موقع متخصص بالشؤون الصينية

في مئوية الحزب الشيوعي الصيني

0

موقع الصين بعيون عربية-

د. شاهر إسماعيل الشاهر*:

تعيش الصين فرحة الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، هذا الحزب الذي استطاع تحقيق المعجزة المتمثلة بنقل الصين من دولة فقيرة متخلفة يعاني شعبها الجوع والمرض، إلى دولة تنافس على صدارة المشهد الدولي، بعد أن حققت قفزات اقتصادية واثقة وكبيرة، جعلت من الصين نموذجاً يحتذى به من قبل الدول الساعية إلى التطور والتقدم. وأصبح الحزب الشيوعي الصيني قدوة لباقي الأحزاب في العالم التي أصبحت ترى في تجربته في بناء الدولة والمجتمع درساً يمكن الاستفادة منه. أما الرئيس شي جين بينغ فقد تكرست صورته في التاريخ كزعيم وقائد حقق للصين ما عجز الكثير عن تحقيقه.

وفي هذا العام ستعلن الصين نجاح خطة القضاء على الفقر عبر تخليص حوالي مئة مليون صيني من الفقر المدقع، وبذلك تكون هي الدولة الأولى في العالم التي تتخلص من الفقر المدقع. بينما تسعى الأمم المتحدة الى حث دول العالم على التخلص من الفقر في العام ٢٠٣٠، أي أن الصين متقدمة فعلياً عشر سنوات على باقي دول العالم.

لقد نجح الحزب الشيوعي الصيني في كسب ثقة شعبه بالأفعال والإنجازات لا بالأقوال والشعارات، فكانت لغة الأرقام حاضرة في كل خطوة يخطوها، تلك اللغة التي عززت مكانة الصين ورسختها كساع للتربع على عرش العالم.

فالحزب الشيوعي الصيني وضع هدف بناء الدولة نصب عينيه، فلم يكن له منذ ولادته مصالح خاصة، لذا فقد رفع شعار خدمة الأمة الصينية، وحاز على ثقة الشعب الذي آمن به ليس من منطلق أيديولوجي فقط، بل من زاوية النجاح والقدرة على بناء الدولة، وترجمة الأقوال إلى أفعال.

لقد استطاع الحزب الشيوعي أن يحقق للصين في مئة عام ما لم تستطع الصين أن تحققه خلال آلاف السنوات من تاريخها، وما عجزت دول العالم عن تحقيقه أيضاً، فأصبحت الصين دولة كبرى، وهي في طريقها لتكون دولة عظمى، فالصين اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتحقق قفزات علمية وتكنولوجية تجعلها محط اعجاب أصدقاؤها، ومصدر ازعاج وقلق لأعدائها. وفي هذا العام ٢٠٢١، حققت الصين فائضاً تجارياً كبيراً حيث شهدت نمواً ضخماً في الصادرات والواردات ومن المتوقع أن تحقق معدل نمو يزيد على ٦٪، بينما لا زالت العديد من دول العالم تحقق معدل نمو سالب بسبب تداعيات جائحة كورونا.

ولم يسع الحزب الشيوعي الصيني إلى مساعدة الشعب الصيني فقط، بل كان للبعد العالمي النابع من ايديولوجيته دور كبير في سعيه لتحقيق التطور والتقدم للعالم ككل. فعمل على الحفاظ على السلام والتنمية في العالم، وطرح فكرة الاحترام المتبادل والعمل لتحقيق المنفعة المتبادلة والفوز المشترك، وهو ما تجسد عبر مبادرة الحزام والطريق التي طرحها الرئيس شي جين بينغ في العام ٢٠١٣، وهي المبادرة الأهم بالنسبة للعالم ككل ولمنطقتنا العربية على وجه الخصوص.

واليوم لم يعد الحزب الشيوعي الصيني قائداً للأحزاب الشيوعية في العالم فقط، بل أصبح زعيماً لكل الأحزاب الوطنية واليسارية، ولكل حزب وطني يريد أن ينهض ببلده ويقودها نحو الاستقلال والتطور.

لقد تمسك الحزب دوماً بتوجهات التيارات العالمية والتطورات التاريخية، فشكّل منظومة من المفاهيم المتكاملة المواكبة لتطورات العصر، بما في ذلك: مفهوم القيم، ومفهوم العصر، ومفهوم المنظومة الدولية، ومفهوم الدولة، ومفهوم السيادة، ومفهوم المصالح ومفهوم التنمية، وقاد الدبلوماسيةَ الصينية لتطويرها عبر ثلاث مراحل هي: التحرر السلمي، والتعايش السلمي والتطور السلمي. محققاً بذلك التوازن بين القادة والممارسين، وبين التيارات العالمية والاحتياجات الفعلية، وبين الشؤون الخارجية والشؤون الداخلية، بل وشكّل توزيعاً دبلوماسياً واستراتيجية عالمية منطقية للحزب، ودفع إلى تشكيل النظرية الدبلوماسية ذات الخصائص الصينية، ومن ثم وضع قاعدة متينة لتطوير وتحسين النظريات الاشتراكية ذات الخصائص الصينية للنهوض العظيم للأمة الصينية.

لقد استخدمت الصين دبلوماسية هادئة رصينة مكنتها من شق طريقها نحو القمة، متجاوزة الصعوبات، متجنبة الصدامات الهامشية والمطبات التي وضعت في طريقها، هذه الدبلوماسية المتفردة كانت دبلوماسية صينية خالصة، لها خصوصيتها وصفاتها التي تميزها عن سواها. وتعتبر الدول النامية ركيزة الدبلوماسية الصينية، وينطلق وعي الصين بموضوع العصر “السلام والتنمية” بناءً على كونها إحدى هذه الدول النامية. وتعد حماية السلام العالمي وتسوية قضايا التنمية فرصة ورسالة تاريخية أمام الصين والدول النامية جمعاء.

ولعل السمة الأهم التي تختلف بها قيادة الحزب للدبلوماسية وممارستها عن الدبلوماسية الغربية، هي أن العلاقات المتكافئة المرتكزة على الاستقلالية والديمقراطية في المقام الأول هي دائماً ما تهتم بالجانب الانساني، ثم تهتم بالجانب المادي في المقام الثاني، وهي ليست مثل العلاقات الخارجية للدول الغربية والتي تشق لها الطريقَ السفن الحربية والمدافع. لذا فقد حاول الحزب جاهداً، تحقيق توازن معقول بين الوضعين الداخلي والدولي، ومن ثم تمكن من أن يحقق أكبر تحسن في استراتيجيات الدبلوماسية الصينية وسياساتها، بهدف خلق أفضل بيئة خارجية للتحرر السلمي والتعايش السلمي والتنمية السلمية للصين.

لقد تركت “ثقافة الانسجام” بصمات عميقة في الشخصية القومية للشعب الصيني المحب للسلام والوفاق، وطريق الحرير قديماً يشهد على تاريخ الصين في السعي إلى التواصل الودي والتعاون المشترك مع شعوب العالم، فقد كان طريقاً للتجارة، ومجالاً للتفاعلات الثقافية، ورسالة سلام من الشعب الصيني لجميع البلدان الأجنبية، على أساس الاحترام المتبادل وحسن الجوار والتعاون والصداقة. وتدعم الصين قيام نمط جديد من العلاقات الدولية، يقوم على الاحترام المتبادل والعدالة والتعاون والكسب المشترك”، فالاحترام المتبادل يعد أساس المساواة والثقة المتبادلة بين مختلف دول العالم، والعدالة هي المبدأ الذي تتمسك به الصين منذ القدم، والتعاون والكسب المشترك هو الهدف الذي ينبغي أن نعمل من أجله بجد، وأيضاً هو الهدف القابل للتحقيق في ظل الظروف الراهنة.

وشهدت العلاقات بين الصين والدول النامية تطوراً جديداً بعد الدخول في عصر السلام والتنمية. فعلى الصعيد السياسي، دعمت الصين نضال الدول النامية ضد الهيمنة وسياسة القوة، وتتضامن معها بصدد تأسيس نظام سياسي واقتصادي دولي جديد، مما يجعل العلاقات بين الصين والدول النامية تتطور على أساس الصداقة التقليدية.

كما زادت التنمية الصينية من وزن الدول النامية ككل في المحافل الدولية السياسية والاقتصادية، ومثلت الصين الدول النامية في السعي وراء مزيد من المصالح التنموية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتتبادل الصين مع الدول النامية الاحتياجات والمنتجات الضرورية، نظراً لتكامل المزايا بينها، وأصبحت الدول النامية هي الاختيار الأول للصين لتحقيق استراتيجية “الخروج”.

وتلتزم الصين بمبدأ تقديم المساعدات الخارجية دون فرض أية شروط سياسية، وتستمر في تقديم مساعدات قدر استطاعتها للدول النامية. بالإضافة إلى ذلك حققت سياسة الإصلاح والانفتاح كثيراً من الإنجازات الهائلة، الأمر الذي شجع العديد من البلدان النامية، وقدم لتنميتها وإصلاحها الاقتصادي دروساً مفيدة.

إن ما حققته الصين من نجاحات جعل أعداءها يطلقون سهامهم نحوها، في محاولة يائسة لزعزعة الاستقرار فيها والمساس بأمنها القومي، أو لتشويه صورتها في المجتمع الدولي، معتمدين على ماكيناتهم الإعلامية الضخمة التي أتقنت تشويه الحقائق وفبركة الاخبار. ولعل أهم الأشياء التي تم الحديث عنها هو الديمقراطية الصينية، ومطالبة الصين باستنساخ التجربة الغربية في الديمقراطية، متناسين عن سوء نية أن لكل تجربة خصوصيتها، كما أن لكل حضارة تاريخها وقيمها، فأرادوا للصين أن تبدأ من حيث انتهوا، وكأن الديمقراطية سلعة يمكن استيرادها بغض النظر عن تاريخ الشعوب وتجاربها.

واليوم، أصبح من الواضح للجميع أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد قادرة على البقاء في مركز الريادة وتحمل نفقات قيادة العالم، وبالتالي لم تعد أميركا هي الدولة الرائدة في العالم، ولعل ما شاهدناه من عجز كبير في طريقة تعاطي الإدارة الامريكية مع أزمة كورونا خير دليل على ذلك. فالأوضاع الاقتصادية تزداد سوءاً في العالم وهناك آلاف الشركات ستعلن إفلاسها قريباً في أوروبا وأمريكا. بينما الشركات الصينية عادت للإنتاج بقوة وسرعة كبيرة وهو ما سيساعد الصين على تقليص الفجوة الاقتصادية بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وستلعب تقنية الجيل الخامس دوراً كبيراً في ذلك. وسيكون جزء من مستقبل العالم يتمحور حول ما اذا كانت الصين قادرة وراغبة في تحمل نفقات قيادة العالم أم لا؟. ولذلك أعلنت الصين تحديد موقعها العالمي بأنها قوة كبرى عالمياً، بمعنى أنها ستعمل بنشاط وهمة أكثر في العلاقات الخارجية، وستتحمل المهام التاريخية وواجبات ومسؤوليات القوة الكبرى التي تليق بمكانتها الدولية.

واليوم، وبعد انعقاد قمة الدول السبع الكبار في بريطانيا، بدا أن إرهاصات الحرب الباردة تعود من جديد وبقوة هذه المرة، حيث بدأت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الاوربيون بوضع خططهم لمواجهة الصين، وما مشروع الرئيس الأمريكي بايدن “بناء عالم أفضل” سوى مشروع منافس لمشروع الحزام والطريق الصيني، لكن الرد الصيني كان حاسماً وواضحاً ( لقد ولى زمن التفكير الامبراطوري)، وهذا يعكس نهجاً دبلوماسياً جديداً في السياسة الخارجية الصينية، نهجاً يعلن تغير شكل النظام الدولي الذي ساد لعقود مضت، وأن موازين القوى الدولية قد تغيرت، فالصين اليوم منافس صلب لا يمكن مقارنته بالاتحاد السوفيتي سابقاً. والحزب الشيوعي الصيني وبعد مرور مئة عام على تأسيسه استطاع أن يجدد نفسه ويصبح أكثر قوة وشباباً ليجعل من الصين أسطورة هذا القرن…..

*باحث في كلية الدراسات الدولية/ جامعة صن يات سين/ الصين/ من سوريا

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.