موقع متخصص بالشؤون الصينية

توتر متزايد في العلاقات الدولية فأين موقع الصين؟

0

صحيفة البيان الإماراتية ـ
د. مسعود ضاهر:

يشهد العالم حالة من الغليان غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. وتلعب الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأوروبيين، دورا أساسيا في تحريك ومساندة غالبية الانتفاضات الشعبية التي تعمل على إسقاط الأنظمة التسلطية القائمة في بلدانها منذ عقود عدة.

في المقابل، تبدو الصين التي تحتل المركز الأول في نسبة النمو السنوي المرتفعة والإنتاج الكثيف على المستوى الكوني، والمرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي منذ العام 2010، وكأنها تنأى بنفسها عمدا عن تلك الانتفاضات، وتتبنى شعارات عمومية حول ضرورة حل الأزمات بالطرق السلمية، ومساندة الأمم المتحدة على لعب دور فاعل في حل النزاعات القائمة بالطرق الدبلوماسية، ومنع تحولها إلى حروب إقليمية تهدد السلام العالمي.

لكن بعض المحللين المطلعين على الأوضاع الصينية، يشيرون إلى أن الصين اليوم في موقع الدول الأكثر استفادة من الحلول السلمية. فرغم التبدلات الإيجابية الكبيرة التي توفرت لها خلال العقود الثلاثة الماضية، ما زالت الصين بحاجة إلى مزيد من الاستقرار في النظام العالمي الجديد. كما أن حل المشكلات المعيشية والصحية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية لأكثر من مليار وثلاثمائة وأربعين مليون صيني، لا يمكن إنجازها خلال سنوات قليلة على البدء بسياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978.

يواجه النظام العالمي الجديد بقيادة القطب الأميركي المنفرد، أزمات حادة على مختلف الصعد. وتمر الولايات المتحدة في أزمة اقتصادية حادة، تتزامن مع إخفاقات كبيرة على المستوى العسكري، بعد تبنيها سياسة الحرب على الإرهاب التي قادتها إلى احتلال العراق، ومحاولة السيطرة على أفغانستان، ومساندة الانتفاضات الشعبية على تغيير أنظمتها بالقوة، والدعم غير المحدود لإسرائيل في شن حروب متواصلة ضد العرب. فأدت تلك السياسة إلى مزيد من الانهيار الاقتصادي والمالي، والتورط العسكري المباشر في ليبيا، ومحاولة إسقاط النظام السوري، والتحضير لانفجار عسكري قريب في الشرق الأوسط تحضر له القيادة الإسرائيلية التي تعيش بدورها أزمات داخلية حادة.

لذا تشهد العلاقات الصينية – الأمريكية المزيد من التوتر في المرحلة الراهنة. فقد نأت الصين بنفسها عن استراتيجية القوة العسكرية، وتبنت استراتيجية القوة الناعمة التي تقود إلى نمو اقتصادي متزايد يثير غضب الأميركيين وحلفائهم. وهو غضب مكبوت، لأن الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها زعيمة الدول الرأسمالية، مدينة للصين الاشتراكية بأكثر من ثلاثة آلاف مليار دولار. ورفضت الصين المشاركة في حل الأزمة العامة للرأسمالية التي انفجرت في خريف العام 2008، دون أن يعاقب المسؤولون عن أسبابها وتداعياتها السلبية المستمرة حتى الآن.

وترى الصين أن سياسة الهيمنة الأميركية تشكل أحد أبرز أسسباب تلك الأزمة، ومن غير المقبول تحميل الدول الأخرى نتائج سياسة خاطئة، جعلت الديون الأميركية ساحة صراع حاد داخل الإدارة الأميركية نفسها. فالتوافق المرحلي بين مجلسي الشيوخ والنواب في أميركا على حلول جزئية للأزمة، لا يخفي أبعادها المستقبلية على الاقتصاد العالمي.

تدرك الصين أن الإدارة الأميركية تعمل على إضعاف الصين وتفجير أزمات داخلها، فهي تندد بسياسة الحزب الواحد الذي يحكم البلاد منذ العام 1949، ويمنع قيام ديمقراطية صينية على الطريقة الغربية. وتعرض باستمرار علاقاتها مع الصين للخطر الشديد، بسب دعمها المتزايد لاستقلال تايوان أو انفصالها عن الصين، وتتخوف من تنامي قوة الصين الاقتصادية على المستوى الكوني. فقد بات لها موقع اقتصادي قوي في جميع دول العالم، ومنها الولايات المتحدة نفسها.

تبنت الصين سياسة براغماتية هدفها الحفاظ على الأمن والسلام العالمي، وعدم المشاركة في أي حرب داخلية أو إقليمية، كما تفعل الولايات المتحدة وحلفاؤها. وهي تشدد على مبدأ الاستقلال الوطني، واحترام سيادة كل دولة، والحفاظ على وحدتها الوطنية ووحدة أراضيها، والاستقرار الاجتماعي، وحماية التنوع الديني والإثني والثقافي، وحفظ السلام العالمي، والالتزام بالتنمية المستدامة. وتعتمد سياسة حكيمة تقوم على تعزيز العلاقات المباشرة بين الشعوب، على قاعدة الاحترام المتبادل وضمان المصالح المشتركة.

تجدر الإشارة إلى أن الصين تجاوزت بنجاح الكثير من مشكلاتها الداخلية، لتصبح ثاني أكبر اقتصاد فى العالم. لكنها تدرك جيدا أن الإنجازات الباهرة التي حققتها خلال العقود الثلاثة الماضية، عرضة للانهيار في حال توقفت التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة لشعوبها. فما زالت مناطق الصين تعيش حالة من التفاوت الحاد في خدمات التعليم، والصحة، والرعاية الاجتماعية، والسكن، والعمل، والدخل الفردي، وغيرها. وما زال مؤشر التنمية البشرية والرعاية الاجتماعية فيها ضعيفا، بالقياس إلى مثيله في الدول المتطورة. فنصيب الفرد الصيني من الناتج المحلي الإجمالي، لم يتجاوز الأربعة آلاف دولار أميركي عام 2010. وما زالت الصين تصنف نفسها دولة نامية وفق المعايير الدولية، وتحتاج لسنوات إضافية من النمو السنوي العالي، للتخلص من مشكلاتها التنموية المزمنة.

نخلص إلى القول ان اسباب التوتر في العلاقات الصينية الأميركية كثيرة ومتنوعة، منها ما هو داخلي نظرا لطبيعة المجتمع والنظام السياسي في الصين، ومنها ما هو خارجي بسبب هيمنة القطب الأميركي الواحد. لذلك يستنفر الغرب وسائل إعلامه للقيام بحملات تحريض ضد نظام الحكم في الصين، ويتهمه بتغييب الديمقراطية، وبقمع القوميات الصغيرة، وبفرض رقابة على النشاط الديني، ورفض الاعتراف باستقلال تايوان، وبحكم ذاتي للتيبت، وبخصوصية الجماعات الإسلامية في الصين، وغيرها.

بدورها، تعارض الصين بحزم صفقات الأسلحة الأميركية إلى تايوان، وتطالبها بوقف دعمها للقوى الرافضة لتطبيع علاقاتها مع البر الصيني. وتدعو الاتحاد الأوروبي لبناء استراتيجية شراكة اقتصادية، لضمان المصالح المشتركة. وتدعو للحفاظ على روابط صينية – يابانية دائمة وسليمة، بغض النظر عن التقلبات الإقليمية. وتحرص على حل القضايا الخلافية حول جزر بحر الصين بالطرق الدبلوماسية، بعيدا عن التشنج والاستفزاز. وتتبنى سياسة اليد الممدودة والتعاون الإيجابي لضمان الأمن والاستقرار فى منطقة جنوب وشرق آسيا، وخلق بيئة مؤاتية للتنمية الإقليمية، وتشدد على حل المسألة النووية الكورية بالطرق الدبلوماسية فقط.

ختاما، تمسكت الصين باستراتيجية السلام والقوة الناعمة في زمن الانتفاضات الشعبية الكبيرة، فهي دولة قوية تعمل على تطوير طاقاتها البشرية والاستفادة القصوى من مواردها الطبيعية. وتعيش مرحلة الانتقال من “صنع في الصين” إلى “الإنتاج الصيني المتميز دوليا”، ومن التصنيع لسد حاجات السوق، إلى الابتكار لتعزيز التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة على المستوى الكوني. فباتت مصدر إزعاج كبير للعولمة الأميركية، بسبب قدرتها على منافسة الدول الكبرى في جميع المجالات. وإلى جانب تبنيها لاستراتيجية القوة الناعمة، أعدت نفسها لمجابهة عسكرية محتملة في أي لحظة، لأن الأزمة العامة تزداد حدة على المستوى الكوني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.