ما وراء التعريفات الجمركية: صبر الصين الاستراتيجي في نظام عالمي متغير
خاص موقع الصين بعيون عربية –
هەلو حسن سعيد:
مع تقدم الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، تحولت ما كان يُنظر إليه سابقًا كخلاف مؤقت إلى سمة رئيسية في الجغرافيا السياسية الحديثة. لقد تعمق النزاع، الذي بدأ في الأصل حول التعريفات الجمركية والإجراءات الانتقامية، ليصبح صراعًا أيديولوجيًا أوسع حول مستقبل النظام العالمي. في هذا السياق، تبرز مقاربة الصين: فبدلاً من الرد بذعر، تتبنى بكين ما يمكن وصفه بالصبر الاستراتيجي. ففي حين تسعى واشنطن إلى تصعيد التوترات من خلال الرسوم الجمركية والمواقف العدائية، اختارت الصين بعناية الصمود بدلاً من رد الفعل. وكما قال الرئيس شي جين بينغ، فإن الاقتصاد الصيني “كمحيط، وليس بركة”. هذا التشبيه ليس مجرد شاعرية — بل يعكس استراتيجية بكين طويلة الأمد في التحمل والنمو، حتى في ظل محاولات واشنطن المتزايدة لفك الارتباط
على عكس المشهد السياسي في الولايات المتحدة، حيث تتأثر السياسة الخارجية غالبًا بضغط الشركات قصير الأجل والدورات الانتخابية، يسمح النظام في الصين بالتخطيط الاستراتيجي طويل الأمد دون هذه الانقطاعات السياسية. وهذا يمنح الصين ميزة هيكلية في صراع طويل الأمد. كما يسمح لبكين بتعميق علاقاتها الاقتصادية مع العالم — من خلال مبادرات مثل مبادرة الحزام والطريق، والاستثمارات الاستراتيجية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا الوسطى، وتعزيز العلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، ورابطة دول جنوب شرق آسيا، ومناطق أخرى من الجنوب العالمي
بينما ترى واشنطن في توسع الصين استراتيجية احتواء، تعيد بكين صياغته كبحث عن الشمولية والشراكة والترابط. أصبح هذا التباين الأيديولوجي أكثر وضوحًا مع مرور كل ربع سنة. فبينما تسعى الولايات المتحدة إلى العقاب والعزل والإكراه، تقدم الصين نفسها كمدافع عن العولمة بـ”خصائص صينية”. الرسالة واضحة: تدافع بكين عن الشمول بدلًا من الإقصاء، والشراكة بدلًا من العقاب، والترابط بدلًا من السيطرة.
ومع استمرار الحرب التجارية، من المهم أن ندرك أن العالم لا يراقب فقط من الخطوط الجانبية. بل إنه منخرط فعليًا في القرارات التي يتخذها القوتان. لا يستطيع السوق العالمي، الهشّ جراء تداعيات الجائحة وأزمات الطاقة، تحمل حرب باردة طويلة بين أكبر اقتصادين في العالم. على القوى المتوسطة والدول النامية والمؤسسات متعددة الأطراف الآن أن تقرر بين التعاون والمواجهة، والبراغماتية الاقتصادية والصراع الأيديولوجي. فرغم أهمية حرب التعريفات، قد لا تكون العامل الحاسم في هذا الصراع. وغالبًا ما تكون النزاعات التجارية مؤشرات على تحولات هيكلية أعمق — وقد نكون بالفعل بصدد مثل هذا التحول. ربما لا تكون هذه الحرب التجارية مجرد صراع على السلطة، بل انتقال تاريخي من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب. والسؤال، بالتالي، ليس ما إذا كانت الصين قادرة على تحمل الضغط الاقتصادي، بل ما إذا كان العالم قادرًا على التكيف مع واقع جديد تتعايش فيه الشرق والغرب، ويتنافسان، وربما — في نهاية المطاف — يتعاونان
حرب إرادات، لا تجارة فقط
في العصر الجديد للاقتصاد العالمي، لم تعد القوة العسكرية والخطاب السياسي تحدد الهيمنة. بل أصبحت الاستراتيجية الاقتصادية في الصدارة — وفي هذا المجال، يصطدم صبر الصين الاستراتيجي بقلق أمريكا المتزايد. عندما بدأت الولايات المتحدة في رفع تعريفاتها الجمركية، استعدت الأسواق العالمية للتصعيد. ومع ذلك، لم ترد الصين بذعر. بل ردت بكين بدقة محسوبة. وبينما توقع العالم إجراءات انتقامية، عدّلت الصين بهدوء تعريفاتها الجمركية على السلع الأمريكية المصنعة في الصين، فزادت بنسبة 84%. الآن، تواجه الصناعات الأمريكية المعتمدة على الإنتاج الصيني، بما في ذلك شركات كبرى مثل تسلا وفورد وجنرال موتورز وآبل، خسائر حادة وتقلبات في السوق. ويزداد وضوح ميزة الصين التنافسية — في الإنتاج منخفض التكلفة والشراكات العالمية المرنة — مع مواجهة هذه الشركات الأمريكية لتكاليف متزايدة ومستقبل غير مؤكد. لكن القصة الحقيقية أعمق من ذلك.
القوة الهادئة وراء تحركات بكين
بينما تواصل الولايات المتحدة تصعيد التعريفات والخطاب، تتسم استراتيجيتها خلف الكواليس ببعض التريث. فعلى سبيل المثال، علّقت واشنطن بهدوء التعريفات على واردات من دول لم تختر الانتقام — مرسلة بذلك رسالة عدوان انتقائي. وفي الوقت ذاته، رفعت الرسوم على السلع الصينية إلى مستويات “مانعة”، وقدمت عرضًا خفيًا: إذا تراجعت الصين عن إجراءاتها الانتقامية، فقد تفكر الولايات المتحدة في اتخاذ نفس الخطوة. هذا ليس عرضًا للقوة، بل محاولة ضمنية للتهدئة، تسلط الضوء على هشاشة الاقتصاد الأمريكي المتزايدة.
ومع بروز إشارات تحذيرية في الاقتصاد الأمريكي — من ارتفاع عائدات السندات إلى اضطرابات سوق الأسهم وتزايد الدين المحلي — تواصل الصين استخدام أدوات غير عسكرية قوية متاحة لها. تشمل هذه الأدوات: الحد من صادرات المعادن النادرة، والضغط على الشركات الأمريكية العاملة في الصين، والسيطرة على سلاسل التوريد الحيوية. علاوة على ذلك، تمتلك الصين نسبة كبيرة من الدين الأمريكي، مما يمنحها نفوذًا إضافيًا.
لكن بدلاً من الرد بشكل صارخ، اختارت الصين ضبط النفس. من خلال السماح للسوق بامتصاص العواقب المحتملة لهذه الإجراءات، تخلق الصين شعورًا بعدم اليقين في واشنطن. هذه هي عبقرية الجغرافيا السياسية في أبهى صورها — استخدام الصمت والاستراتيجية بدلاً من الضوضاء والتهديدات لتحقيق الأهداف بعيدة المدى.
نهاية حرب التعريفات؟
لم نعد نشهد مجرد “حرب تجارية” — بل تطورت إلى حرب إرادات. أصبحت الأدوات الاقتصادية هي الأسلحة الاستراتيجية الجديدة. لم تعد التعريفات مجرد ضرائب؛ بل رسائل مشفّرة يتم تبادلها بين أكبر اقتصادين في العالم، تمثل استعراضًا للصمود واختبارًا للصبر قد تضرب الولايات المتحدة أولاً، لكن الصين راضية بانتظار اللحظة المناسبة، تاركة قوى السوق لتتكلم بالنيابة عنها.
كلمة تحذير للأسواق العالمية
في خضم هذا الصراع المتصاعد، يتساءل الكثيرون ما إذا كنا على وشك موجة انتعاش في الأسواق، رغم التوترات التجارية. من الضروري التعامل مع مثل هذا التفاؤل بحذر. فالصراع الكبير القادم قد لا يُقاس بمصطلحات عسكرية أو بعدد الحاويات التجارية العابرة للحدود، بل بعدد النقاط المفقودة في الأسواق المالية، وثقة المستثمرين المدمرة، والاقتصادات التي سترمش أولاً.
قوة الصين الهادئة: اللعب على المدى الطويل
تمثل هذه اللحظة في التاريخ العالمي تحولًا في ديناميات القيادة. بينما قد تتسرع القوى الأخرى في تصعيد التوترات، تبقى الصين ثابتة، مستخدمة عمقها الاقتصادي وشراكاتها الاستراتيجية وصبرها كأدوات للاستقرار. لم تعد المعركة تدور حول التعريفات أو الأسهم — بل حول من يتحكم في اللعبة طويلة الأمد. وفي هذا السياق، يبدو أن الصين تمتلك الأفضلية، تلعب أوراقها برؤية واضحة ومدروسة
ومع مرور الوقت وارتفاع المد، هناك أمر واحد واضح: إن الصين لا تتحمل النزاع التجاري فحسب؛ بل إنها تضع نفسها في موقع القيادة في النظام العالمي الجديد.
هەلو حسن سعيد عضو في الاتحاد الدولي للصحفيين ومؤلف كتابين عن جمهورية الصين الشعبية.