم صراعات دموية يذهب ضحيتها ملايين الناس الأبرياء، ولكن مهما حدث من مآسي وخطايا بحق البشر يقترفها الانسان ضد شقيقه الانسان في الانسانية والشعب ضد شعب آخر، إلا أن الانسان غالباَ ما يعود في نهاية المطاف الى رشده نادماً ومعتذراً ومُكفّراً عن خطاياه جرّاء فِعلته الضالة عن الصراط المستقيم، وتعود الشراذم البشرية بعد جرائمها لتداوي جراحها، ولتتواصل فيما بينها لأعادة إعمار بيئتها ومجتعاتها (!)، والخاتمة المَرجوّة والمأمولة هي السلام والسلام الحقيقي والآمان الحق لجميعنا شعوباً وأفراداً.

*الاستاذ سليم السراي (العراق): أحد مؤسـسي الإتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب أصدقاء (وحُلفاء) الصين وعضو في هيئة مؤسسي “الاتحاد الدولي”، وناشط إتحادي وإذاعي دولي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.