موقع متخصص بالشؤون الصينية

روسيا والصين والبحث عن عالم متعدد الأقطاب

0


موقع ميدل ايست أونلاين الالكتروني:
بقلم: عمر نجيب:
يوم الإثنين 7 مايو 2012 أدى فلاديمير بوتين اليمين رئيساً لجمهورية روسيا الاتحادية في مراسم أقيمت في الكرملين حضرها نحو ألفين من كبار الشخصيات ليبدأ فترة رئاسية مدتها ست سنوات.

وأدى بوتين رجل المخابرات السابق خلال العهد السوفيتي، اليمين في قاعة سان اندرو بالكرملين، وهي قاعة العرش السابقة حيث الثريات المتلالئة والاعمدة المذهبة والاقبية العالية التي تعود للعصر القوطي ثم حصل على مباركة رئيس الكنيسة الارثوذكسية الروسية وتسلم مسؤولية الحقيبة النووية ليصبح الرئيس الرابع لجمهورية روسيا الاتحادية.

هذه هي الفترة الرئاسية الثالثة لبوتين الذي وبموجب الدستور تخلى عن الترشح بعد ولايتين مدتهما 8 سنوات سنة 2008، مما سمح لحليفه ديميتري ميدفيديف بالفوز في الإنتخابات الرئاسية سنة 2008 ليمكث فترة ستة سنوات، وذلك بعد تعديل الدستور الذي ظل لا يسمح بتولي شخص أكثر من ولايتين رئاسيتين متتابعتين.

لا ينكر غالبية المحللين أن عودة بوتين إلى قيادة الكرملين أزعجت الولايات المتحدة والعديد من حلفائها الغربيين، لأنها نسفت آمالهم في أن يتولى السلطة في عاصمة الاتحاد السوفيتي السابق سياسي غير مشاكس للسياسة الأميركية يكون قريبا في اختياراته من بوريس يلتسين أول رؤساء روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والذي امتدت فترة حكمه ما بين 10 يونيو 1991 و31 ديسمبر 1999.

جاء في الموسوعة الحرة “ويكيبيديا”: كان عهد حكم يلتسين فترة مظلمة في التاريخ الروسي الحديث لم يشهد الروس مثلها حتى أثناء الاحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية أو قبل الثورة البلشفية، وهي فترة شهدت انتشار الفساد، وانهيار اقتصادي هائل، وطوفان من المشاكل السياسية والاجتماعية.

أدى انحسار دور الدولة والفساد والوضع الاقتصادي المتردي إلى ظهور الجريمة المنظمة أو ما يعرف بالمافيا الروسية وتغلغلها في معظم مناحي الحياة في روسيا. كان يلتسين عندما ترك منصبه شخصية غير شعبية تماما في روسيا حيث وصلت شعبيته إلى اثنين في المئة بحسب بعض التقديرات. وقد ترك روسيا التي كانت دولة عظمى في حالة تحلل جعلت بعض السياسيين في الغرب يتحدثون علنا عن تقسيمها ونزع أسلحتها النووية وفرض سلطة مستقلة تحت إشراف الأمم المتحدة على منطقة سيبيريا الهائلة المساحة والتي تحتوي أرضها على ثروات هائلة طاقية وغيرها ولكنها قليلة الكثافة السكانية.

تحول

لا يختلف المحللون سواء كانوا من أنصار أو خصوم بوتين، أنه في سنوات حكمه صعدت روسيا في مجالات عدة، فالدولة التي كانت على حافة الافلاس بعد أزمة أغسطس 1998 تغيرت تماما، فالموازنة باتت أكبر بعشرات المرات من السابق، وحجم الديون الخارجية يقترب من الصفر، واحتياطات النقد الأجنبي تربو عن 500 مليار دولار. وانتهت الحقبة التي وصفت بزمن الاصلاحيين والعلاج بالصدمة إلى غير رجعة، وتبدو موسكو مدينة غير تلك التي كانت في تسعينات القرن الماضي، وتسعى لتكون احدى عواصم المال والأعمال في العالم. وفي الشوارع تبدو وجوه الناس مرتاحة، وتتنافس الشركات التجارية والصناعية، والمصارف العالمية لافتتاح فروع لها في روسيا.

وكالات الأنباء الغربية ووسائل الاعلام المرتبطة بها والمهيمنة عالميا، في تحليلها لتولي بوتين رئاسة روسيا ركزت على وجود انقسامات عميقة داخل البلاد بسبب عودته للكرملين متجاهلة أنه فاز في الانتخابات بنسبة 64.72 في المائة من الأصوات.

وذكر معلقون غربيون أن بوتين يعود للسلطة وقد ضعفت سلطته بسبب اشهر من الاحتجاجات التي استقطبت روسيا وتركته يواجه معركة لاعادة تأكيد نفسه أو المجازفة بان يهمشه قطاع الأعمال القوي والنخبة السياسية التي يعد تأييدها مهما.

وأشارت أنه في احدث احتجاجات يوم الأحد 6 مايو اعتقلت الشرطة أكثر من 400 شخص من بينهم ثلاثة من زعماء المعارضة بعد تفجر التوترات خلال تجمع حاشد حضره نحو 20 الف شخص على الجانب الآخر من نهر موسكو من الكرملين.

نفس وسائل الاعلام أهملت أنه على بعد بضعة كيلومترات عبر موسكو نظم عدة الاف تجمعا حاشدا لدعم بوتين الذي يعتبره انصاره الزعيم الوحيد القادر على الدفاع عن مصالح روسيا على الصعيد العالمي وحماية الاقتصاد في الداخل.

وعلى الرغم من ان منتقدي بوتين ملوا من نظام سياسي يركز حسب قولهم السلطة في يد شخص واحد، يرحب كثيرون من انصاره بهيمنته على روسيا التي يقطنها اكثر من 140 مليون نسمة.

وقال الكسندر دوجين وهو زعيم قومي أمام حشد من المؤيد لبوتين ان “الديمقراطية هي سلطة الأغلبية، والأغلبية إختارت رئيس روسيا، روسيا هي كل شيء والباقي لا شيء”.

يذكر محللون داخل روسيا “إن الوقائع في السنة الأخيرة بين تراجعا كبيرا في تأييد حزب السلطة “روسيا الموحدة”، وشهدت مدن روسية عدة تظاهرات غير مسبوقة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، والملاحظ أن قادة الاحتجاجات والمشاركين فيها هم من أبناء الطبقة الوسطى التي قوي ساعدها أثناء فترة حكم بوتين، وقد هزت هذه الاحتجاجات صورة “زعيم الأمة”، ومما لاشك فيه أنه بغض النظر عن حجم المعارضين، فإن بوتين سوف يكون مضطرا في الفترة المقبلة للتعامل مع مطالبهم، وسحب الحجج منهم عبر تسريع عملية تحديث الاقتصاد، وإيجاد حلول أكثر نجاعة للمشاكل المختلفة.

يقول محللون في دول الاتحاد الأوروبي أن أحد أهم مقومات تحسين مركز روسيا داخليا وخارجيا هو نجاحها في تقليص هيمنة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي والعودة إلى عالم ثنائي أو متعدد القطبية.

التركيز على هذا التوجه سيضع موسكو أكثر من أي وقت منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في مسلك تصادمي خطير مع الولايات المتحدة.

الدور على مسرح السياسة الدولية

كتب محلل روسي “يعود فلاديمير بوتين الى الكرملين وسط تساؤلات حول دور روسيا على مسرح السياسة الدولية، في ظل المتغيرات المتسارعة على أكثر من صعيد. لقد رسم بوتين خارطة السياسة الخارجية لروسيا في احدى المقالات التي نشرها خلال حملته الانتخابية، حيث تناول رؤية الادارة الروسية الجديدة لأبرز القضايا الدولية، مؤكدا أنه لا يمكن تجاهل بلاده في القضايا الإقليمية والعالمية، ومشددا على ضرورة مراعاة مصالحها، دون أن يغفل سعي موسكو لفهم مصالح شركائها وأخذها بعين الاعتبار”.

وبدت المتغيرات التي تمر بها المنطقة العربية في مقالة بوتين على رأس أولويات ادارة الكرملين، مما يعني ان الدبلوماسية الروسية ستستمر بنهجها المتبع والمتحفظ تجاه ما يسمى بالربيع العربي.

وفي السياق ذاته، قال ليونيد ايفاشوف رئيس أكاديمية العلوم الجيوسياسية الروسية في محاولة لاستقراء ملامح الدبلوماسية الروسية مع عودة بوتين الى الكرملين: “يبدو أن هدف موسكو الاول سينصب على حماية مصالح روسيا الاقتصادية أولا ومن ثم الجيوسياسية، والدفاع عن مصالحها في المنطقة العربية وعدم استغلال الأوضاع المتوترة من أجل إخراج روسيا من المنطقة، كما جرى في العراق عقب الاحتلال الأميركي في عام 2003”.

من جهته، اشار اليكسي فينينكو الخبير في معهد الأمن الدولي بموسكو، الى ان “بوتين لم يخف حذره من تداعيات ما يسمى “الربيع العربي”، حيث القى باللوم على التدخل الخارجي الداعم لطرف واحد في النزاعات الداخلية”.

لعبة الشيطنة طويلة النفس

تقول مصادر رصد غربية إن المخططين الروس فهموا أبعاد وتفاصيل اللعبة الطويلة النفس لنظرائهم في واشنطن “لشيطنة” خصوم أميركا وتأليب الرأي الداخلي والخارجي ضد هؤلاء مما يسهل عملية التخلص منهم بوسيلة أو بأخرى.

ويشير هؤلاء أنه 27 نوفمبر 2011 حذر رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين “الدول الاجنبية من محاولتها التأثير على نتائج الانتخابات في روسيا”، معتبراً ان “مساعيها ستذهب هدراً”.

ودعا بوتين، في كلمة أمام مؤتمر حزب “روسيا الموحدة “الحاكم، “الدول الأجنبية الى التعاون مع موسكو في مواجهة تحديات العصر عوض الانشغال بقضايا روسيا الداخلية”.

واعتبر بوتين، الذي قدم في ذلك اليوم من طرف حزبه كمرشح للانتخابات الرئاسية لمارس 2012، ان “بعض الدول الاجنبية تحاول التاثير على سير الحملة الانتخابية في البلاد، سوا ء في ما يتعلق بالانتخابات البرلمانية او الانتخابات الرئاسية”.

وأكد بوتين ان روسيا ستنتهج بـ”صدق ونزاهة السياسة الخارجية النشيطة، وستشارك في حل القضايا العالمية وإنشاء نظام سياسي واقتصادي أكثر عدالة في العالم”. واشار إلى ان روسيا “مستعدة لقول الحقيقة بشأن كل ما يحدث في العالم حتى اذا لم يعجب ذلك احدا”، مضيفا ان روسيا “منفتحة على العالم للشراكة والحوار مع كل البلدان، بشرط ان يجرى هذا الحوار على قدم المساواة فقط”.

بعد ذلك بأشهر ويوم فاتح مارس 2012 اتهمت موسكو الولايات المتحدة بمحاولة التاثير على الانتخابات الرئاسية عبر تمويل مجموعات معارضة.

ووجه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف انتقادات حادة للولايات المتحدة متهما اياها باعتماد وسائل حقبة الحرب الباردة.

وقال في مقابلة نشرتها صحيفة روسيسكايا غازيتا الحكومية على الانترنت ان “الايام التي يمكن فيها القاء محاضرات او عظات على روسيا قد ولت”.

واضاف “ان شركاءنا الاميركيين يدركون هذا الامر جيدا، لكن يبدو ان المقاربات الماضية والنمطية في واشنطن لا تزال قائمة”.

واضاف “نرد بحزم على اي محاولات للتاثير على العملية السياسية والانتخابية في روسيا..بما في ذلك تمويل منظمات مجتمع مدني”.

وكان بوتين قد اتهم وزارة الخارجية الاميركية بالتحريض على التظاهرات في الشارع التي بدأت في موسكو بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في ديسمبر 2011.

الدب ينقلب نمراً

يوم الجمعة 11 مايو نشرت وكالة رويترز التقرير التالي: يتحدث الخبير الاقتصادي مروان اسكندر في كتابه “الدب ينقلب نمراً..روسيا الولادة الجديدة” عن التحول الذي تشهده روسيا من حيث انجازاتها الاقتصادية الداخلية وعلاقاتها بالعالم وموقعها الجديد في هذا العالم.

ويرى اسكندر انه بين 1998 وسنة 2008 شهدت روسيا تقدماً كبيراً في المجالات الاقتصادية والمالية وفي علاقاتها التجارية مع سائر دول العالم.

يقول الباحث “ما من شك في ان عودة الفدرالية الروسية كانت من ابرز التطورات الايجابية التي شهدها القرن الواحد والعشرون. في أغسطس من العام 1998 وبعد ثماني سنوات من نهب الموارد الوطنية خلال ولاية بوريس يلتسين اعلنت روسيا عجزها عن تسديد ديونها الداخلية والخارجية وغرق الشعب الروسي في اتون من البؤس والمرض. “توقع عدد كبير من الشخصيات في الغرب ومن ضمنهم الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون ان يستغرق الاتحاد الفدرالي الروسي قرابة 25 سنة ليستعيد اهميته وموقعه المالي”.

وتابع مروان اسكندر القول “في اواسط العام 2008 اي قبل ستة اشهر من اشتداد الازمة الاقتصادية العالمية التي أدت إلى تفتيت النظام المالي العالمي كانت الصورة مختلفة تماما عن هذه التوقعات. “كانت الطبقة المتوسطة في روسيا تنمو والاقتصاد يشهد حيوية ناشطة اذ بلغت قيمة الاحتياط 700 مليار دولار بنهاية يوليو 2008 ولم يتخط مجموع الدين الخارجي عتبة الاربعين مليار دولار مع تسجيل نسبة نمو نحو 8 في المئة وبقاء معدل البطالة تحت نسبة 6 في المئة.

وكانت توظيفات روسيا في سندات “فاني ماي” و”فريدي ماك” الشركتين المختصتين بالضمانات العقارية والتي تحظى بدعم الادارة الأميركية توازي 100 مليار دولار.

واضاف يقول “اليوم يبلغ عدد سكان روسيا الفدرالية نحو 141 مليون نسمة مقارنة مع 150 مليون نسمة في العام 1991. وهي تتمتع بقدرات في مجال علوم الفضاء تجعل الولايات المتحدة تستعين بها حين تتعطل مركباتها الفضائية وتملك تكنولوجيا النانو المتطورة وكفاءة تضاهي بمستواها اي بلد اوروبي اخر. ولروسيا موقع ثابت في مجموعة الدول الصناعية الثماني.

وذكر “والاهم هو ان روسيا الفدرالية تتصدر قائمة الدول المنتجة للطاقة من مشتقات الهيدرو كاربون اي الغاز والنفط. وخلال 15 سنة ستوفر روسيا ما نسبته 50 في المئة من احتياجات اوروبا للغاز بدلا من نسبة 25 في المئة توفرها حالياً. ومن المتوقع ان ترتفع الامدادات باتجاه الصين بشكل سريع لتبلغ مستويات عالية. واضاف “من وجهة نظر إحصائية تستقطب روسيا الفدرالية الاهتمام. فمساحتها هي الأكبر في العالم اذ تمتد اراضيها على مساحة قارة بأكملها وتنتشر على طول 11 منطقة زمنية”.

ومضى قائلاً “وعلى الرغم من كونها دولة منتشرة على نسبة 15 في المئة من مجموع اليابسة على الكرة الأرضية فان عدد سكانها لا يتعدى نسبة 2.2 في المئة من مجموع سكان العالم. وعلى الرغم من ان نسبة 80 في المئة من الاراضي الروسية تقع في قارة اسيا فان العديد من الروس يتوقون إلى اعتبارهم جزءاً من أوروبا”.

وقال “وجدير بالذكر ان صناعة النفط العالمية انطلقت من روسيا وليس من الولايات المتحدة وذلك بحفر أول بئر للنفط على بحر قزوين في العام 1846 أي قبل ثلاث عشرة سنة من حفر أول بئر أميركية في ولاية بنسلفانيا”.

وتابع ان روسيا تتمتع بأكبر احتياطي بوكسيت في العالم وأكبر مخزون غاز وثاني اكبر احتياطي من اليورانيوم وثالث او رابع اكبر مخزون نفط فضلاً عن احتياطيات كبيرة من الفحم والذهب والالماس والخشب.

واضاف ان روسيا تقع فيها اكبر بحيرة من الماء العذب في العالم تمتد على طول 600 كيلومتر ويبلغ عمقها نحو 1640 متراً وكان من المتوقع بحلول العام 2010 ان يوازي متوسط معدل القوة الشرائية الروسية مستوى معظم الدول الاوروبية لو لم تقع الازمة المالية والاقتصادية العالمية التي تسببت في تأخير هذه النتيجة لسنتين على الأقل.

ان روسيا الفدرالية هي البلد الوحيد في العالم الذي تحتوي صخوره جميع المعادن الضرورية للبرامج الفضائية.

وقال ان موقع روسيا السياسي والاقتصادي العلمي يكتسب اليوم “اهمية حيوية بالنسبة للاستقرار والازدهار الدوليين. ويسعى هذا الكتاب الى استكشاف موقع روسيا اليوم والعودة إلى الخلفية التي تستند اليها وتوقع الوجهة التي تسير نحوها وتحديد كيف يمكن لسائر العالم الاستفادة من التفاعل معها”.

التمرد على الهيمنة

تقدر مصادر رصد أوروبية أن ما يرجح دخول روسيا ومعها الصين وربما أطراف دولية أخرى في مواجهة أو امتحان قوة واسع أو محدود مع الولايات المتحدة وأقرب حلفائها في منظمة “الناتو” هو وجود مناخ عالمي خاصة في دول ما يسمى العالم الثالث التي ترغب في التخلص من الهيمنة الأميركية بأي طريقة، يضاف إلى ذلك إدراك الكرملين أن روسيا هي الهدف التالي لتوسع الإمبراطورية الأميركية بعد إنتهاء مشاريعها لإحاطة روسيا والصين بطوق من القوى المعادية، والهيمنة على دول المنطقة العربية عبر تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير وبالتالي التحكم في ثروات المنطقة الممتدة من الخليج العربي شرقا حتى المحيط الأطلسي غرباً وفي مقدمتها النفط والغاز والمعادن الإستراتيجية الأساسية للصناعة والزراعة.

مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنو بريجنسكي أحد كبار مخططي سياسة البيت الأبيض يتبنى نظرية السيطرة على “قلب روسيا” لضمان إستمرارية القوة الأميركية. حددت هذه النظرية أن من يسيطر على قلب روسيا يسيطر على المعمورة بأكملها..ووفق هذه الرؤية فان الولايات المتحدة سعت خلال الحرب الباردة إلى احتواء هذه المنطقة من خلال السيطرة على الأراضي الطرفية، اليابان وكوريا الجنوبية وتركيا، لذلك يحذر بريجنسكي، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، من إمكانية تكوين إمبراطورية روسية جديدة ويرى أن المهمة الملقاة على عاتق الولايات المتحدة هي الحفاظ على استقرار المنطقة والحيلولة دون سيطرة قوة واحدة عليها..وبين بريجنسكي أن الشرق الأوسط هو إحدى البوابات إلى روسيا الوسطى. وحسب رأيه فان الجزء العربي في هذه المنطقة لا يؤدي دوراً أساسياً لان الأمر منوط بتركيا وإيران، من هنا فانه لا يتناول الجزء العربي إلا ليذكر بإيجاز مسألة ما اسماه بالمد الإسلامي ويعتبره ظاهرة عاجزة على خلق منطقة نفوذ جيدة تهدد الموقع الجيوستراتيجي للولايات المتحدة على الرغم من قدرة الأصولية الإسلامية، حسب تعبيره، على تهديد المصالح الأميركية في المنطقة ويخلص إلى القول بان التأثير المحتمل لهذه الحركات إنما ينحصر في تحويل المنطقة إلى بؤرة أضطرابات دورية بسبب عجزها عن تأسيس دولة محور.

بعد بريجنسكي طرح مخططون أميركيون آخرون فكرة التحالف مع قوى محلية ذات توجه “إسلامي” في المنطقة العربية لتحويلها إلى عامل مساعد للسياسة الأميركية.

ونشر بريجنسكي كتاباً عن أميركا وميزان القوى في العالم عكس فيه آراءه حول رصد وتشخيص العوائق والتحديات التي تحول دون تحقيق أميركا لحلمها في إقامة نظام عالمي جديد يأخذ شكل الحكومة العالمية وتنتظم فيه دول العالم كله خلف أميركا وتسلم لها بالزعامة المطلقة، وحسب رأيه فان هذا هو الهدف الاستراتيجي لبلاده وهو ما تصبو إلى تحقيقه خلال هذه المرحلة المهمة من تاريخ العالم..كما أنها تسعى، في حالة تعذر قيام الحكومة العالمية، إلى تحقيق نظام عالمي يأخذ شكل الكونفدرالية العالمية التي تتمتع فيها أميركا بزعامة عالمية تشاطرها في بعض مظاهرها، بالتراضي، أهم قوتين عالميتين بعدها وهما أوربا واليابان..ويستبعد بريجنسكي أن يتم لأميركا أي شكل من أشكال الزعامة الحقيقة على العالم لحقبة من الزمن ليست بالقصيرة ويرجع ذلك إلى سببين أساسيين:

الأول داخلي: يتعلق بما وصفه تداعي النموذج الحضاري الأميركي من الداخل.

الثاني خارجي: يتعلق بموقف القوى العالمية والإقليمية وقوى أخرى رافضة بدرجات متفاوتة للهيمنة الأميركية وسيطرتها على العالم وبتطلعاتها هي الأخرى للزعامة والنفوذ على المستويين الإقليمي والعالمي..وقد صنف بريجنسكي القوى العالمية والإقليمية التي ستستمر لفترة قادمة تنازع أميركا الزعامة والنفوذ إلى ثلاثة أصناف رئيسية:

1- قوى عالمية تنافس أميركا على الزعامة والسيطرة على العالم ويحددها بريجنسكي في قوتين هما أوربا واليابان.

2- قوى إقليمية كبيرة تنازع أميركا الزعامة على مستوى قاري أو إقليمي موسع هما الصين وروسيا.

3- قوى إقليمية صغيرة، حسب تعبيره، تنازع أميركا النفوذ على مستوى إقليمي ضيق، وانطلاقا من نظرة عنصرية ضيقة حدد بريجنسكي أن نموذج هذه القوى: العروبة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والإسلام في آسيا الوسطى وإيران والهند.

تصفية المنافسين

يقدر محللون أنه من خلال قراءة لنظريات ورؤى كبار السياسيين والمفكرين والخبراء الأميركيين، التي شكلت القاعدة التي تنطلق منها أيديولوجية الخطاب السياسي الأميركي، يتبين أن هذا الخطاب اعتمد مبادئ محددة في تعامله مع المناطق الساخنة في العالم وبما ينسجم والمصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة. هذه المبادئ حددها مخططو السياسة الأميركية منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد سعى هؤلاء إلى خلق نظام عالمي تتزعمه الولايات المتحدة يعتمد على القدرات العسكرية والاقتصادية والسياسية الأميركية وعلى قيم أميركية خاصة بالشخصية والسلوك الأميركيين. وقد شكلت هذه المبادئ والقيم جوهر السياسة الأميركية الخارجية. وفي هذا يقول الخبير الاستراتيجي جون لويس غاريس: إن الولايات المتحدة كانت تتوقع أن تصبح زعيمة النظام العالمي الجديد بعد العام 1945 قبل أن يبرز الاتحاد السوفيتي كخصم.

واليوم كما كان الحال بعد الحرب العالمية الثانية، تسعى استراتيجية واشنطن إلى توسيع دائرة التحكم في النظام الدولي عن طريق منع بروز دول عظمى أو إقليمية قوية منافسة لها في أوروبا وشرق آسيا والحوض المتوسط. واليوم أيضاً يحدد الخطاب السياسي الأميركي أن استراتيجيته تعتمد على منطق استغلال القوة.

الهيمنة أو الزعامة، حسب الخطاب الأميركي، هي استراتيجية واقعية تسعى إلى إدامة السيطرة الجيوسياسية لما بعد الحرب الباردة. ويعتقد أنصار هذه الاستراتيجية أن على الولايات المتحدة أن تسعى إلى زيادة قوتها النسبية إلى أقصى حد، وذلك لأن السياسة الدولية على قدر كبير من التنافسية، وتقوم هذه الاستراتيجية على افتراض أن الدول تكسب الأمن وليس من خلال توازن القوى، بل عِبر اختلال القوى لمصلحتها أي بسعيها إلى الزعامة.

وتفترض هذه الاستراتيجية أن للولايات المتحدة مصلحة حيوية في الحفاظ على الاستقرار. ومن حيث الجغرافيا تنظر استراتيجية الزعامة إلى كل من أوروبا وشرقي آسيا والخليج العربي كمناطق تقوم فيها للولايات المتحدة مصالح أمنية حيوية.

وتعد أوروبا وأجزاء واسعة من آسيا مهمتين لأنهما يمكن أن تبرز منهما دول عظمى جديدة وان تندلع فيهما في المستقبل حروب بين الدول القوية، حسب تعبير “غاريس” الذي يضيف بأن الخليج العربي مهم بسبب وجود النفط فيه.

ويرى الخطاب الأميركي أن الضمانات الأمنية الأميركية لأوروبا وشرقي آسيا هي الوسيلة التي تحافظ بها استراتيجية الهيمنة والزعامة على نظام سياسي دولي سليم يؤدي إلى الاعتماد المتبادل.

ويرى مناصرو ومخططو هذه الاستراتيجية أنها ذات حظ من الاستحسان بالحدس والمنطق، أما القوة فمهمة جداً في السياسة الدولية وللولايات المتحدة الحظ الأوفر منها، ويعتبرون أن لا أفضل من أن تكون أميركا هي القوة العظيمة الوحيدة في عالم أحادي القطب.

وإذا عدنا إلى تحليلات منظرين آخرين يتبين أن الرعب الذي يبثه في قلوب الآخرين زعماء طامحون يفسر إلى حد بعيد سبب توجه أميركا لتدمير أي قوة أو نظام أو زعيم يمكن أن يشكل نواة لمنافسة هيمنتها أو ما يهدد أنصارها.

بهذا يمكن أن نفهم سبب حرص الولايات المتحدة على عدم ظهور زعيم طامح يقوى دولته ويعطيها المقدرات التي يمكن بها أن تتحول أولاً إلى قوة إقليمية أساسية وهو ما قد يعدها للعب دور أكبر من مجرد الإقليمي.

الضربة الاستباقية

السؤال الذي يطرح بقوة بعد عودة بوتين إلى قمة السلطة الروسية هو: هل بدأت فعلاً بداية النهاية للنظام العالمي “الأحادي القطب”، وكيف ستكون هذه النهاية.

يوم الخميس 3 مايو 2012 ظهرت بعض المؤشرات التي قد تمكن من تصور أجوبة على التساؤلات، فقد اعلنت روسيا ان محادثاتها مع الولايات المتحدة بشان إقامة درع مضادة للصواريخ في اوروبا الشرقية شارفت على الوصول إلى “طريق مسدود” محذرة من أنها قد تنشر صواريخ جديدة في اوروبا لتدمير بعض مكونات ذلك الدرع.

وقال وزير الدفاع الروسي اناتولي سرديوكوف خلاله مؤتمر نقله التلفزيون حول قضايا الدفاع الصاروخي “لم ننجح حتى الان في التوصل إلى حلول مقبولة من الطرفين، الوضع وصل عمليا إلى طريق مسدود”.

من جانبه حذر رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية نيقولاي ماكاروف من إن بلاده لا تستبعد توجيه ضربة استباقية للدرع كخيار أخير في حال تفاقم الوضع.

وأضاف أن “قرار الاستخدام الاستباقي للأسلحة المتوفرة سيتخذ خلال تفاقم الوضع، آخذين بعين الاعتبار طبيعة النظام الدفاعي الصاروخي المزعزعة للاستقرار”.

واعتبر أن الولايات المتحدة تذرعت بخطر قيام كوريا الشمالية وإيران بشن هجوم بالصواريخ، من أجل إنشاء الشبكة المضادة للصواريخ في أوروبا، وقال “إننا إذ نقر بأن هذين البلدين ينفذان برامج صنع صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، خلصنا إلى استنتاج أن تسلح بيونغ يانغ وطهران بصواريخ بالستية بعيدة المدى تستطيع الوصول إلى قارات بعيدة مهمة يصعب تحقيقها إن لم تكن مستعصية التنفيذ”.

وذكر رئيس هيئة الاركان المشتركة ان احد الخيارات امام روسيا هي نصب صواريخ اسكندر القصيرة المدى في كالينينغراد، الجيب الروسي الواقع على تخوم الاتحاد الاوروبي لتدمير البني التحتية الاوروبية للمنظومة” الصاروخية.

وقال ماكاروف “اظهرت تحليلات دقيقة اجرتها منظمات ابحاث تابعة لوزارة الدفاع انه عند نشر المرحلتين الثالثة والرابعة من الدرع، فان القدرة على اعتراض صواريخ روسية بالستية عابرة للقارات ستصبح حقيقية”.

أما أمين عام مجلس الأمن القومي الروسي نيقولاي باتروشيف، فقال إن العلاقات البناءة بين روسيا والناتو تعتبر حلقة متينة في بنية الأمن الأوروبي، وأضاف أن “التاريخ العالمي يشهد بطلان محاولات دولة واحدة أو مجموعة من الدول لتعزيز أمنها على حساب أمن دول أخرى. ويؤدي تصرف كهذا إلى زيادة التوتر ووقوع نزاعات والإخلال بنظام الأمن القائم”.

بفارق ساعات بعد التهديد الروسي أعلنت آلين تاوشير المبعوثة الأميركية الخاصة لشؤون الاستقرار الاستراتيجي والدفاع المضاد للصواريخ أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن خطتها الخاصة بنشر الدرع الصاروخية حتى في حال زوال الخطر من قبل كوريا الشمالية وإيران.

وإدعت تاوشير أن واشنطن لا ترغب في تدمير قدرات روسيا، مشيرة إلى ان العلاقات الأميركية الروسية تغيرت من “ضمان الدمار المتبادل إلى ضمان الاستقرار المتبادل”.

ومع ذلك أشارت تاوشير إلى أن واشنطن لن توافق على تقييد منظومة الدفاع المضاد للصواريخ لأنها حريصة على أمنها وأمن حلفائها.

البحث عن التفوق

بعد أسبوع من تبادل التهديدات ويوم الخميس 10 مايو أكد الرئيس الروسي بوتين في اجتماع مكرس لمسائل تطوير المجمع العسكري الصناعي الروسي في مدينة نيجني تاغيل الصناعية ان على المجمع ان يحقق اختراقا تكنولوجيا ويقوم بتحديث كل بنيته.

واشار بوتين الى ان مؤسسات المجمع العسكري الصناعي الروسي اصيبت بتخلف تكنولوجي، ولذلك ستقوم الدولة بتوظيف الموارد الضخمة في بناء مؤسسات جديدة ومعاهد بحوث ومراكز تصميم عائدة له وتزويدها بالمعدات الحديثة.

وقال “يتعين علينا أيضا حل المسائل الشاملة، واعتماد متطلبات أكثر صرامة إزاء المردود الاقتصادي والمالي لنشاط المجمع، وتشجيع المنافسة الفعلية، بما في ذلك عن طريق جذب الشركات المدنية، وحتى رأس المال الخاص عند الضرورة، للمشاركة في تحقيق البرامج الدفاعية.

يظهر أن مرحلة جديدة في العلاقات الدولية قد بدأت، المؤشرات العامة ظهرت خلال “مؤتمر ميونيخ” للسياسات الأمنية في ديسمبر 2012، فقد وجه بوتين انتقادات حادة للسياسة الأميركية، واستخدامها المفرط للقوة الذي يكاد يكون غير منضبط للسيطرة في العلاقات الدولية. وتجاوزها حدودها الوطنية في كل اتجاه، محذراً من أن قيادة الولايات المتحدة “لعالم أحادي القطب”، غير مقبول، وأدى إلى الحروب، والمزيد من الصراعات في العالم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.