من داخل الصين: شاهد عيان على نهضة تكنولوجية تخطّط لمستقبل العالم
موقع الصين بعيون عربية – أسامة مختار:
خلال إجازتي السنوية لهذا العام التي قضيتُها بين المملكة العربية السعودية وبلدي السودان، كانت أسئلة متشابهة تترددُ على ألسنة الأصدقاء كلما التقينا، بصيغ مختلفة ونبرة واحدة من الدهشة: كيف استطاعت الصين أن تحقق هذا التقدم التكنولوجي اللافت؟ ، وكيف استطاعت في سنوات ليست بالكثيرة، أن تسبق دولاً راكمت تقدمها التقني لسنوات طويلة ؟ كيف أصبحت الروبوتات في مصانعها تبهر العين، وسياراتها الكهربائية تجوب العالم، ومتاجرها التي لا يعمل بها بشر تقدم تجربة شراء أقرب للسحر؟. أسئلة لم تك عابرة ، بل تعبيراً عن فضول عميق إزاء تجربة صعدت فيها التكنولوجيا من كونها أدوات صامتة إلى شريك فاعل في تفاصيل الحياة اليومية، تقود التنمية، وتعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والآلة.

نظرتُ إلى وجوههم المتلهفة، وابتسمتُ، هذا السؤال نفسه كان يَشغلُنِي قبل سنوات، حين خطوت أول مرة إلى أرض هذا البلد الذي كان بالنسبة لي آنذاك لغزاً ضخماً حكيتُ لأصدقائي مجيباً عن أسئلتهم التي فتحت باب الذاكرة، ودفعتني لأن أدوّن هذه التجربة كما عشتُها وشهدتُها. قلت: تخيلوا معي شعباً، بكل بساطة، يرى في التعليم سلاحاً لا يقل عن الغذاء في أهميته. في كل حي، في كل قرية نائية وُصِلت بالكهرباء والإنترنت، ترى الأطفال وكبار السن يتعاملون مع الشاشات الذكية ليس كرفاهية، بل كأدوات عمل وحياة يومية. ليست القضية في وفرة المال وحده، فدولٌ أخرى تملك المال. القضية في أن تكون التكنولوجيا جزءاً من نسيج الحلم الجمعي. حلم واضح رسمته القيادة برؤية استراتيجية تعتبر الابتكار هو الدم الجديد للتنمية المستدامة، ووضعت خططاً خمسية تتحول فيها الأوراق إلى واقع ملموس.
قبل عامٍ من انطلاق دورة الألعاب الأولمبية عام 2008م في بكين ، شكّلت الاستعدادات المكثفة لها نقطة تحول حقيقية في مسار التحديث التكنولوجي بالصين، حيث تسارعت مشاريع البنية التحتية والرقمنة. ومنذ بدء عملي في الصين عام 2009، لمستُ امتداد هذا الزخم؛ فبرزت أولًا الهواتف الذكية والإنترنت السريع، ثم ما بين 2013 و2016 انتشرتْ أنظمة الدفع الإلكتروني والتجارة الرقمية. ومع 2018 دخلت السيارات الكهربائية والروبوتات الخدمية الحياة اليومية، لتتسارع بعد 2020 م تطبيقات الذكاء الاصطناعي ، والطائرات المسيّرة، وعربات التوصيل الذاتية في مشهد يعكس قفزة نوعية جعلت التكنولوجيا جزءًا أصيلًا من تفاصيل الحياة والعمل في الصين.

هذه السرعة الفائقة في تحويل المعرفة إلى منتج هي إحدى المعجزات غير المنظورة. إنها ثقافة الفعّالية، أى أن ننجز ما يجب إنجازه، في الوقت المناسب، وبالطريقة الأنسب التي لا تتوقف عند حد الإعجاب بالفكرة، بل تتعداها إلى تنفيذها العملي الفوري. هنا لا مكان للبيروقراطية المعقدة التي تخنق الابتكار في أماكن أخرى، بل توفر مسارا سريعا ومضاء للمبتكرين. ثم أضفتُ في إجابتي : لا تنسوا حجم وقوة السوق الداخلية. عندما تجرب تقنية جديدة على مليار ونصف المليار إنسان، فإنك تحصل على كمية بيانات هائلة، وتتعرف على مشاكل وتحديات قد لا تظهر في سوق أصغر. هذه التجربة العملية الضخمة هي ما يُعطِي المنتج الصيني تلك المرونة والقوة. فالروبوت الذي يخدم المطاعم في شنغهاي قد يكون تدرَّبَ على ملايين الطلبات قبل أن يُصدَّر إلى العالم. والسيارة ذاتية القيادة تجوب شوارع مدن معقدة ومزدحمة، فتتعلم في أشهر ما قد تحتاج إلى سنوات لتتعلمه في بيئة أقل تعقيداً.
لكن السر الأعمق، كما أرى، هو النظرة الشمولية. التكنولوجيا في الصين ليست غاية في حد ذاتها، بل هي أداة لحل مشاكل كبرى: مشكلة الازدحام المروري، مشكلة تلوث البيئة، مشكلة كفاءة الخدمات الطبية، مشكلة إدارة الموارد الشحيحة.
عندما يكون دافعك هو حل مشكلة حقيقية تواجه شعبك، وليس مجرد تحقيق أرباح سريعة أو إبهار تقني عابر، فإن إبداعك يأخذ منحى آخر أعمق وأكثر استمرارية. هذا الربط العضوي بين الابتكار وتحسين جودة الحياة اليومية للمواطن البسيط هو ما يضفي على هذه النهضة التكنولوجية روحاً إنسانية وشرعية شعبية.
وانتهيت بالقول: لقد فهِمتْ الصين أن معركة المستقبل هي معركة العقول والأفكار فاستثمرتْ في عقول أبنائها واستقطبت العقول من كل أنحاء العالم، ووفَّرتْ لهم مختبرات هي أشبه بمدن المستقبل. لم تكن المنافسة مع الغرب أو اليابان هي الهدف الأصلي في حدِّ ذاته، بل كانت نتيجة حتمية لهدف أكبر: بناء قدرة ذاتية تحفظ كرامة الأمة وتضمن رفاهية أجيالها القادمة.
إنها قصة نهضة تقنية وُلِدتْ من رحم الإرادة السياسية الواعية، والثقة الثقافية المتجددة، والعمل الدؤوب الذي لا يعرف الكلل. في اعتقادي تلك هي إجاباتي المستمدة ليس من الأرقام فقط، بل من ومضات الحياة اليومية التي عشتُها وشاهدتُ فيها المستقبل يُولد بين أيدينا.
أسامة مختار
خبير بمجموعة الصين للإعلام
