موقع متخصص بالشؤون الصينية

اطلب الطب ولو في الصين

0

صحيفة الوطن السورية ـ
علي بدوان:

قبل خمسة أعوام كاملة، وتحديداً في اليوم التاسع عشر من كانون الثاني من العام 2007، كنت قد خضعت لعملية جراحية معقدة في مشفى (تيانجين) في جمهورية الصين الشعبية، والمسمى بالمشفى المركزي الأول، التابع لجيش الشعب الصيني.
العملية الجراحية المعقدة، كان عنوانها عملية (نقل كبد) أو عملية (زرع كبد)، وهي عملية كانت قبل عقدين من الزمن أشبه برحلة فضائية غير مأمونة إلى كوكب المريخ، أو أشبه بمغامرة علمية طبية غير مأمونة العواقب ولكنني الحمد للـه، أعبر الآن نحو العام السادس منذ خضوعي لتلك العملية الجراحية المعقدة، متمتعاً بصحة جيدة، وبوضع طبيعي جداً، أكاد أنافس فيه الأصحاء ممن لم يخضعوا لعمل مماثل من نفس العمر الذي أنا فيه.
فكيف أرى الأمور الآن، ولماذا استجوبت حالتي الخضوع لتلك العملية، وما مشاهداتي للواقع الطبي في جمهورية الصين الشعبية التي باتت تهتم بهذه القطاع أيضاً باعتباره منتجاً وداعماً كأي قطاع أخر، يحظى باهتمام الصين واقتصادها المتسارع في نموه…؟
في البداية، أقول من حسن حظ الكائنات الحية، والإنسان منها، أن خص رب الكون تبارك وتعالى الكتلة الكبدية، وهي أكبر غدة في الجسم، بميزات متعددة، دفعت علماء الطب لوصف الكبد بالعضو النبيل. فالكبد ينمو ويعوض نفسه باستمرار، خصوصاً حال تم اقتطاع أي جزء منه لسبب أو لأخر. كما أن جزءاً صغيراً منه (بحدود 10%) من كتلته البالغة تقريباً (كيلوغرام واحد في جسم الإنسان عموماً) يكفيه للقيام بكامل عمله المناط به داخل جسم الكائن الحي. وانطلاقاً من ذلك فإن تفاقم الإصابة امتد بي على مسافة عقدين وأكثر من الزمن، ليصبح جسدي بعد العام 2002 أمام استحقاق عنوانه (ضرورة القيام بعملية نقل كبد) وإلا فإن الأمور تسير نحو الختام البيولوجي لهذا العضو النبيل في الجسم وفشله التام، وبالتالي في الوفاة.
وعليه، كان لابد من الانطلاق النشط والبحث عن البلد المناسب لإجراء عملية (نقل الكبد)، فكانت العوائق تتمثل في عدة عناصر، أولها التكلفة الباهظة لعملية جراحية معقدة كهذه. وثانيها وجود متبرع (زرع كامل نقلاً من كبد شاب متوفى بحادث بعد وفاته مباشرة) أو زرع جزئي (من شاب حي يتم اقتطاع ثلث كبده لينقل إلى المريض). وثالثها وجود قوائم انتظار طويلة في معظم مشافي الدول التي تتوافر فيها تلك الخدمة الطبية (أوروبا الغربية والولايات المتحدة والهند والصين).
وإزاء تلك العوائق، كان لابد من البحث عن المكان الأفضل الذي يحقق عدة عناصر في آن واحد، لجهة الجودة، وانخفاض الكلفة، وقائمة الانتظار القصيرة الزمن. وبالطبع فإن الخيارات صبت في مصلحة مشفى تيانجين في الصين، وقد قال الرسول الأكرم صل اللـه عليه وسلم (ابحثوا عن العلم ولو في الصين) وهنا بتنا نبحث عن الطب ولو في الصين.
ومن المعروف بأن مشفى تيانجين المركزي الأول التابع لجيش الشعب الصيني، يفتح أبوابه للمرضى الأجانب أحياناً لإجراء عمليات نقل الكبد والكلى، ويغلقها في أحايين كثيرة، حيث يتم رفض قبول الأجانب.
لقد وفقت في نيل قبول المشفى، وخضعت بالفعل لعملية نقل كبد كامل من جسم شاب صيني لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين من العمر وقد توفي في حادث سير، وتم نقله عضوه الكبدي إلى جسمي خلال ساعات قليلة من وفاته، في عملية استغرقت بحدود عشر ساعات متواصلة، تمت بعد منتصف ليلة التاسع عشر من كانون الثاني 2007، وقد أجرها فريق طبي متكامل بقيادة البروفسور (جيو جي جين) وقد فاق عدد أعضائه المئة وخمسين ما بين جراح ومخدر وممرض وممرضة، توافدوا إلى غرفة العمليات كلاً في الوقت المخصص له لإجراء عمل محدد أثناء سير العملية الجراحية، وقد توجت نهايتها بقرار البروفسور (زيانغ تشين) مدير المشفى الذي أعطى إشارة بإغلاق البطن بعد أن اطمأن لإقلاع الكبد الجديد، وقيامه بإفراز المادة الصفراء بشكل ناجح ووفق المقاييس المطلوبة.
في تلك البلاد البعيدة، والعميقة في تاريخها وحضارتها القديمة، لمست الفارق الكبير بين شعوب تنهض وتحاول أن تعيد بناء أمجادها، وبين حالنا العربي حيث المراوحة بالمكان. ففي المشفى في تيانجين كان الطبيب الصيني إنسان قبل أي شيء أخر وليس بتاجر. والطبيب الصيني يطور نفسه باستمرار حيث تضم الطواقم الطبية أجيالاً من الأطباء، فالطبيب القديم يأخذ بيد الطبيب الجديد. كما أن الطبيب الصيني يتابع مريضه حتى أخر لحظة، ولا يتذمر من الأسئلة التي تطرح عليه من قبل المريض أو مرافقيه، بل العكس تماماً فانه يغرق معهم في شرح التفاصيل كما كان يحدث بيني وبين مدير المشفى البروفسور زيانغ تشين الذي كنت كل يومين أو ثلاثة أجلس معه في مكتبه ويشرح لي التفاصيل. وإضافة لذلك فإن الأطباء الصينيين أكثر حذراً في وصف الأدوية من نظرائهم العرب، فهم يتجنبون وصف الأدوية كما يجري عند أطبائنا العرب العجولين بكتابة قائمة الأدوية الطويلة، والقابلة للتغيير السريع من طبيب إلى آخر.
وفوق كل ذلك، إن الأطباء الصينيين يعتبرون أن عملية إبلاغ المريض مباشرة عن وضعه الصحي بالتفصيل هو واجب قانوني عندهم، في حين الطبيب في عالمنا العربي بشكل عام يتوجه بالشرح المقتضب عن حالة المريض إلى الأهل وليس للمريض مباشرة، ولا يتحمل السؤال بل يتذمر منه. والطبيب الصيني يبقى متابعاً حالة مرضاه لحظة بلحظة حتى درجة الملل والانزعاج التي يبديها المريض لكثرة زيارة الأطباء المفاجئة بين ساعة وساعة لغرفته.
وخلاصة القول: إن تجربتي المرة والمريرة، مع العمل الجراحي الصعب الذي خضعت له في الصين الشعبية، كانت في جانب منها بمنزلة رؤية ومشاهدة لواقع الصين والنهوض الكبير لهذا التنين العملاق الذي بات اليوم قريباً من موقع القطب الأكبر في الخريطة الدولية.

كاتب فلسطيني – عضو اتحاد الكتاب العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.