موقع متخصص بالشؤون الصينية

أميركا والصين في انتظار تحولات حاسمة

0


صحيفة السفير اللبنانية:
جميل مطر:
يتصادف خلال هذا الأسبوع أن يعلن في كل من أميركا والصين عن رئيس جديد لكل منهما، وقد تتكرر هذه المصادفة كل عشرين عاما إذا لم تشهد الصين تغيرات جوهرية في نظام الخلافة السياسية، وفي الغالب لن يحدث، وإذا لم تشهد الولايات المتحدة تغيرات جوهرية في نظام الانتخابات الرئاسية وأسلوب الحكم، وفي الغالب لن يحدث.
لا أستطيع التقليل من أهمية الحدثين أو بمعنى أدق أهمية الحدث الواحد في حالتين. لا أستطيع لأسباب موضوعية وأخرى شخصية. أحدها يتعلق بعلاقتي بإحدى الدولتين. أنا شخص مهتم بالصين، ومنحاز لها حسيا وعاطفيا رغم التزامي قدرا محسوبا من الموضوعية عند التعامل مع قضية سياسية أو اجتماعية أو دولية تكون الصين طرفا فيها. كانت فترة الصين في مسيرتي هي الأشد قسوة ولكنها كانت في الوقت نفسه من أهم الفترات التي استفدت فيها خبرة وتجربة وثقافة. فرضت الأيام بعدها ابتعادي جسديا عن الصين ومع ذلك استطعت، وإن بصعوبة شديدة، مواصلة الالتصاق بالإنصات والمتابعة والمراقبة. لست نادما على كل حال على أنني كنت دائما واضحا وفي أحيان متهورا في إعلان اعتقادي بأن الفشل سيكون النصيب المحتوم لكل محاولات دول الغرب تكبيل الصين وعزلها عن العالم، وهي المحاولات التي بدأت في القرن التاسع عشر، وكان آخرها وقد عاصرتها في الصين، فرض الحصار الاقتصادي عليها وحرمانها من ممارسة مسؤولياتها كممثل لشعب الصين وكعضو دائم العضوية في مجلس الأمن.
لا شك بأن كلينا، الغرب وأنا، أدركنا مبكرا أن الصين إذا نهضت، اختل توازن القوى العالمي لغير مصلحة الغرب، وهو التوازن الذي يشكل جوهر السياسة الدولية منذ القرن السابع عشر. ولكن بينما اعتقد الغرب أنه المنتصر حتى إعلان نهاية التاريخ، كان اعتقادي المتواضع بناء على معايشتي لشعبين عظيمين في الهند ثم في الصين أن التاريخ سيعود فيميل لمصلحة الشرق.

يمنعني كذلك من التقليل من أهمية الحدثين وهما انتخاب سكرتير عام جديد للحزب الشيوعي الصيني ورئيس جديد لأميركا، ثقتي الكبيرة في صدق التقارير التي تتحدث عن حساسية، بل خطورة، أوضاع الدولتين في المرحلة الراهنة. إحدى الدولتين، وكانت الدولة الأعظم حتى وقت قريب، يتواصل معدل تراجع مكانتها لاعتبارات عديدة ليس أقلها أهمية عجز قياداتها السياسية ونخبتها المالية عن وقف الكساد وإعادة الاقتصاد إلى حالة أفضل. هذه الدولة، وهي الولايات المتحدة، أصاب نخبتها الحاكمة قلق شديد بسبب تعاظم حركة الاحتجاجات الاجتماعية في دول الغرب والعالم كله. صار أمرا واقعا الخوف السائد في العواصم الكبرى من تعدد احتمالات نشوب ثورة اجتماعية تهدد استقرار الغرب. تحاول أميركا قائدة العالم الرأسمالي والنظام الاقتصادي العالمي التنصل مسبقا من مسؤولية اشتعالها، وتحميلها لألمانيا خاصة وأوروبا عامة، بينما تحاول دول في أوروبا تحميل تراجع المكانة الأميركية هذه المسؤولية.
نجحت أميركا أكثر من مرة في تفادي نشوب انتفاضات اجتماعية داخلية. استخدمت وسائل شتى بعضها شديد العنف، كما حدث في حملة السيناتور مكارثي التي ردعت حركات الاحتجاج الاجتماعي في أميركا لعقود عديدة. جاء التهديد وقتها من خطر التوسع الشيوعي والسوفياتي. نجحت الحملة بفضل أمور كثيرة كان في مقدمها الاقتناع الشعبي بأسطورة أبدية الحلم الأميركي وجاذبيته. هذا الحلم ينحسر الآن تحت ضربات الكساد واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتصاعد نسبة الطبقات الأفقر في المجتمع الأميركي.
الرئيس الأميركي الجديد، وهو أوباما نفسه، لن يكون في وضع مريح. إذ يتعين عليه إقناع النخبة الحاكمة في أميركا خلال السنوات الأربع المقبلة بواقع انحسار مكانة أميركا إلى درجة قد تدفعها إلى القبول في أحسن الأحوال، بشراكة مع الصين في القيادة الدولية. يتعين عليه أيضا إقناعها، وهو الأمر الصعب للغاية، بواقع فشل هذا النوع من الرأسمالية والبحث عن بديل أقل قسوة ووحشية.

هناك، على الناحية الأخرى، يأتي، أو يستعد ليأتي، شي جينبينج Xl Jinping، سكرتيرا عاما للحزب الشيوعي الصيني، وبعد شهور قليلة يجتمع المؤتمر الشعبي الصيني، أي البرلمان، ليختار رئيسا للجمهورية محل الرئيس الحالي هو جينتاو. نحن أمام نمط مختلف في عملية الخلافة السياسية، جاري العمل به منذ انتهى عهد الرئيس ماو تسي تونغ وبدأ عهد الإصلاح الاقتصادي. يعتمد هذا النمط مبدأ تغيير الرئاسة كل عشر سنوات وتغيير القيادة، أي الجيل الحاكم، كل عشرين سنة. بمعنى آخر، بدءا من هذا الأسبوع حيث تجري الانتخابات لاختيار أعضاء مكتب سياسي جديد، ربما أقل عددا من أعضاء المكتب الراهن، ومن خلاله اختيار السكرتير العام للحزب، والدعوة لعقد المؤتمر الشعبي في آذار/ مارس المقبل للتصديق على اسم رئيس الجمهورية الجديد، يكون الحكم قد انتقل سلميا وبهدوء، وبتوازن دقيق للمصالح، إلى جيل جديد في الصين.
لن تكون مهمة القيادة الجديدة في الصين يسيرة كما لم تكن مهمة الرئيس دينغ في الثمانينيات يسيرة. تحمّل الجيل الأول مسؤولية تحرير الاقتصاد وبعض السياسة ونجح بتفوق تشهد عليه الخريطة السياسية للصين والخريطة الاستراتيجية للعالم. أما الجيل الجديد الذي يجري انتخابه هذا الاسبوع فسيتولى مسؤولية مواجهة الآثار الأربعة السلبية التي أثمرتها عملية النمو الاقتصادي المذهل، وهي الفساد والفجوة في الدخول والهجرة من الريف وتلوث البيئة. هي نفسها الأسباب التي تدفع الآن ملايين الناس في الصين للخروج إلى الشوارع والمطالبة بحقوق اجتماعية وسياسية لم تتوافر لهم، يريدون مساكن، ويريدون تعليما راقيا وبخاصة بعد أن تفتحت عيونهم على ثورة معلوماتية ورقمية مذهلة. لم يعد المواطن الصيني العادي يرضى بما حباه به نظام الرئيس ماو من رعاية صحية عند حدها الأدنى ولكن يتمتع بها نسبة كبيرة من المواطنين. يريدون أكثر ويريدون الأفضل ويريدون حرية شخصية سياسية ويريدون شفافية وحقا في مراقبة سلوكيات النخبة الحاكمة.

في الحالتين، الحالة الأميركية والحالة الصينية، يأتي رئيس ملتزم باتخاذ قرارات مصيرية. الرئيس القادم في أميركا مجبر على إعادة صياغة البيئة السيكولوجية والذاتية للشعب الأميركي ونخبته الحاكمة، وأقصد بهذا تغيير تصورهم لأنفسهم ومكانهم في مجتمع الأمم، بحيث يكونون أقدر على استيعاب واقع انحسار دور أميركا في العالم والحاجة الماسة لإدخال تغيير في منظومة المؤسسات الدستورية الأميركية والعلاقات بينها. بمعنى آخر أقل ديبلوماسية، رئيس مسؤول عن تأمين عملية انحدار المكانة الأميركية.
الرئيس الصيني القادم ملتزم هو الآخر باتخاذ قرارات مصيرية. بعض هذه القرارات يتعلق بدعم الإنجازات الاقتصادية التي تحققت وتحرير السياسات الداخلية وابتكار وسائل «حزبية» وسياسية لتطهير مؤسسات الحزب الشيوعي أولا بأول وعدم الانتظار إلى مواعيد تغيير الجيل الحاكم. هذا الرئيس الجديد مسؤول أيضا عن إعادة صياغة نظام توازن القوى الاقليمي، بعد أن صارت الصين الدولة الأعظم القابضة على هذا التوازن. بمعنى آخر أقل ديبلوماسية رئيس مسؤول عن التمهيد لإحالة اليابان كقوة عالمية الى الاستيداع وتطوير آليات تضمن التحكم في مستقبل استراليا عن بعد. الصين، على عكس أميركا، تنتظر الرئيس المسؤول عن تأمين عملية صعود المكانة الصينية.

كاتب سياسي ـ مصر
تنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.