وثيقة أوباما العسكرية الجديدة: بين التنين الصيني والمارد الإسلامي
موقع الانتقاد الإخباري ـ
عبد الحسين شبيب:
لا يوجد أي تفسير متداول لسبب إلغاء المناورات الاسرائيلية ـ الأميركية يصب في مصلحة كل من “تل ابيب” وواشنطن. الأخيرتان تضررتا من تسرعهما في الاعلان عن تنظيم هذه المناورات رداً على مناورات “الولاية 90” التي أجرتها القوات البحرية الإيرانية في مضيق هرمز وبحر عمان، والأخيرتان أيضاً تضررتا عندما سارعتا الى الإعلان عن الغائها من دون تقديم سبب مقنع، ليتبين أن هناك خللاً كبيراً في توازن القوى يدعو طرفين عسكريين قويين الى اهراق ماء وجهيهما على هذا النحو.
التذرع بالاسباب المالية أكثر قسوة من التذرع بأسباب أخرى. فهذا المال من اجله تشن الحروب، وعندما لا يتوافر فان ذلك يعني ان القدرة على شن الحروب تتراجع. هو هذا بالضبط الذي تقوله الولايات المتحدة اليوم. فبعيداً عن الاضواء ـ تماما كما نفذت انسحابها المهين من العراق ـ كشفت واشنطن بخجل عن استراتيجيتها العسكرية الجديدة التي لم تأخذ حتى الآن نصيبها من الاهتمام الاعلامي، كما فعلت وثائق الاستراتيجيات الحربية السابقة بعيد هجمات الحادي عشر من ايلول/سبتمبر عام 2001. تلك الوثائق شكلت استراتيجيات حربية هجومية تقوم على مبادئ التوسع التقليدي ونشر القوات في مناطق النزاعات مع جرعة استكبار عسكري ونزعة فوقية تتباهي بالقدرة على خوض حربين على جبهتين مختلفتين في آن معاً، وتحقيق انتصارات كاسحة بواسطة تقنيات حروب أطلق عليها في الفترة القليلة الماضية “حروب نظيفة ومعقمة”، أي بلا دماء، أو في أسوأ الاحوال سقوط عدد قليل جداً من الجنود الأميركيين قتلى من أجل اهداف تُبقي الأمة الاميركية في موقع المتفوق والمهيمن.
وثيقة باراك اوباما ـ الذي يقول إن بلاده الان في لحظة إنتقالية ـ اتت على النقيض من ذلك، فهي تسمي نفسها “وثيقة دفاعية” وتربط بين الميزانيات الضخمة لوزارة الحرب (البنتاغون) التي يجب أن تتقلص وبين تقليص القوات الأمريكية بنحو نصف مليون فرد، وبين سحب أجزاء كبيرة من هذه القوات المنتشرة في أوروبا ولاحقا الشرق الأوسط، بالإكراه طبعا وليس بالرضا. عناصر هذه التحول مهمة لجهة أنها تمس بمكونات القوة الاميركية التقليدية: الانفاق العسكري الكبير، عديد الجيوش الاميركية، ونقاط انتشارها المتعدد القارات ما أمكن. لكن التحول الجوهري في مفاهيم وثيقة باراك اوباما يتمثل أولا بالتخلي عن وهم خوض حربين ناجحتين على جبهتين مختلفتين في وقت واحد، حيث اقتنع أوباما بعد حربي افغانستان والعراق بأن بلاده لم يعد لديها الموارد الكافية لخوض حربين معا، وبات عليها الاكتفاء بزج القوات الأميركية مجتمعة في حرب واحدة على جبهة واحدة على أمل تحقيق نتائج مقبولة (على الارجح الانتصارات لم تعد مضمونة رغم الرغبة بالاحتفاظ بميزات التفوق العسكري على أي دولة في العالم). كما أن التحول الجوهري الآخر تمثل بتشخيص مناطق الخطر الجديدة والأساسية بالنسبة للأمن القومي الأميركي ومصالح الولايات المتحدة في الخارج. وهي الآن باتت بنظر الفريق الذي يرسم استراتيجية الحرب، تتعلق بجنوب آسيا والمحيط الهادئ، او باختصار التنين الصيني الذي بات الأميركيون يعتقدون أنه يشكل التحدي الأبرز الذي يستدعي التماسّ المباشر معه، ثم “المارد الاسلامي” الذي تسميه واشنطن مجازا “الارهاب”، وتقول وثيقة أوباما انها ستواصل العمل لمواجهته من دون التماسّ المباشر معه.
فهذه الصين هي الأكثر تغلغلا في الجبهة الداخلية الاميركية متمثلة بحجم النشاط الاقتصادي الصيني في اقتصاد الولايات المتحدة، اضافة الى ما بات يعرف عن قدرة اليوان الصيني على التحكم بالدولار الأميركي، وبعبارة مبسطة اضطرار الإدارة الاميركية الى المحافظة على مستوى سعر منخفض لعملتها من أجل ابقاء القدرة لدى صناعاتها على المنافسة امام البضائع الصينية التي غزت اسواقا كثيرة في العالم بينها السوق الأميركية التي تخضع لعملية “احتلال” واسع من السلع الصينية.
فوق هذه التحديات الاقتصادية الداهمة هناك الاشتغال الصيني الهادئ على تطوير القوة العسكرية وترسانتها من الأسلحة التي يمكن أن تجعلها قوة موازية في تكنولوجيتها للقوة الاميركية، وهي بالمناسبة تكنولوجيا يفيد منها أطراف لا تحبذ الولايات المتحدة ولا تريد ان تمتلك مثل هذه التقنيات كايران مثلا، لتكون خلاصة المشهد الصيني نمواً متصاعداً في جميع مؤشرات القوة: التكنولوجيا العسكرية، النمو الاقتصادي، التوسع الاقتصادي، فضلا عن القوة الديموغرافية التي لا يضاهيها احد، وفوق ذلك سلاسة الصين في العلاقات الدولية وعدم وجود ما يستدعي تحولها الى “شيطان اكبر” كما هي حال الولايات المتحدة التي تحظى بكم من الكراهية لدى اغلب شعوب العالم بسبب ممارساتها العدوانية وتسلطها على مقدرات وحقوق عشرات البلدان في مختلف القارات. ثم إن هذه هي الصين مع روسيا ترفعان الفيتو بوجه النزعات الاميركية التي تطل بين الحين والاخر ضد دول مثل ايران وسوريا.
طبعا الإشكال الابرز الذي طرحه عدد من المحللين الغربيين على الوثيقة الأميركية أنها تترك الشرق الاوسط وجاره الأوروبي في حين يوجد كم من النزاعات التي تعج بها هذه المنطقة من شأنها أن تبقيه في دائرة التوتر ومن شأنها أن تؤثر على “أمن اسرائيل” وعلى حرية تدفق النفط الى العالم، لكن الجواب الأميركي وإن لم يفصح عنه، فإنه يتضمن اقراراً بالعجز من الآن فصاعداً سواء في حماية “أمن اسرائيل” او ضمان أمن النفط، ذلك أن نهاية العام 2011 كانت الأكثر تعبيراً عن تراجع مؤشر القوة الأميركية في الشرق الأوسط: الهزيمة المريعة في العراق الذي خرجت منه واشنطن من دون ان تتمكن من عقد اتفاقية أمنية مريحة لها تعوض ما أنفقته على حربها في هذا البلد، ثم وقوفها عاجزة أمام منسوب التحدي الايراني غير المسبوق، إضافة الى اخفاقها في وقف عملية تدحرج الأنظمة الموالية لها بعد انطلاق موجة الثورات العربية ـ الصحوة الاسلامية، وتمثل اخفاقها الأبرز المعاكس في اسقاط نظام معاد لها هو نظام بشار الأسد ضمن المهلة الزمنية التي حددتها مع حلفائها الغربيين.
وعليه كانت الادارة الاميركية مكرهة على إرسال ثلاث رسائل تهدئة الى ايران عبر الرئيس العراقي جلال الطالباني وعبر الامم المتحدة وعبر الحكومة السويسرية بعدما كانت طهران هددت بأنها ستخنق معبر النفط الأهم في العالم اذا حوصرت نفطيا، وكانت مكرهة على إلغاء المناورات المشتركة مع “اسرائيل” حتى لا تفلت رصاصة اسرائيلية مقصودة على ايران لتوريطها في حرب تهرب واشنطن منها لأنها تعرف عواقبها الكارثية، وكانت مضطرة لاستجداء حوار مع حركة طالبان حتى لا تتكرر التجربة العراقية في افغانستان بعيد الانسحاب الأميركي منها فتجد أقدام طهران قد توطدت في هذا البلد.
وعليه يصح القول “ان الوثيقة الاستراتيجية الدفاعية الجديدة للبنتاغون التي تركز الإهتمام العسكري الأميركي على مناطق جنوب وشرق آسيا، هي محاولة مدروسة وضرورية للتكيف مع الحقائق الجيوسياسية والمالية الجديدة”، لكن ذلك لا يعني انسحاباً اميركياً من الشرق الاوسط ـ حيث “لا يزال هناك في الشرق الأوسط الكثير من الأعمال غير المنتهية بالنسبة للولايات المتحدة وقواتها العسكرية” ـ بحسب الخبير الأميركي مايكل آيزنشتات ـ بقدر ما يعني اقرارا بالعجز عن تحقيق مشاريعها في الهيمنة المطلقة عليه بعد سلسلة اختبارات فاشلة في العقد الأخير. لكن وبما أن وثيقة اوباما ستواصل العمل على مكافحة الإرهاب الى جانب مواجهة الصعود الصيني، فإن السؤال التالي يتمحور حول أي استراتيجية ستعتمدها الولايات المتحدة إزاء هذه المنطقة لمكافحة ما تسميه الارهاب، كي لا تضمن تحول الشرق الأوسط الى مصدر قلق أكبر لها ولمصالحها بفعل تحولات الثورات العربية وظاهرة الصحوة الاسلامية؟
الارجح أن إشغال المنطقة بالنزاعات الطائفية والمذهبية وإغراقها في بؤر من التوترات الدينية هو الحل الوحيد لتشتيت القدرات الاسلامية الصاعدة وصرف قدراتها على حروبها الداخلية بما يشغلها عن “اسرائيل”، وبما يمنع تشكيل محور إسلامي قوي ومنافس يملك كل الامكانيات التي تؤهله لإعادة الاعتبار إلى هذه المنطقة الحيوية من العالم. تأجيج الفتن والصراعات الدينية لا يحتاج الى مال كثير ولا الى تواجد عسكري أميركي مباشر، بل على العكس سيشكل مصدراً مهما للمال من خلال بيع السلاح الأميركي الى المتقاتلين لإطالة أمد صراعاتهم ما أمكن، ومن شأن خطط كهذه ان تحقق لواشنطن و”تل أبيب” ما عجزت عنه الحروب الأميركية وقبلها الاسرائيلية، وهي لن تعاني صعوبة في إيجاد أدوات اللعب بالنار هذه ما دام أن هناك من ابدى استعداده مراراً لاستبدال ايران واعتمادها كـ”عدو” بديل عن العدو الاسرائيلي، وما دام أن لغة التحريض المذهبي تجد آذانا صاغية لدى البعض الآخر. لكن السؤال المقابل ـ إزاء هذا التفكير الأميركي ـ يتمحور حول احتمال ان تشكل القوة الايرانية المتصاعدة قوة ردع ـ من دون استخدامها ـ تحول دون ذهاب البعض في مغامرات معروفة العواقب وتحول دون خطط الولايات المتحدة الجهنمية.